امسية تأبينية للراحل الشيخ ولد بلعمش
الزمان انفو ـ نظم اتحاد الكتاب والأدباء البارحة أمسية تأبينية للشاعر الراحل الشيخ ولد بلعمش بغرفة التجارة و الصناعة بالعاصمة نواكشوط ، وقد شارك فيها لفيف من الشعراء والأدباء وحضرها جمع غفير من المثقفين في البلد وكذلك من اهالي الفقيد.
واستمع الحضور لمشاركات نثرية و شعرية وألقيت فيها كلمات هي رسائل من اتحادات عربية للأدباء و تميزت الأمسية بنصوص جديدة .
مقتطفات من المشاركات:
قال الشاعر الكبير أحمدو ولد عبدالقادر بعد أن سلم ،ورحَم على الفقيد،بأنه يكرر ما سبق أن قاله ” إنني معجب بموقف أقارب وأسرة الفقيد الذين تحلوا بجمال الصبر ونور الإيمان أمام حادث كهذا فلله درهم..”
وهذا ما تيسر من أبياته التي يبدو أنها مرتجلة وصادقة لذلك كانت غاية في الروعة:
عن العين غاب البدر و القلب لم يزلْ ـــ يعانق وجه العز والحب و الأملْ
سلام على روح المخـــــلد ذكــره ـــ ســـــلام على روح المكرم بالأزلْ
سلام على ” الشيخ ” الأديب و من برا ــ ببابل أوتار المعازف و الجُمل
و أطلق من سفح البيان مجــــــرة ـــ تنير ضفاف الفن و الفكر و العملْ
لقد فجع الأوطان أن مر عابرا ـــ و كان مع البلاد يزهو و يفتخر
و للأرض أتراح إذا غاب بدرها ــــ و حنت له الصحراء و السفح و الجبل
رضينا قضاء الله ليس أمامنا سوى ـــ الصبر و التسليم في الحادث الجلل
نعزيك يا شنقيط و الشبل قد نأى ــــ له همة تطوي المسار إلى زحل
تبرعم في روض المواهب صاعدا ـــــ و هشت له الدنيا فأزهر و ارتحل
عليه من الرحمن أعظم رحمة ــــ و أروع تيجان على أروع الحلل
أما السفير عبدالقادر ولد محمد فألقى كلمة لاقت استحسانا كبيرا لدى الحضور وكانت كالآتي:
عوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ صدق الله العظيم و بلغ رسوله الكريم و نحن علي ذلك من الشاهدين بختام شهادة عفوية سطرتها باللغة الفرنسية في حق فقيدنا الغالي الشيخ بلعمش رحمه الله تبادرت لي سورة العصر فلزمت الصمت في حرمها وتركت لها خلاصة الكلام. ذلك لأنه مهما قيل من التصنيفات لتأبين الشيخ كعلم من اعلام الثقافة والادب و رمز من رموز العطاء الفكري الذين جسدوا أفكارهم في سلوك متميز تبقي الخلاصة المذكورة في السورة الكريمة شاهدا حيا من كلام الحي سبحانه تعالي الذي لا يموت ابدا علي حياة النجم الذي غاب عنا و عنوانا للوعة غيابه. لقد اقتحمت حياة الشيخ رحمه الله و جداني ذات صباح من صباحات الفضاء الافتراضي قبل ما يناهز ستة سنين كلها اعجاب و حصاد و كان ذلك في بدايتها حين و قفت علي قصيدته ’’ خواطر محمود الحزينة ’’ فلم اتمالك حتي وجدت نفسي منهمكا في ترجمة معانيها العميقة الي اللغة الفرنسية و من عجائب المصادفات ان اقف بعد ذلك بأسابيع علي رسالة بالبريد الخاص يطلب مني فيها ترجمة لها . كان رحمه الله يريد لحقيقة الظلم التاريخي الذي تمثل في الممارسات الاسترقاقية البغيضة ان تتجلي في يواقيت الكلام و ان تصل معانيها السامية الي مسامع الجميع و علي وجه الخصوص الي النخبة المفرنسة التي طالما باعد بعض الظن بينها و بين نخبة المثقفين العروبيين . كما كان ذلك ايمانا منه بأهمية تجاوز النرجسية اللغوية بغية إقامة جسور التواصل بين حملة الأفكار بكل اللغات الوطنية و الأجنبية و انطلاقا من اعتقاده , و هو الذي لا تقبل المزايدة علي تعلق قلبه باللغة العربية ,, بان ’’ الثقافة خيار و ليست بالإجبار’’ و في ذلك يقول : ’’ أيام كانت اللغة العربية نورا يملأ الأفق في هذه البلاد كتب بأحرفها غير العرب رسائلهم و ألَّفَ بها أشياخهم و اعتزوا بها ، فكانت خيارهم و فخرهم ، فَحَملةُ لغة القرآن على هذه الأرض لم يفرضوها غَلَبة ، لقد كانت سلطة العربية هنا سلطة محبة و لم تَكُ سلطة قوة .