متتالية الجسد السردية دراسة في مجموعة (تراتيل الماء )

الزمان انفو ـ يقول الدكتور ضياء غني العبودي في نصه التحليلي”متتالية الجسد السردية” التي نحن بصدد مشرها لقراء طالزمان” الكرام :” ..نحن ( نعيش عبر جسدنا ونعبر عن وجودنا من خلاله . ونظهر للغير الذي نتواصل معه : جسدنا ، ونشهد على حقيقة ما ، وفي وضع معين بجسدنا فيحق لنا أن نقول هنا : إننا نتواصل جسدياً ) .[6] بل ( أن كل القيم ، كل أشكال الحب والكراهية والحقد والمحبة والنبل والانحطاط ، يبرزها الجسد أو يبرز لها” .

 

وهدا نص الدراسة كاملا:

متتالية الجسد السردية

دراسة في مجموعة  (تراتيل الماء ) قصة ( س ص ع لعبة الأقدام ) اختياراً

 

 

 

  الأستاذ الدكتور : ضياء غني العبودي

م. باحث  : ميثم هاشم طاهر الموسوي

تمهيد

         إن أي لغة في العالم تهدف إلى تحقيق ( التواصل والتفاعل ) إذ إن وظيفة اللغة الأساسية هي ( التعبير عن الأحاسيس وتبليغ الأفكار من المتكلم إلى المخاطب، فاللغة بهذا الاعتبار وسيلة للتفاهم بين البشر وأداة لا غنى عنها للتعامل بها في حياتهم ) [1] .

         وهناك لغات غير لفظية يستطيع أن يتواصل بها الإنسان ويتفاعل مع العالم بأسره بل وتكون لغات عالمية تسمو على اللغات اللفظية التي تختلف حسب الأقوام … كلغة التشكيل والموسيقى ولغة العطر ولغة الإشارة ولغة الجسد ..

          فلغة الألوان تحدث التواصل والتفاعل بين اللوحة والمتلقي أو لغة الألحان بين الموسيقي والمتلقي فاللون والنوتة لغتان يحققان التواصل والتفاعل .

          ( ويتوقف فهم عملية الاتصال على فهم مادتها أي على فهم الرسالة من حيث محتواها وأهدافها وهي تتكون من فكرة أو أفكار، أو صورة.. وهي تتأثر بطريقة صوغها. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد فالمرسل هو إنسان أو آلة أو برنامج أو مبرمج ومن حيث هو كذلك فإن طبيعته تؤثر في الرسالة ذاتها فإن كان إنساناً محدداً أو قائماً على برنامج ما فإن لبنيته الشخصية (العقلية والنفسية والجسدية، حالة النطق مثلاً) أثرها في الرسالة وبالتالي بالعملية ذاتها.. وكذلك الأمر بالنسبة للمتلقي أو المرسل إليه )[2].

          أما الجسد الذي يعد ( كائن قائم على متعالق كوني، له خاصیة تجسید جمالي ذات معان دالة ).[3] فإشاراته منظومة لغوية ( صامتة ) ، يقف فيها اللسان ويجمد ويبدأ الجسد في حركات تعبر عن معنى ، ووظيفتها التواصل مع الآخرين والتفاعل ..إذ إنّ ( التناقل بواسطة الإشارات والأوضاع أو الحركات لغة قائمة بذاتها ، لها مواصفاتها ومعانيها ومدلولاتها الخاصة وقد تمارس هذه اللغة ـ لغة الجسد ـ إما بالتلازم أو بالترافق مع لغة اللسان أو بالاستقلال عنها ، ولعل لغة الجسد اصدق وأدق تعبيرا عن بواطن المعاني من لغة اللسان ) [4]

 

