مهرجان المدن القديمة بسند مرئي(بؤبؤ العين)
الزمان انفو ـ استيقظت في ساعة متأخرة من الليل على أذان الفجر وهو يخترق الجدران كأنه يستهدف قلبي، تململت فوق الفراش، كان دافئا جدا ويغري بالمكوث، وكانت الرياح مشلولة على غير عادتها، كأن سكون الليل قد افترسها هي وذلك الصخب الذي نثره زوار المدينة داخل حنجرة النهار المبحوحة دائما في الأيام العادية.
حملت جسدي معي بكل صعوبة كأنني أجر عربة محملة بالتراب، كان الشيطان يمسك حافتها، ويجذبها بكل قوة نحو الفراش، اعتدلت واقفا، وفتحت نوافذ عقلي ورأيت أسراب الأحلام الكثيفة تخرج منها، عندئذ؛ تذكرت من أنا وأين أوجد، ومن أكون!
أنا إنسان عابر ومدرس بلا أسرار، وهذه مدينة تيشيت التاريخية في أول يوم من أيام مهرجان المدن القديمة.
مشيت في تلك الممرات الضيقة بكل بطء، محاولا تلمس الطريق إلى باب المسجد دون وميض، من سيمسك يدي كي يدلني على الطريق لو أنني كنت أعمى؟
إن نعمة البصر الحقيقة تكمن في قراءة كل رسائل الله المكتوبة في ظاهر الأشياء وباطنها. عندما تعلمت تهجئة الحروف الأبجدية تحت شجرة كبيرة وقطعت، حزنت جدا لقطعها؛ فقد بقيت ظلالها الكثيفة تمتد كل مساء بداخل ذاكرتي، فتحت ظلالها التقطت شاشة قلبي أول إشارة للإسلام، ومن بين أغصانها المنحنية والمليئة بالأشواك والخالية من الثمار، خرج قلبي محلقا بحرية في ملكوت الله بعيدا عن مداخن المجتمع..
صلينا الصبح بطمأنينة، ولما بدأت خيوط الشمس الذهبية تخترق الأفق البعيد، بانت حجارة الشوارع القديمة وتلك الوجوه الجديدة من وراء زجاج نوافذ السيارات المظللة بغبار الأمنيات (طلب التعيين)، عندما صارت ظلال البيوت بمقدار طول قامتها وأكثر، كانت في الجو طائرة صغيرة في طريقها للهبوط في مطار المدينة الطبيعي، والذي نحتته عوامل التعرية فصار مدرجا صلبا ومستويا وأحمر القسمات. داخل أكناف الإعدادية، اكتظت أسوار المنصة الرسمية بجنود متجهمين جدا تسمروا في مواقعهم مثل أعمدة الكهرباء، كان الناس من أطراف المدينة وأعماقها المرتفعة ينحدرون كأنهم ذاهبون “لصلاة العيد”، وكان قلب المدينة المتوقف عن النبض طيلة أيام السنة، يخفق بشدة ويكاد يشبه سوق عكاظ، أقمشة معلقة، وأدوات متنوعة، عجلات مكورة وأنابيب لتزويدها بالريح، وباعة رصيد أبواقهم تسمع من بعيد، سوق للإبل وآخر للأغنام وملصقات كبيرة معلقة على الجدران، وسيارات رباعية الدفع تروح وتغدو كأنها تائهة. عندما دنا وصول الرئيس تبخر الفضول الذي أحمله معي، عندما أدركت أن ولوج المنصة لتسجيل ما قد يحدث وراء الصورة، مما تتغافل عنه أعين (الرضا والسخط) عادة، ليس متاحا كما يبدو للمدنين العزل مثلي، فنكصت على عقبي. مررت عائدا برجل يبيع جملا بهيا بأربعمائة ألف أوقية، قلت داخل نفسي: “بعد ضغط العملة فاتح يناير، سيصبح جملك بأربعين ألف أوقية، وإذا ما قدمت مهرا قدره مليون من الأوقية سيقال إنك قدمت مائة ألف أوقية، ونحن مجتمع يعاني تضخما في حب المظاهر، ويهتم دائما بالكم أكثر مما يهتم بالكيف، وهذه العملة الجديدة قد يكون حملها سهلا بيد أن التغطية على انخفاضها ستكون أسهل”.
