المومس الشريفة
الزمان انفو ـ رمضان 2016 …اجلس كالعادة مع بعض “الجالسين دائما” على المقاعد المتناثرة امام المقهي الشعبي،اذا بمتسولة ليست كغيرها من المتسولات، تعرف بعضهم وتخاطبهم بأسمائهم احيانا وبصفاتهم احايين اخرى ،دكتور فلان،مهندس فلان،استاذ فلان!!
جميعهم يمنحونها ذات النظرة الشزراء والعابسة،احدهم كان مهذبا وبش في وجهها ومنحها اواق كانت معه. وجهها ذابل الى ابعد الحدود،لابرق يلوح فيه ولاالق ولاوميض،كانت ناصعة البياض ذات يوم لكن قناعا ترابيا دفن الملامح حتى لكأنها عمدا تختبئ عن محدثيها.. صديقنا يهمس لها عن بعد وقرب بكلام لم نسمعه لكن من الواضح انه فعل فعلا غريبا في مشاعرها وكانت بعدكل قراءة لحركة شفتيه تلتفت الينا وكأنها تقول : انظروا انه احدهم،انه احد من يستطيعون شراءالقهوة، انه احد العظماء الذين يشترون السجائر بالعلبة ،ومع عظمته مازال يتذكرني،لقد تعرف علي وانا المنسية. تهللت اساريرها،نعم ان لها اسارير،ومبسما كان مدفونا قبل لحظات،ظلت تستمع اليه باهتمام كبير،ثم القت الملزمة الخمصانة على الرصيف،وارادت الجلوس على احد الكراسي: ايام زمان يا عجبا!..،لم يتركها النادل تتحسر او تتذكر او حتى تتأوه : قومي فالكراسي محجوزة لمن يشترون..انكمش الوجه وعاد الى قناعه وعادت المسكينة الى شخصيتها…تسمرت للحظة حتى عافتها العيون فانصرفت فجأة واختفت وملزمتها في زحام مشاة رمضان المتخمين السائرين عدوا كي ينالوا نعمة الجوع..تسير باتجاه معاكس، مع ان قوانين الحياة تقتضي ان تسير بمحاذاتهم فمسارها المعاكس توقف قبل عقدين. كانت تلك المتسولة احدى اشهر نجمات الوسط الجامح الساهر الراقص العربيد في انواكشوط،وكانت مقاما من مقامات العبث يصعب الوصول اليه،ليست بالطويلة ولا بالقصيرة ولا بالسمينة..اتقنت لعب دور “الكافاليير” في رقصة الروك،لكن قصتها مع الانحراف تعود للعنف الذي مورس ضدها ففي المدرسة اغتصبها احد المدرسين او تحرش بها بالكاد يميز اصحابها بين الأمرين،لم يعد ممكنا ان تعود طفلة فلا أحد اهتم لأمرها ولضرورة لم شتاتها النفسي فخرجت الى الشارع مبكرا،اقامت علاقات مع بعض الشبان ثم انتهى بها الحال الى ان اصبحت احدى نجمات ” البيوت” ،كانت تقضي الليالي مابين المراقص والحانات وتنهي رحلتها عند ” آل البيت” الذين ينفقون عليها وتنفق عليهم بالمقابل. تحولت في سنوات الى بائعة هوى مستقلة، لاتتبع لماخور بعينه، يقول احد من عرفوها انها ماتركت غرفة نوم في انواكشوط الا ونامت فيها،اشتهرت واشتهر اسمها،وحين وصلت ذروة ” الشهرة” لم تستقر في ذلك المقام كثيرا فقد ظهر جيل من االمنافسات،وتم “تنظيم السوق” وصار ” آمنا” بلغة الفاحشة.. يحسب لها صديقي انها اشتغلت بالخطيئة في ظروف استثنائية وانها تحدت اللاأمن،الى آخر ذلك من الاشادة بمجهودها في عالم الظلام. ذات يوم اشرقت عليها شمس أخرى رحيمة، ففي سرادق عزاء والدتها خرجت بروح جديدة لابدن فيها ولاجسد:سأعيش كمأ يعيش الآخرون،سأموت جوعا وثديي لن تمسه يدا او شفتا شبق لعين.. عانت اكثر ما عانت عيون المشتهين المزدرين،اذ ينظرون اليها في الشوارع سائرة في جلبابها الجديد فيلعنونها والحقيقة انهم يلعنون فيها قوتها على التوقف امام عجزهم وتماديهم،لعنة الله عليك..فلانة شريفة ههههه!!!!! اقتات الزمن في عقدين على بدنها، ووئيدا وئيدا كانت تفقد ملمحا او موطن جمال ،حتى ذوى عودها فذبلت وغارت العينان واستكان الأنف لالتواء الغضاريف،اذا ارادت ان تضحك فعن ظلمة موحشة تخللها ضوء نار بعيدة،هزيلة. لكنها رغم المعاناة لم تستسلم كمومس السياب: الباب اوصد ذاك ليل مر فانتظري سواه لم تفعل،فمذ ودعت المواخير،قررت ان تواجه الممثلين في مسارحهم حيث يمثلون،انا الخطيئة التي ستتبع كل واحد منكم كظله الى ان يترك التمثيل او على الأقل يحترم لي اعتزالي وانضمامي لجمهور المخدوعين بمظاهركم.. انا أخطأت لكنني تبت وعشت بقية حياتي بشرف،فالتسول اشرف من لمس اجسادكم العفنة ايها الزناة .نعم التسول لايقاس ببيع الجسد،اما انتم ايها المشترون فبعتم اجسادكم ومالكم لي ولغيري ومازلتم تفعلون.. في جل احياء انواكشوط يسير ذلك الشبح المحتضر جوعا وعطشا وهزالا،تسير بخطى تتثاقل يوما بعد يوم فالهيكل ينوء بشيئ غير معلوم..الملزمة فارغة ضامرة ،والجسد مجرود،وفي اليد المرتعشة ربما صفر بحجم الدائرة التي لا يترك شرفاء الوهم الفرصة لمن دخلها بالخروج فرغم انهم يقيمون فيها الا انهم محجوبون عن النظرات فهم شرفاء…ثم قبل ايام اخبرت بأنها لم تكمل السنة التي طويناها ليلة البارحة. من يعرف الغامدية ويدرك رحمة الله فلربما لم يخرجها بغلظته وتعاليه من دائرة الاحتمالات..رحمها الله. شخصيا اعتقد انها افضل عند الله منا حميعا.
من صفحة الكاتب محمدالأمين محمودي