*******

أولا ً : لغة الجسد والسرد

      إن كل بنية سردية تعتمد الحوار في تشكيلها إلاّ أن ثمة سرد لا يعتمد الاتصال اللفظي عبر الحوار ، ويكتفي بالاعتماد على الوصف الحركي الذي يتنامى السرد معه ، وبعض المسرودات تعتمد على حركة الجسد ، بوصف الجسد ( خطاب معرفي فضلا عن انه دال ثقافي ومرتسم جمالي …. يخضع إلى تحليل أو تفكيك لوحاته النسقية ) . [5]

       إذن فنحن ( نعيش عبر جسدنا ونعبر عن وجودنا من خلاله . ونظهر للغير الذي نتواصل معه : جسدنا ، ونشهد على حقيقة ما ، وفي وضع معين بجسدنا فيحق لنا أن نقول هنا : إننا نتواصل جسدياً ) .[6] بل ( أن كل القيم ، كل أشكال الحب والكراهية والحقد والمحبة والنبل والانحطاط ، يبرزها الجسد أو يبرز لها )[7] .

هذا ما وجدناه في تحليلنا لقصة ( س ص ع لعبة الأقدام ) للقاصة الأردنية سناء شعلان . إذ تنمو القصة بسردها متوسلة بذلك القاصة بالجسد كأداة للتواصل غير اللفظي ، حتى إن لعبة الأقدام هي لعبة جسدية بامتياز ، تعتمد على اللعب ، اللعب الطفولي ، فالطفل ( هو العمق الحركي للمشهد : يكونُه ويكوّنه ، فهو الاستثناء حيث يتحول العالم ليس بين يديه فقط لعبة طافحة بالبراءة . )[8]

 إذ تقول في هامش القصة : ( هي لعبة للفتيات في الأردن وفلسطين ، تمسك الفتيات فيها بأكف بعضهن ، ويدرن في حلقات بشكل دائري ، ومن يداس على قدمها تخرج من اللعبة ، ويكون الفوز لآخر من تبقى اللعبة دون ان تداس قدمها ) [9].

           ونحن لو تتبعنا الأفعال الجسدية للشخصيات لرأينا إن حدث القصة ينمو سرداً جسدياً ، إذ عدم اعتماد القاصة على الحوار ( أي الاتصال اللفظي ) جعلها بالضرورة تعتمد على الاتصال غير اللفظي كآلية لنمو الحركة السردية وإلاّ فانعدام الحركة يعني موت القصة فالقصة تحيى بأحداثها والأحداث تنمو بتعاضد السرد مع الحوار ولأنها لم تعتمد الحوار بالتالي فإنها اعتمدت الجسد بالتواصل فأصبح لدينا سرد بلغة الجسد أو قصة تنمو بتعاضد السرد والجسد .

       كما إننا لا ننسى إن الفني ( المبدع هو الذي يوفق إلى استبطان خوافي النفس الإنسانية … وإبرازها والتعبير عنها بقوة وصدق )[10] وهذا ما سنراه في تحليلنا لهذه القصة ، إذ وفقت القاصة بإبراز الخوافي الإنسانية والتعبير عنها بصدق وقوة لكن ليست بلغة اللسان بل بلغة الجسد .

 

******

ثانياً : تحليل السرد بالجسد

توطئة القصة

        ثمة صمت يبنى عليه السرد في قصة ( س ص ع لعبة الأقدام ) إذ إن القصة في كل مستوياتها تنمو أفعالها وأحداثها دون حوار ، ويكون الاتصال بين شخصياتها عبر الصمت وبين الباث والمتلقي القارئ يتحقق اتصالات صامتة عبر علامات وإشارات تحققها الحركات والأفعال التي تصوغها القاصة .

         كذلك حركات اللعبة بحد ذاتها فضلاً عن عدها إشارة للطفولة إلاّ أن القاصة تحولها إلى لعبة للمنكسرين للأطفال ( الكبار ) .

