إرشيق: الدكتور جمال ولد الحسن.. حين لا ينتهي الوداع/ الحسين بن محنض
الزمان انفو ـ كان من المقرر أن يتم إلقاء هذه المداخلة خلال الحفل التأبيني الذي نظمته جمعية المستقبل بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المرحوم الدكتور جمال ولد الحسن، ولكن خللا في التنسيق في التوقيت تسبب في وجودنا في ذلك خارج العاصمة.
“أولا أشكر جمعية المستقبل على هذه المبادرة، وعلى دعوتي للمشاركة في إثراء الحديث عن هذا الراحل الكبير الذي يمثل ثروة وطنية من حق الجميع أن يتشارك فيها.
وبما أنه طلب مني أن أتحدث عن المرحوم جمال ولد الحسن من حيث هو كاتب فذ، وشاعر مبدع، وناقد ألمعي، فأقول دون إسهاب إن الراحل جمال ولد الحسن لا يمكن ولا ينبغي تحجيمه في مجرد هذه المصطلحات التي
تضيق عن آفاق شخصيته الرحبة، فجمال ولد الحسن لم يكن شاعرا فحسب ولا كاتبا فقط، بل كان صاحب مدرسة في الأدب والنقد والتحقيق والتاريخ، تأثر به فيها الكثيرون ولا يزالون حتى اليوم.. لقد عاد جمال ولد الحسن من تونس وهو ما يزال في بداية العشرينات من عمره، بشهادة التبريز في الآداب، وتبوأ مع عودته كرسي الدراسات الإنسانية الأول في موريتانيا، وأخذ منذ تلك الفترة، يعلم الأجيال التي تمثل اليوم ذروة النضج الأدبي والفكري في البلاد. ولأن الدكتور جمال ولد الحسن ليس من ذلك الطراز الذي يعود من الخارج كي يجتر قصائد البارودي أو الشوقيات الشعرية لأحمد شوقي، أو يتشدق بنظريات محمد مندور أو الشوقيات النقدية لشوقي ضيف التي كانت تمثل في بداية الثمانينات ذروة المعرفة الأدبية المبنية على تمثل النهضة المصرية، فقد أخذ في وضع أول أسس البحث الأدبي والنقدي والتاريخي الموريتاني، بانيا على ما قعد له الدكتور محمد المختار ولد اباه من نظرية الأدب الموريتاني، فسمعنا لأول مرة من خلال محاضرات الدكتور جمال ولد الحسن عن الدورة الأدبية العربية، وكيف ينبغي أن يعاد النظر في مفهوم عصر الانحطاط الذي، وإن كان العالم العربي كان يغط فيه في سبات شعري عميق، فقد كانت بلاد شنقيط تعيش إبانه ذروة أمجادها الشعرية والأدبية.. وسمعنا لأول مرة من خلال محاضرات الدكتور جمال عن أن مطالب التجديد في الشعر العربي لم تأت من المشرق وإنما من بلاد شنقيط مع العينية الشهيرة للشاعر الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا الأبييري “يا معشر البلغاء هل من لوذعي يهدى حجاه لمطلع لم يبدع” وسمعنا لأول مرة عن تقسيم بديع للأساليب الشعرية الموريتانية، خص بها الدكتور أولا أحد أفذاذ الشعراء الشناقطة هو محمد ولد الطلبة اليعقوبي قبل أن يعمم البحث ويوسع المنهج في أطروحته المشهورة عن الشعر الشنقيطي خلال القرن الثالث عشر الهجري. أما في مجالات البحث والنقد والتاريخ فلأول مرة سمعنا عن تقسيم منهجي للتاريخ الموريتاني، لأول مرة سمعنا عن الحاجز البدعي، وعن الفراغ الوثائقي،لأول مرة سمعنا توظيفات دالة للمنكب البرزخي والبلاد السائبة كمصطلحات للتعبير عن