مقطع جريء من قصة للكاتب الموهوب الربيع ولد إدومو
الزمان انفو ـ وكنا ونحن صغار، ممن قيد له الحظ العظيم رؤية قيطانه منت أعلي سيد وقد “راحت من الوزرة”، عند الغدير تستحم صباحا، وحيدة مع الطيور والبط والشمس، في ذلك المكان الغارق في العواطف، المعزول عن الدنيا كأنه جنة سقطت من السماء في الصحراء ونسيها العالم.
كانت فارهة الطول ممتلئة، نقية البشرة على غير عادة النساء من أهل دار السلام والتميشة، وكان الشعر اللامع الأسود المبلول يحجب عنا ملتقى كتفيها، ولكنه يقصر دون المكبين وأسفل الظهر. كانت قوية وباهرة، وكانت العين لا تقاوم السقوط من أعلى رأسها حتى ركبتيها، قبل أن ينتزع الغدير منك ساقيها التين غاصتا في المياه. ويوم رأيناها كنا عامها نقضي الخريف على أكتاف صالة العجلات، ومن حظنا انه سبق لنا السماع بالحوريات، فقدرنا انها قريبة من ذلك الجمال الذي نسمع عنه، بل أننا لوهلة تخيلنا انها لو بصقت في الغدير لصار حلو المذاق. كانت مشدودة الجسم بيضاء من غير سوء، يلينا منها الشعر المنسدل في عبث، والكتفين والظهر والأرداف وكان للفطن في موقعنا ان يلحظ جانبا من النهد الأيمن وقد انبثق من صدر تلك المرأة العذبة. ثم.. غاصت في الماء تتقلب مثل الحوت، فتسابقت دوائر الماء تحضنها كأنها عطشى لامرأة جميلة ناعمة..عارية. وكان ذلك يعد من الأيام النادرة التي ترى فيها جسد امرأة ناضجة تتخبط في الماء، فيحسب الواحد أن في ذلك خير كثير يأتيه، وكان دلاهي ولد الدنيا وهو صالح من الصالحين من أهل قريتنا يقول في مثل هذه المواقف: – يومكم يوم خير.. يا جماعة الخير. وقال البار ولد حبوده متمتما: – والله لو وزعت هذه الأرداف وتلك الخاصرة على رجال العالم لكفاهم ذلك ويزيد. وقال الدحة ولد النجيب همسا: – ليس المهم في المرأة حسنها الساطع ولكن لطافتها بعد منتصف الليل، والاهم، مهارة الأنثى، ويا اسفي على هذا الجسد لو ان صاحبته ليست قيطانه، كان ليدفن حيا تحت ركام “السحوة والتبدي”. وكان الموقف يداعب الغرائز في ذلك المكان القصي من طفولتنا الجامحة، المعتقة بالحديث عن الجسد. وقال الطيب ولد محتي دون ان يرفع صوته: – يا ويلي.. يا ويلي.. ما اكثر ما تستر الملاحف من البلوى، وما أكثر ما يرى الرجال من اشياء، والله ما أصوم رمضاني الاول حتى اتزوجت أربع مرات، لامتع بصري في الدنيا قبل الآخرة. وكانت قيطانة من اجمل الهدايا التي جاءتنا من بعيد بعد انتقالنا من دار السلام الى حي التميشة في كيفة. كانت زوجة الشريف ولد حلمي ولد محمد الكافي من أهلنا واحبتنا، تنحدر عائلته من أسرة عريقة من خؤولتنا عرفت بالملاحة والسفر والزواج بالجميلات. وكان الجميع يحكي حكايتها، ولم يعرف عنها من سوء الا جرأتها على الرجال، ونظرتها القوية مثل الرصاص، وقلة تحفظها في الملبس، وكان محلها على أطراف سوق الجديدة مفتوحا للنسوة والشائعات والمجلس. وقيل ما ذهبت قيطانة في أمر يخص الرجال الا أنجزته، وشوهدت مرارا تتحادث مع أهل “رالي داكار” وتضحك، وقيل تعرف كلام الفرنسية او شيئا منها، ومرة انبرت للوالي فكلمته في امر الضرائب على السوق فسمع منها واستجاب لمطلبها. وقيل هي محصنة -معاذ الله- لا تمنح الرجال أكثر من ابتسامة، وفي رواية أخرى تمنحهم أحيانا ما يريدون، وكان لها أصحاب على غير طبع نسائنا، وكانت تقول لزوجها ممازحة: – والله لن اصب الشاي حتى ياتي صاحبي فلان او صاحبي فلان، وكان يضحك من كلامها، وكانت تسير في السوق مع بعض التجار وتمازحهم، وكانت في مجالس النساء تذكر الرجل وتذكر جماله او خشونته او ملاحته لكن أحدا لم يتهمها في شرفها مباشرة وان بعض الظن لاثم. وقيل هي فقط تصاحب الرجال لطبع يخص ما تربت عليه من “كسر الحشيشة” بينها وبين “الأجانب” فالمرأة ليست من أهلنا، ولكل أمة طبائع تتطبع بها، فيظن الغريب عن طبعهم ان بهم خللا او جنونا او فسقا، ولكن الحقيقة ان الأشكال مصروفة عن ظواهرها في كثير من الأمور. كانت النسوة يتمتمن في جلساتهن الخاصة حول أصلها وفصلها وملاحتها وكان يقال “فلانة أحرك من قيطانة” اذا لوحظ على البنت رغبة في لقاء الرجال. وغير مسألة الرجال وملاطفتهم دون سوء ظاهر، لم يعرف عن قيطانة غير الكرم وحبها للبخور