         تبدأ القصة ب ( مسموح ) اسم مفعول يدل على المجهول إذ يسمح بكل شيء في هذه اللعبة : ( مسموح بكل شيء في لعبة الأقدام ، مسموح بتعالي الضحكات ، مسموح بتهادي الأجساد وبتعرق الأبدان وبشهوة الغناء والسخرية حتى إنه مسموح بالارتداد إلى زمن الطفولة أما فرحة لقاء الأقدام فممنوعة وملعونة وآثم من يقتنصها .. )[11] .

         فتعالي الضحكات يعني ذلك الفرح الطفولي الذي لا يبالي بأحزان الكبار ..وتهادي الأجساد يرمز للأجساد الطفولية التي تتهادى دون حياء ، فالطفولة شيء ينافي الحياء ..وتعرق الأبدان يرمز للفرح الكبير الذي يصل حد العرق فالعرق علامة التعب والإعياء لكنه التعب في اللعب والعرق في اللعب يعني الانغماس الكبير بالبهجة .

        إذ إن ( الضحك يؤدي دوراً كمؤشر للعب وأنه أمر أساسي للنشاط الاجتماعي الذي يضمن وجود رفيق في اللعب ) . [12]

         كما أن للطفولة شهوة لكنها غير مدنسة في الغناء والسخرية ، سخرية بحجم أجسادهم فلا هي تستغرق أبعاداً أخرى ولا هي ترتد إلى التجهم فهم ساخرون بحجم أجسادهم .

          أما الارتداد في زمن الطفولة فهذا من حق الكبار لا الصغار وكأن القاصة تريد أن تقول أن للكبار علاقة وطيدة مع لعب الطفولة ولاسيما إذا كانت تلك الألعاب ترتبط بحالة خاصة معهم كما سوف نرى في المستويات الأخرى للقصة ..

         أما الشيء الممنوع فهو اللقاء ..  لقاء الأقدام ! هل نحن بصدد لعبة يلعبها الأطفال في الشام أم شيء آخر ؟

******

 

 

 

المستوى الأول :

( س / القدم العرجاء تهوى لعبة الأقدام أيضاً )[13]

       ومن العنوان تدخلنا القاصة في مفارقة فالقدم العرجاء تهوى لعبة الأقدام تلك اللعبة التي ليس للقدم العرجاء أي حظ في ممارستها مما تشعرنا بسيطرة أجواء الحزن في النص القصصي .

الضحكات والأصوات .

       تبدأ القصة بفعل ( اللا معرفة ) إذ ( لم تعرف يوماً معنى ( س ص ع ) التي كانت تلوكها ضحكات أترابها )[14] ، ثمة ضحكات تدل على فرح حرمت منه تلك العرجاء ، فرح تلوكها أترابها وهن يلعبن لعبة ( س ـ ص ـ ع ) هذه الأصوات التي لا تعرف لها معنى إلاّ إنها ترتبط بحزن يقابله فرح أترابها … أصوات ( متحررة من رداء الجمل والمعاني المدركة )[15] وكأن الساردة تريد أن تقول إن أصوات اللعبة ( س ص ع ) هي لعبة الدال والمدلول تجمعها اعتباطية الاسم فما علاقة س ص ع بلعبة الأقدام .

        لكن صاحبة القدم العرجاء ( تدرك ) إن هذه الحروف دون غيرها من حروف كلام البشر قد ارتبطت عندها بالحرمان والعجز وبقدمها العرجاء على غير استحياء ..

الجذب الذليل والانحناء

       إنها منكسرة ، ثمة عجز واستسلام في جسدها ، يتضح ذلك من حركات جسدها (…الجذب الذليل .. الانحناء ) : ( إذ كانت قدما عرجاء بتبجح تعجز عن ان تداريه ، فتجذبها  بذل نحو الأرض وتحني عمودها الفقري …. ) [16] .

         لكنها تظل تحلم باللعب ، لا تحلم بأن تكون لديها قدم كقدمها الأخرى سليمة بل تحلم باللعب ، وهذا الحلم في اللعب يؤثث انكسارات وأحزان لا فكاك منها تظل تصاحبها حتى لو تجاوزت مرحلة الطفولة … إنها تحلم باللعب لا تحلم بشيء آخر ..