حالات استثنائية عرفتها بلاد شنقيط.. ولم نجد حتى اليوم رغم مرور ثلاثين سنة على بواكير إنتاج هذا المرحوم باحثا واحدا استطاع أن يخرج عن ما رسمه من مناهج نقدية في دراسة الشعر والأدب، أو التحقيق التاريخي، ودراسات الراحل جمال وتحقيقاته في “ضالة الأديب” و”التكملة” و”كتاب الآبار” كلها شاهدة على ذلك. أما من حيث التعاطي والأسلوب فقد تمتع جمال ولد الحسن بذائقة أدبية نادرة، ولم نعرف في بلادنا من يرتجل المحاضرات والخطب بنفس الجزالة والرصانة التي يكتب بها بقلمه إلا جمال ولد الحسن، ومحاضراته الصوتية شاهدة على ذلك حتى اليوم، كما أنها شاهدة على موسوعيته النادرة في العلوم الإنسانية. أما الشعر فكانت له فيه اليد الطولى وإن لم يكن هو راغبا في أن يشتهر كشاعر، مع جزالة لغته ورقة أسلوبه وبعده عن التكلف في الشعرين الحساني والفصيح، ويكفي في الدلالة على ذلك مطالعة ديوانه المتوفر من خلال إحدى الرسائل الجامعية بمركز البحوث بجامعة انواكشوط، وسأورد كنموذج على ذلك أخر مقطوعاته الشعرية التي تعبر عن نوازع نفسية عظيمة كانت تعيش بين جنبي الرجل، كما تجسد إحساسه بما ينتظره من رحيل عن هذه الدنيا التي لا يجد فيها مكانه، والقطعة كما وجدت بخطه: “فحص الطبيب دمي وقال سليم// نظر لعمرك في الدماء سقيم// لو كان ذا بصر بذاك لرابه// داء عظيم في الضلوع مقيم// داء يذل النفس وهي عزيزة //ويمر صفو العيش وهو نعيم //ويصم أذن المرء بعد تنبه // ويكف منه العين فهو يهيم // ويكل منه الذهن بعد توقد// ويضل منه الرشد وهو حليم //ويسهد الجفن القريح ويقلق الـ //جنب الجريح فمقعد ومقيم //ويقيم في أرض الفؤاد قيامة// إن يبد برق أو يهب نسيم //داء نجاة المرء منه مصيبة //عظمى وفوز أن يميت عظيم”
ولا أريد أن أختم هذه المداخلة الموجزة التي لن تعبر مهما طالت عما يستحقه هذا الرجل على هذا البلد، من تكريم وتعظيم واحتفاء، ولا تمثل إلا حلقة من حلقات وداعه الذي لا ينتهي، قبل أن أنشئ فيه بمناسبة هذه الذكرى مقطوعة شعرية تسجل بعض ما كنت ولا زلت أسمع عنه في جانبه الأدبي الذي هو موضع حديثنا اليوم:
“حياتك يا جمال -على نقيض// بني زمن نعيش به مريضِ// منارةُ عزة ورباطُ مجدٍ //وعلمٍ في الأباطح مستفيضِ// وءادابٍ لها في الأرض ومضٌ// كومض النور في الروض الأريض// تصير بها ليالينا ولو في// سَراري الشهر بيضا أي بيض// إذا ما لـُكتَها في النثر راقت //معانيها ورقت في القريض// ملأتَ بها المحافل فيك حبا //وما لك في المحافل من بغيض// وعشتَ بها زمانا مثل نجم //نشير إليه بالطرف الغضيض// وغبت فلم نجد لك من نظير// وأين النجم من هذا الحضيض// فكم صححتَ من قول سقيم// وكم صوبتَ من فعل مهيض// وكم أبرزت من در نضير// نضيد في مسابكه نضيض// ولولا هذه الذكرى لظلت// تنوح عليك باكية الغريض// فقد غادرتنا غضا جنيا// فغص الناس من رحض الجريض// وعمرك لم يطل فينا ولكن حباك الله بالعمر العريض”
والشكر مجددا لجمعية المستقبل الكريمة. الحسين بن محنض