وفهمها للتجارة حتى قيل “تعصر الحجر فيخرج ماء”. وما صادفنا قيطانة بعد ذلك إلا علقت باذهاننا “صور الغدير” على أن القصة شاعت بعد ذلك، ولكنها كانت مما يروى على سبيل التندر والحظ السعيد، ولم يؤنبنا فيها من أحد، وقيل ان قيطانة نفسها علمت بأننا كنا خلف الأغصان عندما كانت تستحم ذات يوم في الغدير فقالت: “دعوهم فإنهم يغسلون اعينهم بنعم الله” ولكن ذلك لم يثبت عنها من ثقاة. ويوم مرض الشيخ عبد الرحمن حضرت قيطانة مع خلق كثير، وكان الشيخ عبد الرحمن اذا مرض حضر الجميع ومن لم يحضر يرسل ابنته او قريبته او احدا من أهله ليسلم ويعتذر، وكانت قيطانة تساوم في كل شيئ كتاجرة الا فيما يخص الشيخ عبد الرحمن، فكل أموره تأخذها على محمل الجد، بل انها تبالغ احيانا في الدفاع عنه وتكريمه وتبجيله ووضعه موضع القداسة والاحترام. واللافت يومها ان قبطانه جاءت وعلى رأسها قطعة سوداء من حرير او من قماش ناعم الملمس مزركشة الأطراف وقالت: – “هذه ميسورة” فشغل ذلك النسوة طيلة اليوم حتى قال احدهم: – اسكتوا يرحمكن الله فالشيخ مريض.. لا ترفعن أصواتكن فوق صوت النبي. فرد الشيخ عبد الرحمن بصوته المتعب: – لا تنهروا النساء.. فوالله اني احب ضجيجهن وضجيج أبنائهن، انهن مربيات الرجال. فعد ذلك من سماحة الشيخ وفضله، ولكن القلوب ظلت معلقة بميسورة قيطانة، التي حجبت شعر رأسها وألقت على وجهها بشيء من البهاء والسكينة ومسحة من طهارة. ونقل الينا من ثقاة ان قيطانه قالت: – والله الواحدة تتواجد مع الأجانب في السوق، وتليق بها ميسورة تستر شعرها، فتتحرك على راحتها دونما عين ترقب شعرها، وفي الميسورة بركة كثيرة فإنها تحمي الرأس من الشمس، ولعلها من الواجبات، وقد جاءني بعض الميسورات بعت اغلبهن لحبيباتي وبقي القليل. وقال الشيخ عبد الرحمن: – تلك بركة كبيرة ان تأتي قيطانة بما يستر من ملابس المرأة، بعدما شاع “الرقيق” في السوق، فاشتروا لنسائكم من هذه التجارة ففيها فضل كثير. وكان لقيطانة انها اول من جاء بالميسورة، الى حينا ولاحقا ستأتي بالعباءات، والبرقع والقفازات والجوارب، ولكنها لم ترتدي غير الميسورة ولم تشاهد يوما في العباءة أو النقاب، وان كانت ارتدت جوارب في الشتاء، خصوصا بعد طلاقها من ولد حلمي، لكنها فقط كانت تمجد كثيرا في “ثوب الستر” وأمور اللباس الشرعي. حتى جاء قريبنا ببانه ولد السلطان من انغولا، وكان ببانه رجلا ابيض قصيرا خفيض الكلام مؤدبا، وكان مزواجا. وقد غاب ببانه لسنين قبل ان ينتظم مجيؤه في الخريف الى اهله، فكان يقضي الحوائج ويلقى الأهل، وكان في الغالب يتزوج له فتاة ويكرمها ويكرم اهلها كرما كثيرا، ثم في الغالب يطلقها قبل نهاية عطلته. وكان يختار الفتاة البكر الجميلة الخجولة على غيرها، وما كانت امرأة لترفضه فهو “بيضة ولي” واذا كانت المرأة تنكح لأربع، فهو يقبل لخمس او ست كما تقول عمتنا “الشيخ” فهو يقبل لدينه وماله وجماله ونسبه ولانه خامسا “ابن السلطان”. وقد قيد لببانه ان يرى قيطانة وهي على اعتاب الثلاثين ويشرب شايا منعنعا في “بتيكها” على اطراف سوق الجديدة، فقال بعد “مجلس طايب”: – والله لو تسترت يا قيطانه لأكملن معك نصف ديني. فقالت في ملاحة وذكاء: – والله لو اعترفت وقلت اني اتوق للمضي معك فيما تدعوني اليه، فانني لا يمكن ان اقبل فراقك وانت مزواج لا تثبت على حال وتجارتك في بلاد بعيدة. فقال: – اما التجار فانت تاجرة وتعرفين ضرورات ان يسافر الرجل طلبا لرزقه، واما الطلاق فلا اظن انسانا عاقلا يتزوجك ويطلق. وكان ذلك بداية لمرحلة جديدة. لن يرى احد بعدها وجه قيطانة فقد تنقبت ولاحقا سيتزوجها “ابن السلطان” ويعقدهما الشيخ عبد الرحمن رغم ما به من مرض، وسترزق بابنتين، وقيل حفظت اجزاء من القرآن وعلمت ما علمت من علم الحديث وقرأت كثيرا، وباتت لها حظوة وتنظم في بيتها محاضرات، وزادت تجارتها حتى سمع اسمها في المدن والقرى، وتوافد الناس على بيتها ياكلون ويشربون وتقضى حوائجهم، ولكنها نهرت سيدة قالت لها ذات يوم “الشيخة قيطانة” وقالت: – والله ما أحمل هذا اللقب ما دام شيخي وسيدي الشيخ عبد الرحمن حيا يرزق. فقال الشيخ عبد الرحمن معلقا: – قيطانة سيدة مباركة وضعت نفسها في خدمة الدين.