إسناد الظهر على الحائط  والتلصص

          ثم ترسم لنا الساردة فعلاً جسدياً درامياً حزيناً يحقق اتصالاً غير لفظي بين الطفلة ذات القدم العرجاء وبين تلك اللعبة ـ الحلم وبين الساردة والقراء .

          ( لطالما أسندت ظهرها المقوس على الحائط ) [17]صورة الإسناد الذي أفرزه الجسد فعل يبتنى عليه المستوى الأول كما إنه مدعوم بحركة جسدية سردية أخرى .. إذ وهي مسندة ظهرها على الحائط ( تتلصص طويلاً على الأيدي الصغيرة التي تمتد بعشوائية لتمتص بتعرق ثر أكفاً أخرى وترمي بأجسادها الغضة الصغيرة المكسوة بأثواب الطفولة البريئة في دوائر الريح التي تشكلها حركاتهن البهيجة وتعلوها ضحكاتهن التي تحجب قرع وجيب قلوبهن المشتعلة بحرارة اللهو والتقافز والمتوقدة بضربات أقدامهن بالأرض ) [18].

          إن فعل التلصص يعبر عن حالة من الانسحاق النفسي الذي لم تعبر عنه القاصة الا عن طريق أفعال وحركات جسدية تدلنا وتتحول إلى علامات وإشارات نتلقاها ، نتواصل معها ونتفاعل ففعل الإسناد يعبر عن انكسار في قلب الفتاة العرجاء وفعل التلصص الطويل المغطي لمشهد اللعب كله يعبر عن ( سرقة )  طفولية وكأنها تستحي النظر مباشرة ، تخشى أن يراها أحد وهي تنظر لتلك اللعبة ، تخشى أن يعطف عليها أحد أو تخشى أن تستدر عطف أحد لهذا فهي لا تنظر لمشهد اللعب لكي لا تُرى وهي تنظر بل هي تتلصص والتلصص في المعاجم العربية يعني السرقة يقول ابن منظور في لسان العرب (والتَّلَصُّصُ ولِصٌّ بَيِّنُ اللَّصُوصِيّة …. وهو يَتلَصّصُ ) [19] إلاّ أن الساردة هنا تشير إلى إن التلصص سرقة أو اختلاس النظر ….

مشية العرجاء

       ثم بعد هذه الحركات يأتي فعل ( التتابع في السير ) ومن هذا التتابع الشاذ بوصفها عرجاء يولد أمنية فيها أن تكون قدمها العرجاء طيبة طائعة لا لشيء سوى لتظفر بفرصة لعب واحدة مع الصغيرات …

       ما أشد أساها ، لو أن الطفلة ملكت قدماً سليمة فقط لتلعب .. لتلعب ولها الحق في اللعب ، تريد اللعب وفك أبجدية ( س ص ع ) لكن بعد قدمها عن قلبها جعله يجهر بكل الأمنيات المؤجلة إلا أمنية قدمها العرجاء فقد ظلت بكماء .[20]

       كانت تحكي عن كل أمنياتها المؤجلة ولا تتكلم عن تلك الأمنية في اللعب ، إنها في المكبوت وهذا ما يعزز ويفسر فعل ( التلصص ) الذي مارسته وهي ترى الصغيرات يلعبن في الحارة .