ما كان عمل أجدادنا للعربية رياءً و لا مَنًّا ، ملكوا القلوب فارتاحت لهم الألسن .لم يجعلوا من العروبة غولا يتوهمه الغرب الإفريقي ، و إنما عملوا بفطرتهم و صفائهم فرأى الناس فينا رُسُلَ الخير التي عنها يبحثون.’ انتهي الاستشهاد و تبقي الي الابد شهادة الحق باننا بأمسِّ الحاجة لأن ننظر من هذه الزاوية التي تركها الفقيد في سجل ’’ اصل الزوايا ’’ الذهبي الداعي الي الدفاع عن ثقافتنا الاصيلة بالمحبة و التي جسدها في سلوكه الأخلاقي الرفيع حيث انه انتهج في معالجته شعرا و نثرا لمختلف القضايا الاجتماعية والوطنية أسلوب الاعتدال ( و بالمناسبة كثيرا ما تخطر ببالي المقاربة بين لفظة الاعتدال بالفصحي و مفهوم اتعدال باللهجة الحسانية ) , و هنا لا يسعني الا ان اعبر عن قناعتي بان جمع و نشر اثار الفقيد علي شكل ’ أعمال كاملة’ يعد من اهم الأولويات لما له من فائدة بينة في ترسيخ نهج الاعتدال الذي سلكه لأجيال الحاضر و المستقبل . تجدر الإشارة الي ان معرفتي به تزامنت مع أيام ما يسميه البعض بالربيع العربي في حين يعتبره اخرون موسم الانهيار و قد رأيت مذ البداية الي النهاية في كل مساهماته رغم اختلا ف المواقف و حساسيتها الحادة أحيانا اسمي آيات الايمان والعمل الصالح و ازكي التوصيات بالحق وبالصبر التي كان لها تأثير بالغ علي شباب عصره. لقد جمع في انتاجه البديع بين الحماس الرومانسي لما يتطلب الزمان المتغير من الانعتاق و المحافظة علي الثابت في الازل من الاخلاق . و بالجملة لقد فاضت المحبة الخالصة للجميع من حروفه اللذيذة فغلب اعتداله الطبيعي علي مواقفه التي ستبقي الي يوم الدين بمثابة اثار الغائب الحاضر في السجال النخبوي حول شتي المسائل المطروحة في حياته. اما في ما يتعلق بوفاته رحمه الله فقد علمت بها في احزن صباح من الصباحات التي عرفتها طيلة سنوات الفضاء الافتراضي المنصرمة وذلك حين وقفت علي نعيه في منشور بقائمة الاحداث التي اعتدت ان اتصفحها بسرعة فكان اول ما خطر ببالي الصبر الجميل الذي عرفته فيه في مناسبات اليمة امتحنه الله بها حين رأيت النور الساطع بوجه البشوش علي الدوام يصاحب حديثه في مقام التسليم بقضاء الله عن اليقين الذي يكشف ستار الحقيقة عند الموت. راجعت بسرعة في لحظة الصدمة تلك السنين التي تعد رغم فواتها السريع و رغم عمره القصير ,, بحكم الإنتاج و النتيجة بمثابة عمر نوح و بعد امتثال المراجعة المنصوص عليها في الذكر الحكيم تمثل لي في خبر نعي الشيخ رحمه الله سقوط النجم الذي يرتبط عندنا في المخيلة الشعبية بموت اقطاب الصالحين ,, فتذكرت ان معرفتي بالشيخ سبقت دخوله افتراضيا في وجداني حيث ان اسمه العائلي الأصيل رسخ في ذهني مذ عهد الطفولة بحي امباركه واعماره في اطار ربما نتيجة لمعاصرة احد شقيقه الكبار رحمها الله و كذلك لارتباطه باسم اول شارح لأضاءه الدجنة في هذه البلاد كما تذكرت و سأتذكر ما دمت حيا ,, ان شاء الله ,, انني عرفته في الواقع و عرفت في سلوكه المثالي إضافة الي كرمه العفوي تلك الطاقة المضيئة التي صعدت الي السماء لتحاور النجوم بعد ان ملات الدنيا و شغلت الناس فصار بمثابة النجم الذي لا يقاس عمره بمشاهدة سقوطه و انما بألاف السنوات الضوئية ,,, لقد رأيت في حياته و في وفاته المفجعة سيمات الصلاح التي تتطابق مع مقامات الصفاء ,, لقد عاينت فيه مواصفات ’’ شيخنا ’’ كما وردت في منتخب التصوف ,,, سلام منا و رحمة الله علي الشيخ في العالمين ,, انه كان من اشياخنا الصالحين .
