كاتب كبير يكتب عن حاكم امريكا من خلال “نار وغضب,,داخل بيت ترامب الأبيض “
الزمان انفو ـ من الكتب القليلة التي شهدت إقبالا منقطع النظير مؤخرا كتاب “نار وغضب: داخل بيت ترمب الأبيض” الصادر (الجمعة 5 يناير/كانون الثاني 2017)، من تأليف الصحفي الأميركي المخضرم مايكل وولف، فنفدت طبعة الكتاب في بضع دقائق بعد صدوره، وملأ الدنيا وشغل الناس.
وقد حصلتُ على نسخة من الكتاب بعد أقل من 24 ساعة من صدوره، فعسى أن تتناسب هذه النظرات التحليلية السريعة للكتاب مع سرعة انتشاره بين الناس.
المراهق الأبله
بالنسبة لعنوان الكتاب؛ فإنه ليس من الواضح ما إن كان الكاتب استوحى تعبير “النار والغضب” الوارد في عنوانه من العهد القديم -خصوصا الإصحاح 66 من سفر أشعيا- في إشارة منه إلى خلفية ترمب الأصولية المسيحية المتصهينة، أم أنه استوحاه من خطاب ترمب الذي هدد فيه كوريا الشمالية بـ”النار والغضب”، إشارةً إلى مواقف ترمب السياسية المتعجرفة، أو أنه استلهمه منهما معاً.
يتناول الكتاب -في مدخل، و22 فصلا قصيرا، ثم تذييل- 18 شهرا من حياة دونالد ترمب السياسية مرشحا للرئاسة ورئيسا. وقد اعتمد الكاتب في ذلك على ما ادَّعى أنه أكثر من مئتيْ مقابلة وحوار مع مطلعين على شأن ترمب أو مرتبطين به. وربما يكون الكاتب حقق لترمب أمنية كان يتمناها إذا كان الكاتب نفسه دقيقا في قوله “إن قصة ترمب هي سعيه الدائب لأن يجعل من نفسه قصة”.
لكنها أمنية تحققت بالمقلوب، وعلى غير ما يشتهي ترمب؛ حيث يظهر ترمب -من صفحات هذا الكتاب- شخصا نرجسيا، متكبرا، غاضبا، متسلطا، غريب الأطوار، لا عهدَ له ولا وفاء، مُوَلَّهاً بالمال، فارغ العقل، سطحيَّ التفكير، لا خبرة لديه في صناعة القرار السياسي، ولا يملك الحكمة والحس السليم الذي يؤهله لذلك. بل يتسم بالكثير من الارتجال والتعجل، ويعجز عن التحليل المنطقي، وعن ربط النتائج بأسبابها.
فترمب -في كتاب وولف- أشبه ما يكون بالمراهق الأبله، حيث تنحصر هواياته في ثلاث: مشاهدة التلفزيون، وأكل شطائر الهامبرغر، والثرثرة في الهاتف. ولذلك انتهى به الأمر إلى أن أصبحت تسيِّره حفنة من الأقارب والمقربين، خصوصا صهرهجاريد كوشنر وابنته إيفانكا التي اعتنقت الديانة اليهودية، لكي تتزوج جاريد اليهودي الأرثوذكسي المحافظ.
أما البيت الأبيض -الذي هو رمز قوة أميركا وفتوَّتها- فقد بدا في الكتاب قصراً باهتاً، خاوياً على عروشه، يسود فيه الارتجال والمزاجية والفوضى، ويغيب عنه التخطيط المتزن والتفكير الإستراتيجي.
ويظهر من الكتاب أن ترمب عاجز عن كسب احترام أي من أقاربه أو مقربيه، فقد امتلأ الكتاب اقتباساً لطعونهم فيه وسخريتهم منه، بمن في ذلك أقرب الناس إليه: ابنته إيفانكا وصهره كوشنر. وكل ذلك يدل على انحطاط فظيع في القيم السياسية الأميركية، وتراجع عميق في الثقافة السياسية الأميركية.