وبتقنية تسريع السرد قفزت الساردة عشرين عاما عاشتها العرجاء بحزن وانكسارات ثم ينمو السرد ( وتاريخ مدم يعلوه صوت خطواتها غير الرتيبة التي تملك تتابعها شاذا ليس كسائر تتابع الخطوات السوية حتى يكاد يكون بصمة مميزاً لشقائها ) [21]

      هنا تكون المشية علامة للشقاء و آيقون لحياتها لأن الآيقون أو المثل تقوم العلاقة فيه على التشبيه فالرسم هو شبه المرسوم والتمثال هو شبه للمنحوت . [22] فالمشية ( حركة جسدية ) غير الرتيبة ذات الصوت المتناشز تدخل في علاقة تشابه  مع حياتها غير الرتيبة الشقية . وصوت الخطوات الذي يتتابع بشذوذ  يعبر عن اتصال غير لفظي بين البطلة والآخرين وبين الساردة والقارئ .

الضحكات والأصوات

        بعد عشرين عاما لم تنس العرجاء  لعبة ( س ص ع ) التي توارثتها طفلات الحي الشعبي ، لم تنسها لأنها حرمت منها . لذا فكل الأصوات تنسى وتتلاشى إلاّ صوت ضحكات الصغيرات المتوجة ب ( س ص ع ) ، إن صوت ضحكات الصغيرات هو المعادل لحرمانها وحلمها المفقود ولو أنها كانت سليمة القدمين للعبت ولانتهت هذه المشاعر المؤلمة ، لكنه حلم طفل وأحلام الطفل إذا لم تتحقق ستبقى في خلده حتى لو كبر …

       فهذه الأصوات لم ترحل مع ذلك الزمن الراحل دون استئذان ( سنوات الطفولة وبواكير الصبا ) كبرت وصار لها زوج تخشاه وصار لها أطفال ( تتفقد ) أقدامهم وفعل التفقد فعل حركي جسدي بنت عليه إحساس داخلي فهي تتفقد أقدام أطفالا في لحظات ولادتهم إذ ترعبها فكرة الأقدام والخطوات العرجاء … تقطع الحارة يومياً ذهاباً وإياباً ( تتمنى وتسب وتنسى ما تتمنى وما تسب … إلاّ لعبة الأقدام فهي لم تنسها )[23] ..

      ثم تستخدم القاصة مونولوجاً : ( كم ستكون الحياة أجمل لو أنني حظيت ولو مرة واحدة بلعبة ( س ص ع ) ) .[24]

الابتسامة

       تشفع ذلك المونولوج بابتسامة ممطوطة في صفحة وجهها ، إذ (  يجد الناس أنفسهم في حالة اجتماعية مربكة أو غير ملائمة …. ولا يدرون كيف يخلصون أنفسهم بتظاهرهم بالابتسام إنما يبتاعون الوقت )[25] .

زفير وعيون زائغة

       ثم تسحق أمنيتها القلقة بالزفير الشديد المعبر عن فقدان الأمل أو خروج الحلم مع الزفير ..  وآخر مشهد في المستوى هو مشهد التتابع بعينين زائغتين دلالة على الصراع بين اختلاس النظر إلى مشهد اللعب وبين غض النظر وعدم الاكتراث لكن العيون الزائغة دلالة الاضطراب والحيرة كما إن التتابع الشاذ يوحي بالقلق ويدل على اضطراب روح العرجاء وعدم هدوئها وقلقها الدائم ، إنها تتابع وستبقى إلى الأبد تتابع إلى أن يتحقق حلمها بفرصة لعب لمرة واحدة .

 

*******

المستوى الثاني :

(( ص ) الضفائر السوداء تتقن لعبة الأقدام [26]

       ثمة تباين بين عتبة المستوى الأول ( العرجاء تهوى لعبة الأقدام ) المعبر عن حلم عاجز وبين عتبة المستوى الثاني ( تتقن لعبة الأقدام ) فالإتقان والعجز فعلان جسديان  .

       يبدأ المستوى الثاني بوصف فوتوغرافي ( صبية ضفيرتاها سوداوتان تداعبان وجهها القمري الملبد بغيوم حمرة وجنتيها وتنزلقان بشبق خرافي على ردفيها الصغيرين .. )[27]  .

