السفير محمدفال ولد بلال يستحضر ذكرى نقيب لا ينسى
الزمان انفو ـ أخي وعزيزي محمد شين ولد محمّادو، في مثل هذا اليوم 15 فبراير 1996م الموافق ليلة الجمعة 27 رمضان 1417 هـ، توفي أخي وعزيزي محمد شين ولد محمادو، صاحب البسمة الرائعة والخلق الرّفيع والثبات على المبدأ، إثر حادث سير أدمى القلوب.
كان رحمه الله في طريقه إلى البلد الطيّب بنيّة الحضور لختم القرآن الكريم في حضرة مشايخ الخير والبركة والمجد التليد أهل الشيخ القاضي، نفعنا الله بِهم. كنتُ دائما أفكّر أن أكتب في ذكرى رحيله، ولكن القلم لم يستجِب. فقرّرت اليوم أن أترك القلم وأكتب بلسان روحي وقلبي. سامحوني، سأنطق بلسان قلبي عن أخ أحببته حيّا ولطالما أحببته وبكيته ميتا. ولا أدري من أين أبدأ. هل أبدأ من أيام الطفولة في ضواحي مگطع لحجار بين الملگَ ولعظَم وادْويْرَتْ گيمي؟ أم أبدأ من عهد المدرسة الابتدائية و”گَرْتَ وبَسْكيتْ” و”امْبار بَنگَ”؟ لا أدري،،، ولا أدري عن أيّ محمد شين أكتب. هل أكتب عن محمد شين الإنسان، أم أكتب عن محمد شين الفنّان، أم محمد شين المناضل والزّعيم، أم المحامي والسياسي ؟ لا أدري!؟ إنّ حياة محمد شين كانت كلّها تَمَيُّزٌ وعطاء،،، بدأت بنجاح باهر في الدراسة تُوِّجَ بمسار مهني مميز. نال المرحوم شهادة البكلوريا وهو في المنفى بالسينغال من ثانويّة sacré-cœur بعد أن قاد بشجاعة واقتِدار إضرابا في ثانويّة روصو عام 1968/1969 طُرِد على إثره. ثمّ واصل دراسته بالجامِعة في تونس، وعاد إلى الوطن بشهادة اللصانص في القانون منتصف السبعينات. ودخل سلك المحامين ليصبح واحدا من أكثر المحامين الموريتانيين خِبرة وكفاءة. يقول زملاؤه بأنّ مرافعاته كانت “قمة في البلاغة القانونية والأدبية”. وبعد مدّة وجيزة، انتُخِب نقيبا لسلك المحامين الموريتانيّين. وكان رحمه الله حاضرا ومدافعا بطلا عن الحرية والعدالة في كلّ المناسبات. دافع عن “القَوميّين”(1979-80)، وعن جماعة 16 مارس (1981)، ونشطاء “الحُر”، وإخوتنا الزنوج (1987)، وجماعة البعثيّين (1989)، وغيرهم من سجناء الحرية والرّأي. وختَم مساره الحقوقي وأكمله بنشاط سياسي شجاع. لقد شمّر عن ساعديه وزَجَّ بنفسه في المعترك السياسي مع بداية تسعينات القرن الماضي،،، رشّح نفسه مستقِلاًّ في انتخابات الشيوخ (1992)، وفاز بمقعد “بابابي” على حساب مرشّح الحزب الحاكم ! محمد شين خُلق ليكون فائزا دائما وقِمّة في كلّ شيء؛ قمة في الأدب والظرافة والأخلاق والشجاعة والطموح والشموخ. عاشَ نَيفاً وأربعين فقط، بلغَ فيها من المعرفة والمال والجاه والمنزِلة ما لم يبلغه أحدٌ من جيله. وقَبل السياسة والقانون وبعدهما، كان المرحوم فنّانا ملهما جمَع بين التّقليد والتّجديد، والأصالة والإبداع. لقد حرّر الموسيقى من هَيمَنَة الإقطاع، وأخرجها من قبضة السلطة والأمراء والأثرياء ليضعها في متناول العمال والفلاّحين والفئات المضطهَدة . واستحق بذلك لقب فنّان الشعب، وفنّان الثّورة والنّضال، فنّان الكادحين… منْ منا لا يتذكر أغانيه: “مدُّو ليدين للكادحين”، و”يا الشعب أنت أمالك بيّ متن التليت”، و”اگْدِ واگْدِ، نار الثورة لاه تگدِ”،،، لايختلف إثنان في أنّ محمد شين كان رائد الأغنيّة السياسيّة الموريتانيّة الملتزِمَة. وقفَ بصَوته العَذب وأدائه المميّز إلى جانب الضعفاء والفقراء والمهمشين في الداخل، وتغنى بالقضية الفلسطينية وضد التمييز العنصري في الخارج. ودافع عن المضطهدين والمستضعفين في جميع أرجاء العالم. ولم ينشغِل بالدنيا عن الدار الآخرة. عرفناه مسلما يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمد رسول الله، ويصلي، ويزكّي، ويصوم، وحجّ البيتَ واعتَمر. عرفناهُ بارّا لوالدته (عَيَّه منت أحمد لوْلَه)، منفِقا من مالِه، محبّا للخير، حسن الخلق، ليِّنا هيِّنا، مدّاحا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بصوته الجميل. وتحضرني هنا بعض مختاراته الغنائيّة، ومنها: – قصائد البوصَيري، وخاصة عندما يردّد في “التحزام”: محمد أشــرَفُ الأعْـراب والعَجَـــــمِ @ مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَـــنْ يَمْشِي عَلَى قَـــــدَمِ محمدٌ بــاسـط المَـعـرُوف جَـــامــعةً @ محمدٌ صاحبُ الإحســـانِ والكـــــرمِ – ويعود إليه في “لِيَّن لبيَاظ”، ويُغَنّي: “فمـا لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتـا @ ومَــا لـقَـلـبـِكـ إنْ قُلْــتَ اسْتَــفِــقْ يَــهِمِ أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أنَّ الحُبَّ مُنْكتِــمٌ @ مــــا بَيْنَ مُـنْـسَـجِـم مِـنْهُ ومـضـطَـــرمِ” – ومن أشعار الولي الصالح امحمّد ولد أحمد يوره: “أيا غافِر الذّنب العظيم وساتِـرَه @ ويا من له ذلت رِقاب الجبابِرَه صنعتَ بنـــا في أوّل الأمـــر كلّه @ جميلاً، فأتبِع أوّل الأمـر آخِـرَه” وقوله: ياعَــگْـــل لا تَحْــــزَنْ @ واطرَحْ رصنَك واسْكَــنْ واعرَفْ عن مولْ المـنْ @ إيــــلا جَـاوْ اليَـــــــــالِ يُـصَــرِّفْ الامْــرٓ مِـنْ @ حـــــــالٍ إلى حَــــــــالِ – ومن أشعار الولي الصالح ولد آدبّه: دمع العين اليـوم ابْــلا فيهْ @ اجميل، اعْـلَ سبّـتْ لكتيلْ فرظ إسيل أُو لگبيل اعليهْ @ فرظ إسيل، ابْلا فيه اجميلْ تَـفْـگَــادْ الحْلّــه سَـــهَّــــانِ @ إلخ،،، أو قوله: كُـجـيــــلْ ألِّ ســـاكــــنْ لُــــدَيْ @ يَــوْگِ زاد ألَّ حـْسُّ حَيْ أُو حسْ اطيُورُ لخرين اشْوَيْ @ اشْمَذاك اتْگيّم لحساسْ إلخ،،، أو قوله: والله الـعـظـيـــــمْ الـكـريــــمْ @ يامْنادَم صابَح فَشَاريــــمْ واگْطَعْ تَنْيـامَل ماه اغْشيمْ @ واگطَعْ گطعْ الظّايَ وانْتَگْ إلخ،،، – وتوصيف أحوال الفقراء ومعاناتهم: – قصيدة معروف الرصافي: “لقَيتُها ليتني ما كنتُ ألقاها @ تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها أثوابُها رثَّــة والرِّجـلُ حــافِـيّة @ والدّمـعُ تـذرفُـه في الخَـدِّ عَـيـناها” إلخ،،،. – وگاف كان يردّده: گَلتِيـلِ نظحَكْ، ذيك لاشْ @ الظّحك أخبارُ ضايْقَه أنتِ عَــرْيَـــانَه، واوْداشْ @ مِـيَّــتْ والخَيْمَه فارقَة رحمة الله على روحه. كان يحلم بأن يرى شعبه وقد تحرّر من رواسب الماضي، وتجاوز الفوارق الطبقيّة والفئويّة والشّرائحيّة في دولة العَدل والمساواة. وكان يَعشَق الغِناء بنشيد المعارضة البركنِيّة للأستاذ بدر الدين: بَنِي بَـرْكـنا، شعبَنَـا المقتَـدِرْ @ على البَغْي والظّلم والعَسف ثُرْ ولا تخف صَـوتَــكـ واجهر به @ فمن شا أسَـــرَّ ومن شـــا جَــهَرْ – ومن قصائد الشاعر أحمدو ولد عبد القادر: فـي الجمـاهير تكمن المعجِزاتُ @ ومِـنَ الظّـلـم تُـولدُ الحرِّيـــاتُ ومن الليل سابِحا في الدياجي @ مُـدْلـهِـمّـا تحفُّـهُ الظّـلـمـــاتُ ينبعُ الفَجرُ مشرقا في الأعـالي @ إلخ،،، – وقوله: فَرحَةُ العيد أيْـقَـظـتْ ذِكريــاتي @ من صميمي وحرّكت خـطـراتي حَول ماضٍ عشناهُ دمعا وحزنا @ وانتَفَضنا منه انتِفاضَ الكُمـاةِ إلخ،،، محمد شين لم يُغَنِّ “للبَطارين” و”الاقطاعيّين” و”الكبَراء”،،، كان يُغَنّي للوَطن والشّعب ! وكما قلت آنفا، كانت حياته قصيرة عدَدا، ولكنّها عريضَة مدَدا. وسبحان الله، كان يردِّد دائما في مقام “لعتيگْ” (ابتَيتْ اجّانبَه البيظَه) قَول الشاعر صالح جودت:”لا تقولوا غدا فعُمري قليلُ @ هده اليأسُ والعَناءُ الثقيلُ” وكأنّه يتحدَّث عن نفسه… رحمه الله ! لم يكن أحد يستطيع أن يُنجِز ويُحقِّق في ال40 من العمر ما حقّقه محمد شين لما حباه الله به من محبّة ونصر وقبول لدى كلّ من رآه أو سمعه! نسأل الله الغَفور الرّحيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر له ويرحمه ويعف عنه ويكرم نزله ويوَسّع مدخله ويبارك في خَلَفه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. آمين، اللهم صلِّ وسلم وزِد وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.