يتضمن الكتاب تفاصيل هائلة عن سنة ونصف من حياة ترمب السياسية، ابتداء من قراره الترشح للرئاسة، ويقدِّم خريطة مفصَّلة للمحيطين بترمب من المقربين والأقارب، وكيمياء التفاعل بينهم، بما تتضمنه من تحاسد وتنافس على قلب الرئيس، الذي يصفه الكاتب بأنه شديد التأثر بآخر متحدث إليه.
ولا يخلو الكتاب من تفاصيل مبتذلة عن شخصية ترمب، منها تعابيره البذيئة، وخناقه مع خدَم البيت الأبيض، وولَعه بأطعمة ماكدونالدز، ومجاهرته ببناء علاقات غير شرعية مع زوجات أصدقائه.
وقد لا يكون من المفيد تلخيص مضمون الكتاب لأن أكثره لا يخرج عن الأحداث التي تداولتها سابقا وسائل الإعلام، من ترشحه المفاجئ إلى نصره الانتخابي الذي فاجأه هو ومحيطه القريب قبل أن يفاجئ الآخرين، واتهامه بعلاقات مشبوهة مع الروس، وقراره بحظر دخول مواطني دول إسلامية لأميركا، وإقالته للجنرال مايكل فلين والمستشار ستيف بانون، وزيارته الباذخةللسعودية… إلخ.
أثمن الفصول
ولعل الفصل السابع عشر من الكتاب هو أثمن فصوله بالنسبة للقارئ العربي، إذ يتضمن هذا الفصل معلومات لم تكن منشورة من قبل عن قصة العلاقة السرية بين إدارة ترمب والقيادة السعودية الجديدة التي يتصدرها ولي العهد محمد بن سلمان.
ففي هذا الفصل يصف الكاتب الشيخوخة القيادية والجمود المؤسسي في السعودية، ثم يعقب على ذلك بأن “محمد بن سلمان المدْمن على ألعاب الفيديو نمطٌ جديد من القيادة في السعودية” لأن “رؤيته رؤية ترمبية”. ويجد الكاتب أوْجُه شبه عديدة بين ترمب وابن سلمان، منها التعجل، والسذاجة السياسية، وضعف الإلمام بالشؤون العالمية. بل إن الكاتب ليجد شبَهاً عاماً بين آل سعود وآل ترمب.
ويذكر المؤلف أن محمد بن سلمان سارع بالاتصال على جاريد كوشنر (صهر ترمب ومستشاره) بعد فوز ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية مباشرة. وفي ذلك الاتصال المبكر؛ وعَد ابنُ سلمان كوشنر بأنه سيكون “رجُلَه في المملكة السعودية”! وهو وعدٌ يبدو أن صاحبه قد وفى به تماما. لذلك ينقل الكاتب عن ترمب قوله لأحد أصدقائه المقربين: “لقد كسب جاريد العرب إلى جانبنا”.
وفي زيارة ترمب للسعودية؛ يذكر الكاتب أن القيادة السعودية أنفقت 75 مليون دولار على الحفلة التي نظمتها على شرف ترمب ووفده المرافق.
فإذا أضفْنا إلى ذلك ما يذكره المؤلف من أن هنري كيسنجر”وضع كوشنر تحت جناحه”، وأنه يقول: “إن كوشنر سيكون كيسنجر الجديد”؛ فإن الاستثمار الإستراتيجي الذي حققه كوشنر لقومه -بكسْبه محمد بن سلمان- لا يمكن التقليل من شأنه، أو من انعكاساته السيئة على مستقبل هذه المنطقة وشعوبها. لكن وعْد ابن سلمان وكرم ضيافته كان مقابل تحقيق طموحه الشخصي في الحصول على الدعم الأميركي لانقلابه على ابن عمه ولي العهد السعودية -آنذاك- محمد بن نايف.