      وهذه الصورة الفوتوغرافية يتلقاها ( رجل ـ صبي ) إذ يتوقف ذلك الصبي تماماً عندما تبدأ لعبتها مع طفلات الحي .

الوقوف

      فوقوف الصبي علامة على رفيف قلبه وحبه الطفولي لتلك الطفلة التي تمارس لعبة ( س ص ع ) فبين الوقوف والممارسة يتحقق اتصال من طرف واحد ، يتفاعل طرف دون أن يعرف الطرف الآخر بالأمر .

اتساع حدقتي العين

     ( تتسع حدقتا عينيه حتى تكادان تبتلعان رذاذ ضحكاتها  )[28] واتساع الحدقتين يدل على الحب والعاطفة الطافحة ، ويبقى صامت والصمت يوحي بالكثير من الحب والحزن إذ إنه لا يعرف الكثير من كلمات العشق وتخونه الكلمات … كما ( تذله ملابسه القديمة المنكودة بطلاء السيارات وسخام العودام .. )[29] فهو يحلم أن تكون لديه يدين نظيفتين لا تجلدهما قاذورات المحركات ، فقط ليمسك يد من يحب في لعبة الأقدام ، كما إنه حلمه اصطدم بعائق آخر أكبر من اليدين ألا وهي العنصرية فهذه اللعبة حكر على النساء ولا يجوز لأي ذكر أن يمارسها ..

         لكنه يحلم كما العرجاء … وإن اختلفت طبيعة العوائق أن يلعب تلك اللعبة ، ( أن يغزو حلقات اللعب ويحتل كف إحدى يديها ويلاحق بقدمه  قدمها .. )[30]

        والملاحظ أن الكاتبة تسند فعل ( الغزو والاحتلال والملاحقة ) إلى الصبي وهذه إشارة على أن هذه الأفعال ذكورية ، إذ يحلم أن يمارسها الصبي على لعبة هي خاصة بالإناث .

المراقبة .

       فالصبي كالعرجاء كلاهما يراقب ويتابع اللعبة متمنياً لو يلعبها لكنهما يعجزان فالعرجاء بسبب عاهة خلقية وهو بسبب جنسه ، إلاّ إنهما ظلا يحلمان باللعب وكلاهما يتبعانها صامتين …

وكما مرت السنون على العرجاء دون أن يتسنى لها اللعب وبتتابع شاذ كمشيتها  ، مرت السنون على الرجل ذي اليدين القذرتين وهو يراقب … صامتاً .

التحسر والفك والإسدال والإنجاب

      لا يزال الصبي ـ الرجل يراقب ، وهنا تستعيض الساردة السنون بحركات جسدية … التحسر على الفك والإسدال والإنجاب ، ففعل التحسر اختصرت به الساردة أعواماً من حركة الفك في ليلة الدخلة إلى الإنجاب ، تقول : ( إذن فليصمت ويراقبها ليل نهار دون كلام وليتحسر ما شاء على ضفيرتيها المزهوتين بثوب الزفاف وبيدي رجل ببذلة أنيقة  تفكهما وتسدلهما باشتهاء قرم على ثوبها الأبيض وجسدها العاري لتنجب له بعد أشهر قليلة فتاة بوجه كوجه والدها ، حيث رحل القمر ولكن بضفيرتين سوداوتين تعشقان أيضاً لعبة ( س ص ع ) )[31] .

المراقبة مرة أخرى

         إن استمرارية المراقبة تشي بثمة حلم في قلب الصبي لم يذو حتى وإن طالت السنون  ، فهل يتحقق ذلك الحلم الذي ولد معه صبياً وكبر معه  ؟

        إنه يراقب ابنة تلك المرأة التي أحبها من دون أن تعرف ،وقد صمت كل تلك السنين …. يراها تقهقه ببراءة تلعب لعبة تتقنها ولا تسمح لأي صغيرة أن تدوس قدمها لتخرجها خارج اللعبة فهي في داخل اللعبة دائماً كما إنه بقي خارج اللعبة دائماً .