أما رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الإماراتيين الدكتور حبيب الصايغ
فقد قرأ كلمته نيابة عنه الشاعر سيدي ولد لمجاد وكانت كالآتي:
التحية أخلصها أولا إلى أهلنا في موريتانيا، شجرة العروبة العامرة في أقصى المغرب العربي بثمار المحبة ووهج الأصالة. قلوبنا معكم كما كانت دائما، لافتين إلى رمزية أن يخاطب شاعر عربي من أقصى المشرق زملاءه وإخوانه الشعراء والأدباء والكتاب في موريتانيا، في كلمة حول الشاعر الموريتاني العلم المهندس الشيخ ولد بلعمش، فها هو الشيخ ولد بلعمش اليوم يجمعنا حول قلمه وقيمه وشيمه، وهاهو، كما كان يفعل، عبر قصائده ومواقفه، ينتصر لكلمة اللقاء، ويمد يده جسر تواصل وبناء، أما عن المشاعر فحدث ولا حرج: ليتنا كنا معكم يا من تعلمنا منكم، على مدى الأيام والعقود، المعنى الحقيقي للانتماء للوطن والعروبة والإسلام، ويا من كلما ذكرناهم أو تذكرناكم شعرنا بمزيد ثقة وطمأنينة، وكأنكم صمام أمان الأمة. لستم طفس الشعف ولكن مناخ الحب. لستم الطرف ولكن القلب.
موت الشعراء حياة جديدة متجددة.
رواية حياة الشاعر تكتمل بالموت، فيصل، بما وهب، إلى أعلى مقامه وذروة سنامه، ومثل الشيخ ولد بلعمش باق في ذاكرة الوطن والناس، ليضيئها، أبدا، وكأنها ذاكرة مستقبل، فهو شاعر الفكرة السهلة الصعبة الممتنعة على سواه، وهو مهندس الشكل والمضمون، وهو فارس الدفاع المخلص المتقن عن قضايا العرب، وفي الطليعة قضية فلسطين والقدس، وكما كان في حياته، ها هو يرسل في وفاته رسالة وفاء القدس إلى العرب: الحياة للقدس، ولا حياة إلا بالقدس.
وإذا كان الشيخ ولد بلعمش من بلد المليون شاعر، فقد إثبتت التجربة، وطنيا وعربيا، أن العبارة حقيقة مكتنزة بمجاز يعيدها إلى وعي راسخ وإن بدا كالحلم. الموريتانيون جميعا، أبعد من المليون شاعر، شعب شاعر ومحب ومتذوق للشعر والأدب والعلم، وفي الذوق العربي الخصوصي، فإن كلمة موريتانيا أو شنقيط، مرادف ند ومعادل موضوعي لكلمة شعر، فما أصعب مجاراة شعب بأكمله، في الشعر مطوقا باللهفة إلى استعادة مجد العرب واستئناف حضارتهم، وما أجملكم يا شعراء موريتانيا وأنتم تخلصون للشعر العربي كما تخلصون لوطنكم وزيكم الوطني.
في هذه اللحظة، وهي لحظة شوق وتأمل وأمل، لا لحظة تأبين ورثاء وحزن، وإن أحاطت بها أجنحة مرارة الفقد من كل جانب، أعلن عليكم الحب يا شعراء شنقيط، متطلعا إلى زيارة بلدكم العزيز الذي تربطه ببلدي دولة الإمارات العربية المتحدة علاقة الأخوة الصادقة والعمل المشترك منذ فجر التأسيس، فهذه العلاقة بعض غرس أعز وأغلى الناس، القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ومحبتكم، بالإضافة إلى أسبابها العاطفية والموضوعية، بعض وصية الشيخ زايد لنا، نحن شعب الإمارات، ولعل ذلك، بل هو يقينا، ما استقر في الوجدان الجمعي العربي، وفي ضمير أمة الضاد، وأمة الميم والجيم والدال، من الماء إلى الماء، ومن العناوين إلى الأسماء، ومن الفجيرة إلى نواكشوط.
أشكركم جميعا أيها الإخوة والأصدقاء، مجددا أخلص آيات العزاء من الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ومن جميع الاتحادات والجمعيات والروابط والأسر والمجالس المنضوية تحت لوائه، ومني شخصيا، في فقيد الوطن والأمة والشعر والثقافة الشاعر الموريتاني الكبير المهندس الشيخ ولد بلعمش، رحمه الله، مشيرا، بكل اعتداد، إلى الفعل الإيجابي الذي يقوم به اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين بقيادة سعادة الأخ الدكتور محمد ولد أحظانا ومشاركة فريق العمل، سواء في محيطه الوطني أو في المشهد العربي ضمن الاتحاد العام. شكرا لكم، ونلتقي دائما، إن شاء الله، على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته