محمد ولد محفوظ يرد ضمن سجالات بينه و الأستاذ مصطفى ولد اقليب
الزمان انفو ـ سأبدأ المقال الذي أردتَه نهاية لحديثنا – والحديثُ معك يحلو على أيّ حال – بما جعلتَه خاتمة لحديثك، إذْ انتابني شيء من الاستغراب من دعوتك إلى ضرورة الإدلاء بأفكار وتقديم حلول، وكأنّي طارقٌ الموضوعَ أوّل مرّة، أو كأنّك غير مطّلع على ما قدّمتُ فيه من قبلُ، أو ما أنت بحاسبٍ إسهامي – على تواضعه
– في عداد الأفكار والمقترحات! وأيّا تكن الصورة فموقفي باختصار هو ضرورة هدم البنية الاجتماعية التقليدية، وما يصاحبها من ثقافة استعلائية ظالمة، تدفع بعضُ الشرائح فاتورتَها مؤلمةً، هدمُها لإعادة بنائها على أسس العدل والمساواة والإنصاف، والوسيلةُ تحريكُ سواكن الحياة النمطية المتوارثة، عبر عملية خضّ قويّة للقوالب الاجتماعية الجامدة، لتتحوّل إلى نسق اجتماعي متحرّك ومتطوّر، يغيّر القيم والمبادئ والأهداف، كما يغيّر السلّم التراتبي النمطي، سعيا إلى نتيجة تخدم الدين والعقل وطبيعة المرحلة، وهي استبدال المكانة الموروثة بالمكانة المكتسبة. وظنّي أنّ اختراق البنية التقليدية وثقافتها الظالمة لصالح مشروع الوطن والمواطن، هو مسؤولية الدولة أوّلا، واستراتيجياتها السياسية والتنموية وقطاعاتها التربوية والإرشادية والاعلامية، ولكنّه أيضا مسؤولية قادة الفكر والرأي والكتّاب والشعراء والفنّانين والمسرحيين… ولو استقال طرف من هذه الأطراف عن القيام بدوره، فذلك لا يسوّغ استقالة بقية الأطراف. ذاك موقفي باختصار ما ساومت فيه ولا استكنت ولا سكتُّ، بل استخدمت ما لديّ من سلاح اللسان والقلم، لكنّني مع ذلك ما تطرّفت، ولا دعوت إلى حرق المراحل، ولا استعجلت النتائج، ولا قابلت ظلما بظلم، ولا قبلت أن أستظِلّ إلاّ بمظلّة الوطن الحاضر في وجداني، و إن كان غائبا – للأسف – في صورته المثلى عن عينيّ، وعلى من يدّعي غير هذا الكلام تقديم البيّنة. أما الخروج عن دائرة الشعور بالنقص، فلِيَ فيه قراءة أخرى، أساسها ضرورة إثبات الذات ورفض التنكّر لها، دون نرجسية أو كبر أو بطر، أو غمط بقيّة الناس ما هم أهلُه من التقدير والاحترام، بل تلزم رعاية حقوق الدين والوطن والإنسان مهما كانت الظروف. صحيح أنّ الظواهر الاجتماعية كما قلتَ لا تتغيّر بسهولة، لكنّني متأكّد بالمقابل أنّها ما لم تتغيّر بتدبيج الخطب وكتابة المقالات والتدوينات، فلن يغيّرها الرضى “بالقعود أوّل مرّة”، أو الاستكانة إلى “بيات شتوي” ليْلُه يطول. نحن لا نمتلك يا صديقي القطع العسكرية لنحرّكها – على طريقة الجيش عندنا – فنقلب بها الأوضاع خدمة لمشاريعنا الإصلاحية الكبرى، وما لنا من وسيلة غير الكتابة والخَطابة. ولئن كنتَ شهدتَ بعض المتباكين، قلوبُهم من حجر، لا تؤثّر فيهم عبرة ولا يرتدعون بموعظة، فلقد اعترفتَ أيضا بأنّك