وهو ما تم بالفعل، وتفاخر به ترمب -فيما ينقله عنه المؤلف- فقال: “لقد وضعتُ أنا وجاريد [كوشنر] رَجُلَنا في القمة”. وكان من المقابل الذي حصل عليه ابن سلمان أيضا موافقة ترمب له على “ابتزاز قطر”، في مناقَضة لما نصحه به مستشارو السياسة الخارجية الأميركية، كما يقول الكاتب.
ومما يهم القارئ العربي للكتاب أيضا تلك الشذرات المتناثرة فيه عن القضية الفلسطينية، مثل ما ورد من قول ستيف بانون في مدخل الكتاب “إن ترمب سينقل السفارة الأميركية إلى القدس من اليوم الأول”، وقوله أيضا: “دع الأردن يأخذ الضفة الغربية،ومصر تأخذ غزة. دعهم يتعاملون مع الأمر، أو يغرقون وهم يحاولون ذلك. فالسعوديون على وشك الانهيار، والمصريون على وشك الانهيار، وكلهم يكادون يموتون فزَعاً من بلاد فارس”.
ويبدو منظور ترمب الإستراتيجي للمنطقة تبسيطيا للغاية، فهو وفريق عمله يعتقدون -كما يقول الكاتب- أن اللاعبين المهمين في المنطقة أربعة، وهم: إسرائيل ومصر والسعودية وإيران، وأن على أميركا أن تجمع الثلاثة الأُول ضد إيران. وهذا المنظور امتداد لنظرة كلية سطحية يقسم ترمب بمقتضاها العالمَ إلى ثلاثة أقسام: قوى عدوة، وقوى صديقة، ومن لا قوة لديهم.
ومن الأمور المثيرة للاهتمام تنبؤات بانون عن مستقبل ترمب السياسي التي ختم بها وولف كتابه، إذا يعتقد بانون أن الاحتمالات في هذا المضمار ثلاثة بالتساوي، وهي: عزل ترمب على يد الكونغرس جراء التحقيقات التي يجريها مدير (أف بي آي) السابق روبرت مولر في علاقاته بالروس.
الاحتمال الثاني هو عزله على أيدي وزرائه بحجة عدم الأهلية العقلية للرئاسة (طبقا للتعديل الخامس والعشرين من الدستور الأميركي)، والاحتمال الثالث هو تمكنه من التشبث بالسلطة إلى نهاية ولايته. مع يقين بانون أن ترمب ليس أمامه فرصة للحصول على ولاية ثانية في البيت الأبيض. وفي كل الأحوال؛ يرجح بانون أن ترمب لن يكمل ولايته الحالية، بنسبة احتمال تصل إلى 66%.
لكن ليس من الواضح تماما ما إن كان بانون هنا يتحدث بناءً على معطيات صلبة تصلح لبناء تحليل عليها، أم أن حديثه يحمل شيئا من روح التمنِّي والتشفِّي، والانتقام من ترمب الذي غدر به وأقاله من منصبه، وهو يعتبره مجرد صنيعة له، ما كان ليفوز بالرئاسة ويكون له شأن لولا جهود بانون.
ملاحظات ومآخذ
من الملاحظات التحليلية التي قد تَرِد على الكتاب؛ ما جاء في الفصل الرابع عشر من تفسيره للهجوم الصاروخي الذي أمر به ترمب ضد قوات بشار الأسد في خان شيخون، ردا على قصف الأسد لشعبه بالسلاح الكيمياوي. فالكاتب يراه نوعا من إثبات الذات لدى ترمب، وعطفا إنسانيا منه على السوريين، بعد أن عرضت عليه ابنته إيفانكا وصديقتها دينا باول صور أطفال سوريين قُتلوا في الهجوم.
لكن دافعا آخر قد يكون أرجح وأكثر انسجاما مع شخصية ترمب؛ وهو سعيه إلى التخلص من شبهة العلاقة المريبة بينه وبين الروس بافتعال ذلك الهجوم الذي لم يغير من واقع الحال العسكري شيئا على الأرض، لكنه أعطى انطباعا للرأي العام الأميركي باستعداد ترمب لمناكفة الروس.
