قصاصات ابروكسيل/محمدالأمين محمودي
اسكارليت واحمد
صديقنا احمد يختلف عنا جميعا فمنذ دخوله بلجيكا وهو يعاني ازمة اغتراب او انفصام عاطفيين،،مشاعره ملبدة،قلقة ويحتاج خبيرة طقس لتمنحه ايضاحات على مدار الساعة عن تقلباته العاطفية واضطراباته التي اربكت جميع من لازموه،عاش مختلفا حالما كشاعر لايريد من الدنيا الا قلبا يخفق ويمنحه الدفء في بلاد لاتشرق فيها الشمس الا لتذكر بأنها مازالت في المجرة الكونية..،كان االرجل الثلاثيني يقتات على الحب ويوزعه الى وجبات “تسبق” الشاي.
كانت مقابلته الأولى حين تقدم بطلب اللجوء مع السيدة الصارمة المشهورة في وزارة الداخلية “اسكارليت آر”لم تكن السيدة نسخة طبق الأصل من “اسكارليت اوهارا” التي عرفها القارئ النهم في حروب امريكيي الشمال والجنوب مع مارغريت ميتشيل في رائعة “ذهب مع الريح.”كانت اسكارليت هذه مختلفة في كل شيئ،غير تقليدية البتة،الأولى اعطت لمن احبها الكراهية والانتقام وهذه في المقابل كانت تنظر الى البائس وهي تطرح عليه الأسئلة بحنان وكأنها ستحتضنه او تعانقه حتى تكسر ضلوعه او هكذا خيل اليه..انها نظرات ” هيت لك” اعرفها في جارتنا ببوحديدة..انها عكس اوهارا..انتهت المقابلة وخرجت معه الى البوابة الكبيرة لتدله على طريق القطار اذ سيتوجه الى بلدة بعيدة من ابروكسيل عكس اغلبنا حيث كنا حظينا بالاقامة في القصر الصغير،.. منذ دخوله مركز الايواء ب ” كنك” ونظرات اسكارليت لاتفارقه،عيناها تحرسانه وتطيفان به،تشرقان ليصبح وتغربان ليخلد للنوم، واناملها الرقيقة الطويلة تفتح له ازرار القميص وتساعده في خلع الجوارب وتمنحه الفرصة للسباحة او الطيران في زرقة عينيها قبل ان تهدهده لينام بين ذراعيها،لكنه مغتاظ اذ كان يتوقع كختام للقاء ان تقول له: بالاحضان ياهذا فقد احببتك من اول نظرة..حين يصل تفكيره الى هذه اللقطة يضحك هازئا من نفسه: لماذا هل انا ساحر لهذه الدرجة! اسكارليت افلامانية شقراء او هكذا بدت له اول الأمر،فقد تشكلت لديه ككل الموريتانيين قناعة مبعثها لم يتضح بعد وهي ان “الوالون” يشبهون الموريتانيين الى حد التماهي وان الفلامان هم النصارى الأجانب،والحقيقة ان لغة الوالون هي الفرنسية ولغة لفلامان هي الهولندية وان لافرق في الأشكال بين القوميتين،اذ ينتجعان ذات المراعي ودوابهم تسير في نجعتها جنبا الى جنب بدون مشكلة،هو وهم خلقناه، فاعتقدنا ان الوالون اقرب الينا ربما بسبب اللغة فقط. طول اسكارليت يزيد على طوله بخمس سنتمرات مع انه كان احد اطولنا بمتروخمس وثمانين وحدة سنتيمترية..الحقيقة ان لا شيئ فيها يغري،شقراء بشعر طويل اصفر منكس تحفه من الجانبين بضفيرتين قدمتا من القرون الوسطى، عينان زرقاوان،وحاجبان اصفران يظللان انفا طويلا ينتهي كخنجرماض،نحافة مفرطة حتى لكأنها مريضة بلغة اهل البلد، تظهر خفة ونشاطا زائدين،لا ” تمشي الهوينا اذا مشت فضلا” وماكان لابن ابي ربيعة ان ينظر اليها او للأعشى ان يذكرها في شعره..اف على عمر وعلى الأعشي والوجي الوحل..تركب اسكارليت سيارة الحصانين التي لم تعد توجد الا في المتاحف.تلف عنقها وهي العنجوج بشالي مطرز بألوان ” المثليين” تلك التي كنا نسميها الوان قوس قزح، قبل ان نخلق الجنس الثالث،فهل يعقل ان يحب احدنا امرإة فقط لأن نظراتها حزينة وابتسامتها بائسة وواهية! سأل نفسه مرات عن سبب الانجذاب اليها، لكنه في كل مرة وقبل ان يجيب يجد نفسه منشغلا بالسؤال الأكبر عن السبب الحقيقي الذي يجعل نظراتها تلك استثنائية وتخص احمد لوحده،دون الآلاف من بائسي العالم..لابد انها نسيت “الحالة”الموريتانية في خضم المقابلات الكثيرة التي تجريها يوميا،هنا يكون واقعيا ويتذكر انه يسمى باللغة الرسمية بالحالة،ثمانية،ثلاثة ، اثنان..تقريبا صار الجميع يدركون انه كلف ومتيم حد الهوس بالشقراء التي تشغل احد اهم المناصب في وزارة الداخلية،وحين وصله بعد اسبوع من المقابلة مظروف موقع باسمها اختطفه بعنجهية من يد مرشدته الاجتماعية، جن جنونه وطار وعدا وركض وتخطى جميع الحواجز ثم صرخ ليسمع الخبر ساكنة البلدة الهادئة ،صعد الى كشكه ( كشك في عنبر) وفتح الطرد بيدين ترتعدان والتهم بعينيه مبتدأ الجملة فإذا هو امام قرار رسمي بقبول طلب اللجوء الذي تقدم به،الأمر الذي يحلم به اي لاجئ وعادة يحدث بعد سنوات او سنة على الأقل وفي حالات نادرة بعد اشهر،وبدل ان يطير فرحا كان يتهجى اسمها في ذيل الرسالة كأنه يرتل كتابا مقدسا..الاحباط خيم عليه لأسابيع قبل ان تصله المكالمة التي غيرت مسار حياته ربما الى الأبد.البقية لدينا