عرفتَ بعضَ الوقّافين عند الحقّ، القائلين “سمعنا وأطعنا” كلّما بدت لهم الحقيقة ساطعة كالشمس في رابعة النهار، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، وذكرتَهم في المقالة السابقة، حين تحدّثتَ عن الشباب الطيّب المنحدر من كلّ الشرائح، والذي بات اليوم يتابع ويراقب ولا يرضى بغير العدل والمساواة والإنصاف، ورغم ذلك كلّه، فالمبدأ في نظري هو “ليس عليك هداهم” وإنّما المطلوب بيان الحقّ و”الرمي بحجر في البركة الآسنة” عسى أن يُحدِث الله بعد ذلك أمرا. نعم علينا أن نزرع الورود و نرفع الأشواك لتنعم الأجيال القادمة بحياة أفضل خالية من بذور الظلم والكراهية، وتبقى وسيلتنا إلى ذلك نحن أُلاَءِ خاصةً محصورة في القلم واللسان. ثم إنّي ما ساعدتك بشيء، وحاشاك من الفرار! أما الأولى، فإني إنْ تصدّيت للنيل من كرامة أي مكوّن من مكوّناتنا الوطنية المحترمة، فلا أعمل ذلك مجاملة لصديق مّا أو مخاصمة لعدو بعينه، وإنما أنازل ثقافة سائدة راكمتها الحقب وكرّسها المجتمع، وأنا في هذه المنازلة أقوم بما تمليه عليّ قناعتي الراسخة ويتطلّبه منّي الواجب الديني والوطني والأخلاقي، وقد رددتُ على فضيلة الشيخ قبل ردّك عليه – وإن كانت الأسبقية هنا زمنية لا نوعية – ومن قبل ذلك أنعشتُ الندوات والمحاضرات وأجريت المقابلات الإذاعية والتلفزيونية وخضت المسجلات، وكتبت المقالات والتدوينات، كلّ ذلك دفاعا عن أيّ إنسان أعتبره مظلوما على هذه الأرض بصرف النظر عن شريحته أو لونه أو عرقه، ما انتظرت في ذلك شكرا ولا خشيت لوما من أحد، ورغم أنّ بضاعتي في هذا المجال قد تكون مزجاة لكن المبدأ يظلّ دائما “على المرء أن يسعى ويبذل جهده** وليس عليه أن يساعده الدهر” . وأما الثانية فقد ثمّنتَ دور الشباب في مواجهته العقليات البائسة واعتبرتَ أنه تسلّم الشعلة بعدما تعب المناضلون القدامى و”شاخوا”، ورغم تحفّظي على فكرة تَعَب المناضلين وشيخوختهم، لكنّني شاطرتُك فكرة نهوض الشباب بالمسؤوليات وأثنيتُ عليها، ثمّ استدركت بأنّ علينا نحن الكهول – ولا أرغب هنا بنفسي عن نفسك يا صديقي – ألاّ نكرّر خطأ “الراجل الفايت اللي جاه لوخر ليهي اعاونو افقبر امو اهرب عنو بواجيل”، فرأيي أنّه ليس على المناضلين القدامي، وقد وجدوا من يعينهم ويتحمّل عنهم جانبا من العبء أن يستقيلوا، ويتركونهم وحيدين في الميدان، وإنّما عليهم أن يؤازروهم ويشدّوا على أيديهم سعيا إلى تحقيق نتائج أفضل، هذا ما أردت. ختاما، أعرف أنّ الخلاف ما زال قائما، وإن عبّرتُ عن سروري بتقارب المواقف، لكنّي لم أدّعِ أنّه حسم، بل لا أتمنّى حسمه – على الأقل في الظروف الحالية – لأسفيد مع غيري من إطلالاتك الفكرية والثقافية وارفة الظلال. تصبح على خير صديقي العزيز. Moustapha Ould Glei
من صفحة الأستاذ محمد ولد محفوظ