        ثم ينتهي المستوى الثاني بفعل جسدي تقاربه الساردة ب ( التحليق ) ذلك فعل التسامي نحو الأعلى .. فوق المشاكل فوق الأحزان والآلام ..بصورة شبيهة بالصورة الأولى إذ إن الصبية مشرعة ضفيرتيها دون قصد لطفل لا يجيد اقتناص الكلمات ، تصفه بالطفل رغم كبره وبعد أن أصبح أباً لأربع لكنها كانت واعية للصفة إذ إنه بقي ذلك الطفل الذي تمنى لو لعب مع من يحب لعبة ( س ص ع ) ..

      فالصبي والعرجاء كلاهما يحلمان بالارتداد إلى زمن الطفولة .

 

*******

المستوى الثالث

( ( ع ) عليك أن تحضر جسدك معك كي تلعب لعبة الأقدام )[32]

       ثمة أمر في هذه العتبة أمر بحضور الجسد لكي يلعب لعبة تعتمد على جزء من الجسد ، لكن الأمر بالحضور ألا يعني أن هناك غياب يستدعي الأمر بالحضور .. هناك غياب فجائعي سيكون مدار المستوى الثالث بل مدار القصة كلها ألا وهو ( موت الطفلة ) ابنة تلك المرأة التي أحبها ذلك الصبي .. التي تدهسها سيارة وهي تلعب تلك اللعبة .

       فالأم تراقب أيضاً ، تراقب ابنتها وهي تلعب من الشرفة وفعل المراقبة هنا يكتسب بعدا امتاعياً، فهي تستمع بمراقبة ابنتها وهي تلعب ، وكم حاولت الأم ان تنقل اللعبة إلى داخل المنزل لكنها لعبة لا يمكن تدجينها في البيوت .. وهذه إشارة إلى ان الأطفال لا يمكن ان يسجنوا في البيوت بدعوى المحافظة عليهم ، لكن الموت يقتات جسد طفلتها …ويبدأ الجنون متجلياً بمداعبة الأم لطيف ابنتها الميتة ، تلعب مع ذلك الطيف ، تقتحم حلقات اللعب ، تحادث الطيف بانكسار ، فالمحادثة فعل لساني دون أن نعرف بماذا تحدثن فقط سرد بلغة الجسد ، فترهب الطفلات ثم يهربن ليدعنها وحدها تلاعب طيف ابنتها ، لتغيب بعد ذلك الطفلات واللعبة والضحكات والأجساد ويحل بدلها أم مجنونة تلاعب طيف ابنتها الميتة.

      لتتحول تلك اللعبة إلى رمز للانكسار والجنون ،رغم  تصميم أجساد الطفلات في ممارسة اللعبة .

      والملاحظ إن هذا المستوى كان مكثفاً ومعتمداً على الجسد في بث إشاراته ، فالدهس يسحق الجسد والطيف جسد متخيل والأم جسد واقعي والواقعي والخيالي يلعبان لعبة الأقدام لكن أهل الحي أطلقوا على هذا اللقاء الجسدي بين جسد خيالي كما قلنا وجسد واقعي ، تسمية الجنون .

 

*******

المستوى الرابع :

( من حق الأقدام أن تتمرد على الأعراف والعادات والأحزان ) [33]

        من حق العرجاء أن تسحق عرف اللعبة التي لا تستقبل إلا سليمات الأقدام ، ومن حق الصبي ـ الرجل أن يسحق عادات اللعبة التي تحتكرها الفتيات ومن حق الأم أن تسحق أحزانها وهي تلاعب  طيف ابنتها وإن سمي ما تفعل جنوناً .