عدت، وقد فاتتني خطابات العمدة والوزير والرئيس وما بينهما وما فوقهما وتحتهما، وقد سمعت من مصدر غير مطلع والعهدة عليه، أنه لما ذكرت المأمورية الثالثة في خطاب العمدة، وامتدحها، رفع الرئيس كلتا يديه، ومسح بإحداهما وجهه كأنه قد هم بالتصفيق يقول المصدر، بيد أن عدم سماعه لزخات التصفيق تنبعث في جواره، جعله يحجم. مصدر آخر قال لنا: بأن رابطة العلماء كتبت على لافتة لها، شيئا ما يشجع على مأمورية ثالثة، لماذا يريد فقهاء الوطن الأتقياء أن يعود رئيسنا عن قسمه؟
منتصف النهار بالتحديد ذهبت لصلاة الجمعة، كان الصف الأول شاغرا، وكان الفنان التونسي لطفي بوشناق في الصف الأول يقرأ المصحف، دقائق؛ وبدأ الناس يملأون المسجد، عدت للصف الثاني عندما شاهدت الزحمة في الصف الأول. كانت هناك رجل يقدم موعظة، أطالها جدا كأنه أراد لرئيس الجمهورية أن يجلس تحت ظلالها، فجأة كثر تخطي الرقاب، جاء وزير الثقافة وطالب بترك مكان للرئيس عند ظهر الإمام، يبدو أن بعض الأطر العاطلين عن التعيين؛ ممن صعب عليهم لقاء الرئيس؛ يريدون أن يستنشقوا رائحة عطره في المسجد..
كان مرافق الرئيس يجلس قربي مسلحا ومتصلا، وكنت أنا غارقا في تأمل قفا الرئيس وأذنه اليسرى، وأقول يا ترى: بم يفكر الرئيس؟ كان الرئيس مستقرا في مكانه كأن بهاء هذا المسجد العتيق تنزل عليه، فرغم أن عمر المدينة تسعة قرون، إلا إنه لا يزال المسجد الوحيد في هذه المدينة العتيقة، وهو ما يشي بأن معظم الخلافات كانت تذوب فيه عند كل صلاة مكتوبة..
حملق مرافق الرئيس جهتي عدة مرات، كنت أريه يداي وهما فارغتان إلا من كلمة آمين، وذلك عندما بدأ الإمام الوقور ينهي خطبته المحكمة ويدعو بالغيث وجعل بلادنا آمنة ومطمئنة..
سلمنا، وتقدم أحد الفقهاء الوافدين ليحاضر، كانت بداية محاضرته (ناعمة)، لكنني غادرت؛ فعندما تنقضي صلاة الجمعة علينا أن ننتشر في الأرض ونبتغي من فضل الله ورزقه. خرجت جهة المنزل، وتغديت بوجبة تراثية شهية ولينة ويسهل ابتلاعها كالأمل، يقال لها: “أبلز”، عقب العصر، ذهبت لسباق الجمال في ساحة المطار، والذي فاتتني انطلاقته. كانت الرماية في مكان بعيد، والرماية رياضية جميلة، لكن على الرماة أن يكفوا عن استعراض عضلاتهم على الأرانب المسكينة في الصحراء، حتى لا تنقرض مثل خوارق أسلافنا وملاحمهم، التي توقفت مع ظهور الأقمار الصناعية، فقتل الأرانب يؤدي إلى تدهور الغطاء النباتي وانحباس المطر، لأن المطر رزق يسوقه الله للكائنات الحية، والأرض الخالية من الحياة؛ لا تحتاج إلى المطر..
أسدل الليل ستاره الشفاف بسبب القمر، وكانت منصة المدينة ومحيطها شبيهة بعقد الماس يلمع بسبب أضواء المصابيح والمؤثرات البصرية، سبحان مغير الأحوال، لو تأملوها لعرفوا أن الدنيا لا يدوم لها حال، الفنانة كرمي ولطفي بوشناق والرئيس وحاشيته وسفراء وبرلمانيون أجانب وخلق آخر، لقطة احتضنتها تيشيت في ليلة دافئة ومقمرة، والآن أصبح كل هذا أثرا بعد عين…
كانت المنصة مغلقة لا يدخلها إلا من يمتلك بطاقة، وبما أنني لا أمتلك واحدة وقفت مع المواطنين الأبرياء، وقد اقتربوا من المنصة لما أمر الرئيس بنزع السياج الذي أحال بينهم وبينها حسب مصدر شبه مطلع. بدأوا الحفلة بعزف النشيد الوطني، ووقفوا له جميعا، أما أنا فكنت واقفا على كل حال، لكنني تطاولت مثل الزرافة؛ حتى أرى أقدام الملحن هل يحركها مثلما يحرك يديه، ولكي أرى أيضا خشبة المسرح هل صبغت بلون الأمل، ختموا النشيد وجلسوا، وبقيت أنا واقفا مثل تمثال الحرية، جاء لطفي بوشناق وغنى مووايله الرحبة والهادئة، شعرت بالطرب، وكنت أرى الفتور باديا على الصف الأول من أعضاء الحكومة وداخل الجماهير المحيطة بي، وهو ما تفطن له لطفي بوشناق، فبدأ يقرض لهم الشعر. بعدها بدأ الملل يتسرب إلي، هنالك ثلاثة أشياء عند حضورها أشعر بالنعاس بسرعة؛ حفلات الزفاف ومجالس العزاء والمهرجانات. فبدل مزاحمة التلاميذ، رحلت تاركا الحفل وكواليسه ونمت بعمق، في ضحوة يوم السبت؛ ارتحل الرئيس وجل الرسميين، وبدأت المدينة تتنفس الصعداء وتعود لبعض تقشفها ووقارها، وبدأت الانترنت تتحسن بخجل بعد أن أصابها الوهن، هبت رياح قوية في صباح السبت أطاحت ببعض أطراف تلك الخيم المليئة بمسحوق التمور (المفصص)، وكذا بعض الأدوات التقليدية (أواني وخواتم وقلائد) ولوحات نحتت من الحجر وقديد السمك وزيته، وكتب اقتنيت منها: “أشواك السياسة والاقتصاد لرجل الأعمال بمب ولد سيدي بادي ” وفيه صفحة كانت بعنوان “إنقاذ تيشيت” أيام الحرب، تيشيت الآن؛ مدينة عامرة، لديها مستشفاها، وسوقها، ومدارسها، والماء والكهرباء، ودكاكينها، وشبكة اتصال، لكن الطريق إليها لم تتغير بعد!
كأن تلك الرياح التي هبت صباحا، هبت كي تودع الوفود الرسمية. ذهب طلاب التعيين، وبقي سكان المدينة مع مغتربيها العائدين وبعثات المدن القديمة الأخرى، وكذا الشعراء والمسرحيين ونجوم الفلكلور والثقافة والرماة والسياح، ليضفوا على لياليها المقمرة جوا لطيفا يغسل قلوب أهلها من وعثاء الرتابة والصمت…
هنا تيشيت، وكل شيء بخير، وتأخر الإفراج عن المقالة عائد لرداءة الانترنت، وهذه التدوينة خرجت للنور بفضل ويفي المهرجان…
الساعة 17:34 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
نقلا عن صفحة الكاتب خالد الفاضل على فيسبوك