ومن الملاحظات على الكتاب أيضا سكوتُه عن نفوذ اليهود الأميركيين العميق على ترمب، بل وإيحاؤه الضمني بأن ترمب قد لا يكون ذا وُدٍّ لليهود، رغم أنه أكثر الرؤساء الأميركيين خدمة لهم حتى الآن، حتى إنه تجرأ على ما لم يتجرأ عليه سابقوه في قضية القدس.
فنقاش مايكل وولف للجدل بشأن معاداة ترمب للسامية أقرب إلى الإمعان في الابتزاز السياسي منه إلى أي شيء آخر. وحتى تعيين ترمب لصهره اليهودي كوشنر مسؤولا عن ملف الشرق الأوسط فسَّره الكاتب ضمن هذا المنحى، فقال: “بالنسبة لترمب لم يكن إيكال ملف إسرائيل إلى كوشنر اختبارا فحسب، بل كان اختبارا ليهودية كوشنر: فالرئيس يختار كوشنر لأنه يهودي، ويجازيه بصفته يهوديا، ويحمِّله عبء مسؤولية مستحيلة لأنه يهودي”!!
وفي تفسير الكاتب لإقالة ستيف بانون من منصب رئيس المخططين الإستراتيجيين في البيت الأبيض؛ يميل المؤلف إلى أن سببه هو التعارض بين رؤية بانون المحافظة المتطرفة، ورؤية ابنة ترمب إيفانكا وصهره كوشنر المتسعة للتعايش مع الخصوم السياسيين والأيديولوجيين. وفي هذا التفسير سكوتٌ عن دور اللوبي اليهودي الأميركي في إسقاط بانون.
إذ من المعروف أن بانون متَّهَم من ذلك اللوبي بأنه معادٍ للسامية، رغم أنه أكثر حماسا لمنْح القدس لإسرائيل من كوشنر نفسه! وربما كان العجوز هنري كيسنجر هو الذي وضع النقاط على الحروف هنا -فيما نقله عنه الكاتب- حين وصف الصراع بين كوشنر وبانون بأنه “صراع بين اليهود وغير اليهود”.
إن قيمة كتاب “نار وغضب” الأساسية هي أنه جمَع شتات المنثور من أخبار ترمب ومغامراته وتُرَّهاته في لُحْمة قصصية واحدة، مزج فيها ببراعة بين بساطة اللغة الصحفية والحبكة الروائية الممتعة، وربط ربطا محكَما بين الأحداث، وغاص في نفسيات الفاعلين الأساسيين ودوافعهم ومطامحهم وتحيزاتهم. ويمكن القول إن الكتاب يوفر معلومات عن المحيطين بترمب أكثر مما يقدمها عن ترمب نفسه، فبانون وكوشنر مثلا تردد اسماهما في الكتاب مئات المرات.
إن قراءة هذا الكتاب ضرورية للدبلوماسيين الذي يتعاملون مع السياسات الأميركية، ويريدون فهم الخلفيات الموجِّهة لقرارات ترمب وفريقه، وللدارسين المهتمين بتطور النظام السياسي الأميركي، وانحطاط الثقافة السياسية الأميركية اليوم، فضلا عن أهميته للمحللين السياسيين والصحفيين.
وحتى المختصون في علم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي قد يجدون فائدة ومتعة في قراءة هذا الكتاب، من حيث إنه يشرِّح نفسية ترمب الغريبة الأطوار، ويقدِّم خلفية ثمينة عن الفريق المؤثر فيه وفي قراراته.
وأخيرا، إذا كان البيت الأبيض يبدو باهتاً في ظل ترمب، بسبب ما يتسم به ساكنوه الجدد من بؤس فكري وأخلاقي، فليس مما يعزِّي القارئ العربيَّ أن يعرف أن أولئك البؤساء الساكنين في البيت الأبيض يتحكمون في رقاب عدد من الشعوب العربية، من خلال “رجالهم” في البلاد العربية الذين فاقوهم في البؤس، وفي دفع شعوبهم إلى اليأس.
د. محمد المختار الشنقيطي