قبسات من حياة الطبيب الإنسان القدوة
الزمان انفو ـ في بيت من بيوتات العلم والتصوف نهل الطبيب من معارف شتى فغني عن القول إن الشيخ الوالد رضي الله عنه كان يجتهد في تربية أبنائه تربية دينية وعلمية صارمة وإضافة لحفظه القرآن الكريم في سن مبكرة مثل إخوته، كان متمكنا من ناصية العلوم الشرعية واللغوية،
إن هذه التربية المتميزة في كنف أبوين كريمين أهلته للأخذ بدور ريادي بين أقرانه جعله متميزا ومتفوقا في المدارس العصرية وقتها، كما جعله يمتلك الريادة و مهارات القيادة بين زملائه الطلاب فصار مصدر إلهام وقبول، الشيء الذي خوله للسعي في إصلاح ذات البين، فحين تنشب خلافات هنا وهنالك بين اتحادات الطلاب ينشط في الذود عن حقوقهم وحق الوطن بماحباه الله من حكمة وتبصر ينضحان خلقا عظيما، فكان حريصا على رأب الصدع وثأي الخلل بين الجميع. كان قدر موريتانيا أن تكون مركز استقطاب لتيارات التغريب التى تحاول أن تجعل منها محورا نشطا لطمس الهوية العربية والإسلامية لأحفاد ابن ياسين ، بعد أن حافظت شنقيط بمحاظرها وعلمائها على ذلك الموروث المعرفي الزاخر، فتم وأد كل المحاولات التي حاول المستعمر القيام بها، لتظل بذلك حصنا منيعا وثغرا من ثغور الثقافة العربية والإسلامية في هذه الربوع القصية، امتد إشعاعه إلى أماكن أخرى. أجل لقد أحست النخبة الموريتانية بذلك الخطر الداهم وبتلك المؤامرات التى تحاك في الخفاءضد هويتها العربية والإسلامية، وكان من تلك الطليعة طالب كلية الطب بجامعة دكار: محمدن النحوي، وبالتنسيق مع رفاقه الذين يشاطرونه تلك الرؤي ويحملون معه تلك الهموم، وقف رحمه الله ضد المساس بالقيم العربية والإسلامية للبلد صادحا بالحق في مختلف المنابر، مواقف كلفته الحرمان من زيارة الأهل والأوطان، وإ ضافة لما عانى من تبعات التمسك بتلك المبادئ من صعوبات في وطنه، كانت قضايا الأمة وهمومها حاضرة لديه، فالنكسة مازالت جراحها غائرة واجتياح بيروت حديث تتناقله الألسن ، وعاصمة الرشيد تتعرض لمخططات تستهدف كيانها في الصميم، غير أن من يعيش آلام أمته وواقعها لا يأبه بمطبات الطريق – فما ضر الشمس إطباق الطفل – عاد رحمه الله إلى بلده مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي حاملا قضايا أمته العادلة متفرغا للعمل في عيادته الطبية مبتعدا عن المناصب السياسية وبريقها تأثرا بنزعة صوفية ورثها كابرا عن كابر.
مع أن الشهرة غاية ينشدها الأطباء، ويبذلون فيها الغالي والنفيس، إلا أن الدكتور محمدن النحوي لم تكن الشهرة هدفه يوماً، وإنما حازها دون جهد أو عناء، بأخلاقه الكريمة وتواضعه الجم مع المراجعين لعيادته من المرضى والزائرين.
ومع أن بسمته الدائمة وبشاشته في وجوه المرضى كانتا الترياقَ الأنجع لكل داء، إلا أن دقة التشخيص قبل العلاج من جهة، وتحديد الدواء الفعال والأنسب لكل داء من جهة ثانية، ميزتان جعلتا الدكتور النحوى يحرق كل مراحل الشهرة، ليتربع على عرشها في ظرف وجيز.
بتعلق الآباء بفلذات أكبادهم، وبحرصهم على علاجهم بيده الأمينة الشافية، صار رحمه الله من ألمع أطباء الأطفال وأشهرهم في البلاد عموما، وفي العاصمة خصوصا، فلا مكان في طوابير الانتظار شاغرٌا، إذ يتم حجزها في أول ساعات الدوام، ومع ذلك لا يبرح النحوي عيادته قبل معاينة الجميع، وقليلاً ما يعود للبيت لأخذ قسط من الراحة، إلا وجد أمامه أعددا من المرضى، يمم أصحابها البيت الشافي، فتعاوده الأريحية والنشاط، وكأن منظرهم، وهم يتلقون القرى والعناية في أركان المنزل، يثلجُ قلبه..ما يزيد من حبوره هو أن من ينتظرونه في البيت أغلبهم هم زاده في الدار الآخرة، فعلاجهم هنا بالمجان كلياً، بما في ذالك الوصفات الطبية، باهظة الثمن.
قد يقول قائل إن طبيباً حقق كل هذا الصيت، في أكبر مدن موريتانيا، وفي بلد ترتفع فيه نسب الأطفال والمواليد، لا بد أن يكون قد جمع ثروة طائلة من رواد عيادته الخاصة، أو من المشافي الحكومية التي عمل بها ردحا من الزمن، كما لابد أن يكون قد ربط علاقات مثمرة مع أهل المال والساسة والنافذين.. أحد مثله، بهذه الشهرة والريادة في تخصص مرغوب، لا بد أن يكون من أثرياء البلد، ويكنز الذهب والفضة.
تلك مسلماتُ وقواعدُ بني زماننا، بيْد أن الطبيب “ولد النحوي” وهي اسم الشهرة له، آثر أن يكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة…لم تستهوه العمارات والقصور، ولا السيارات الفارهة، ولا ذواتُ الأربع.. آثر الثروة الحقيقية التي سوف تتبعه، وسوف ترافقه في الدار الآخرة، لا تلك التي ستمنحه القوة والسلطة والجبروت في الدنيا، والدليل إعراضه عندما أراد الرئيس ولد الطائع إشراكه في الوزارة، حيث تنازل لأحد زملائه عن المنصب، مبتعدا حتى عن شبهات تسيير المال العام.
ظلت حياته هكذا، وما نسي يوماً، رغم مشاغله الجمة، أنه من بيت مشيخة، تترتب عليه واجبات ومسؤوليات مباشرة أو بالإنابة، إذ ظلت من أولوياته، حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد حياة مليئة بالعطاء والزهد والورع، ليوارى جثمانه الطاهر إلى جانب ضريح والدته ، التي كان برا بها كما كان برا بوالده، رضي الله عن الجميع وأرضاهم
حمّاد ولد أحمد