       عودة العرجاء ( نتخيلها منكسرة غير رتيبة ) بالاعتماد على المستوى الأول ، تراقب ، تتلصص على الأقدام الراقصة وهي تلعب ( س ص ع ) ، وانظر إلى متتالية الفعل الجسدي في المستوى الرابع :

مراقبة العرجاء إلى اللعبة ، تلصصها عليها …

ملاحقة جسد الأم لطيف ابنتها … لتدخل حلقة الأيدي الناعمة  

مراقبة الرجل الذي استمر بالمراقبة … مراقبة مجنونته ـ حبيبته .

فعل الدلف والمداهمة والاحتضان … مشهد رائع تصوغه الساردة فهما اجتمعا حول الأيدي الصغيرة ، وكأنها دائرة كبرى لتلك الدائرة الصغيرة ..

الطيف يدلف ، تدخل خلفه الأم ، تحتضنه .

همهمة وزمجرة وتهرب الطفلات .

الوقوف بانكسار ومد اليدين … وحيدة كسيرة تمد يدها للعدم .

الاقتراب  … يقترب منها ،  تتصل معه اتصالاً غير لفظي بالعيون : (

أكان يحتاج إلى جنونها حتى تسمع حنينه  وتقرأ أشواقه . ( يحدث دهشة عينيها بصمت )

تلمح كلام عينيه ( تواصل غير لفظي ) حب صامت …

مد كفه بانكسار … اللقم … التعانق … يمد كفه بانكسار شحاذ ……..  تلقمه كفها برضا كليم .. )[34] .

      يحدث الاتصال بالأيدي بعد الأعين لكنه اتصال المنكسرين ، المهزومين ، الاتصال الذي تمناه عندما كان طفلاً لكنه لم يدر أن أمنيته ستتحقق لكن بحالة انكسار ، مريعة ومحزنة وقاسية جداً . لكنه حتى وإن حدث الاتصال كان يجب أن يكون هناك ثالث لتبدأ اللعبة ، لكن من يتورط في الدخول في حلقة لعب مع مجنونة ورجل صامت ك ( حمار بشري ) سيدخل من يتمنى أن يتسنى له ولو لمرة واحدة تلك اللعبة فكانت العرجاء .. فكانت اللعبة النشاز . وكان الرقص !! الرقص المتمرد على الأعراف (  العرجاء لا تلعب لعبة الأقدام ) ، المتمرد على العادات ( في العادة لا تلعب اللعبة من قبل الرجال والصبيان فهي لعبة عنصرية نسوية ) على الأحزان ( رقص يتمرد على حزن أم فقدت ابنتها التي ارتبطت بهذه اللعبة وعشقتها حد الدهس ) .

وها هي اللعبة ـ الحلم تتحقق … ويكون التأويل :

س :  السيدة المجنونة 

ص : الصبي ـ الرجل

ع   :  العرجاء  .

    في لحظة تساهل نادرة تعانقت الأكف الستة ، رقصة هي أيقون لأحلام المنكسرين ، ترمز للمرسى الأخير لحلم الطفولة الذي لم يتحقق . تبدأ الرقصة .

وتنتهي القصة بمتتالية جسدية أيضاً :

العيون كانت مشرقة كنوافذ قمرية .

الرقاب مشرئبة .

وفي لحظة انكسار تتحقق اللعبة ـ الحلم .، يرددون بفرح مستحيل مداهم .. س ص ع ، يجتمع الطفولة بالأحلام والنور والطيف مع الأقدام المنكودة .

ثنائية الفرح والحزن ( هم فرحوا … وبكى الحي ) .. يفرح الثلاثة ويبكي كثير من سكان الحي من لعنة الجنون التي أصابت ثلاثة أشخاص طيبين من خيار أهل الحي .

وفي النهاية تنتهي القصة بفعل التحريم ، إذ حرمت الأمهات هذه اللعبة اللعنة و بتن يتشاءمن من هذه اللعبة التي تسكن الأقدام وتأكل القلوب ، إذ بدأت بالمسموح وانتهت بالمحرم .

 

 

 

الخاتمة

إن البحث محاولة لتحليل النص القصصي بلغة الجسد .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى