الكيان وأعراض الشيخوخة المبكرة/ناجي محمد الإمام
بعد سن الخمسين تبدأ الأسئلة الكبرى تطرح نفسها على الإنسان الطبيعي العادي: ماذا أنجز ؟ وكيف تزود لمرحلة الشيخوخة؟ وبماذا تزود؟ وتختلف الأسئلة من شخص لآخر حسب العقل و العقلية و الطموح والمكتَسَب المعرفي والمدرسة الفكرية وحالة التدين .. لأن هذه المرحلة هي الاستحقاق الأساس في العمر.
وثمة تشابه كبير بين أعمار الأفراد وأعمار الدول لكن الفرق الجوهري بينهما هو في طبيعة الدولة باعتبارها تنظيما يحتضن الناس في كيان (مستمر) يعوض حتمية (فناء) الأفراد جيلا بعد جيل وتدافعهم بالانتخاب أو بالقوة ويؤمن بقاء ( الناس)… و من هنا أيضا تختلف الأسئلة لتصبح من نوع ضمانات استمرار الكيان في (الصحة ) التامة والإنتاج المتصاعد والاقتدار المتنامي والشباب الدائم ليعوض في طبيعته الدائمة مهام الفرد الزائل…. واستمرار هذا الكيان الناظم قائم أصلاً على “التواضع” و(التوافق) علي طبيعته ومقوماته ومكوناته وذاته وهويته، بحيث لا يتأتي خلاف على تلك المحددات، وحصر الإختلاف في رؤية كل مكون سياسي ومقاربته للنهوض ، وذاك ما يعبر عنه بالبرنامج السياسي و (الصراع) فيه صحي و ضروري ومن طبائع الأشياء، وما سواه تسلط وتنميط للحياة على غير تعدد ومآله الزوال.
قصور وتقصير الطبقة السياسية
ولقد بلغت” الجمهورية الإسلامية الموريتانية” هذه السن وزادت عليها أعواما، وانطرحت كل الأسئلة ولكن من خلال الظواهر المتفاقمة التي تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة ، لكن الأمر المُستغرب، هو أن ما يسمي بالطبقة السياسية ، بكل ألوانها وتلاوينها، باستثناء أفراد، لم تطرح يوما سؤالا جديا واحدا حول هذا (الكيان) و ما يعاني من اعتلال جسمي واختلال بنيوي، بلْ ظلَّ (الهَمَّ ) المسيطر أولاً وأخيراً علي تفكيرها و تنظيرها وبرامجها هو كيف يصل هذا أو ذاك إلى السلطة وكيف يقترب هذا منه لمساعدته على البقاء فيها أو الإستفراد بها، مما جعل الظواهر المرضية تتفاقم والإختلالات الخَلقية تتحول إلى أمراض مزمنة.
الطبقة السياسية
في غياب تعريف جامع مانع لمصطلح (الطبقة السياسية) فإننا في هذه البلاد، دَأَبْنَا علي استعماله تعريفاً لفئة (المشتغلين بالشأن السياسي العام).. وتتركب من أربع مكونات حصرا:
1) الرجال الذين كانوا في أصل الحكم الذي أقام الكيان في الأربعينيات أو الذين التحقوا به في مراحل تالية و وَرَثَتهم، بالأصل أو بالإنتماء …..وهم، بحكم العمر، في تناقص مستمر عددا و تأثيراً.
2) الزعماء القبليين و ممثلي كبريات العوائل الإثنية و المتنفذين بالمال.
3) زعماء و متميزي الحركات السياسية الفكرية التي ظهرت في البلاد في كافة المراحل، بدون استثناء، و دون حاجة إلى تفاصيل.
4) الأشخاص الذين حولتهم الأحكام الإستثنائية المتتالية، بضخ المال في جيوبهم و رشوة الأزلام و خلق الحواشي وتسخير النفوذ الإداري، إلى شخصيات تنافس بهم المجموعات أعلاه أو تقضي عليها، وأصبحوا بحكم الأمر القائم فاعلين سياسيين وأسماء معروفة. ويشكل هذا الصنف أغلبية في إجمالي الطبقة السياسية بحكم المال والتجربة وبقايا المنافذ المفتوحة على أجهزة الدولة.
ومن المهم أن نلاحظ ، خلافا لما هو شائعٌ، أن هذه المجموعات ضمت أفرادا من مختلف مكونات البلد إثنيا وشرائحيا، ولا سيما الأخيرتان(3 و 4).
التهافــــــــــــــــــــــــت : المُداراة.. ومال الدولة والترحال
إن حالة الترحال وتغيير الولاءات و(الميوعة) ميزت مشهدنا السياسي منذ إنشاء (الدولة؟) الحديثة، وهي ميراث أصيل لعهود (السيبة).. ففي أرض جرداء بلا موارد، مفتوحة بلا بوابات ، سائبة بلا رادع أو سلطان، يكون اللوذ ( بالأقوى) ذي النفع المادي المطلوب و الضر الجسدي المرهوب، ضرورة حياة وخيارا بلا بديل، و لما حل الإستعمار رَحَّلْنا إليه نفس الولاء وبنفس “التقية” التي ميزتنا في عهودنا المتطاولة: ”المداراة” و”التأويل” و” الإعتزال”..
وكما كان كل ذالك “المخزون” من المبررات ضروريا للحصول على نصيب من “آمكبل” و”العطايا” والترشيح “للمجالس الإقليمية” في سان الويس (اندر) فبنفس العقلية والأسلوب ظل العمل جاريا للوصول إلى مقعد في إحدى الغرفتين، قـبل استرضاء الناخب، وبَعْدَهُ، وظلَ الفوز بإحدى “الحسنيين” ضرورة “حياة” لا خيارا، كما كان الحال مع “الحاكم العام” وشيخ العامة” و”الأمير”…
ولَعَلَّ المرحلة التي حصل فيها الحدٌّ الأدنى من الشفافية (بَرْهَنَتْ) بما لا يترك مجالاً للشك على أن “سلطان” المال هو الخصم والحكم في أي استحقاق مهما بلغت شفافيته، والمال في بلد مثل بلدنا محصور في المالك الوحيد الذي هو”الدولة”، فلا غَنِيَّ إلاَّ وقد جاور خزينتها فترة من فترات “البقرة” الحلوب، في عهد من العهود. وهذا هو ”ســـرُّ” التهافت ” و(تهافت التهافت) على الوصول إلى “جنة” الحكم ” (بجَاِويًّا ) بكامل زينته، أو ، على الأقل ، (رديفا) على ” كفل” مريح …
وطالما أن الديمقراطية الشكلية قد أوصلتنا إلي المتاهة التي نعيش داخل نفقها المظلم.. ولأن الأمر لن يتغير إلا بتغيير شامل فليس أقل من أن نعيد قولبة (مشروع الدولة الحديثة) ليستجيب لمتطلبات البقاء والرقي، لأن البقاء بدون تقدم هو انتكاس لأساسيات الكيان…
السؤال الأســـــــــــــــاس: من نحـــن؟
اليوم والبلدان المحيطة بنا تشهد بلقنة لا سابقة لها، ومآسي و تمزقات تنذر بإغراقها في أتون حروب أهلية مهلكة؛ تمشي طبقتنا السياسية برشاقة على وقع الانتخابات والمناكفات والنكاية بعضها مع بعض وكأننا في سنة استحقاق استفتاء الكانتونات السويسرية، بينما يَسْرِي الماء الآسن تحت وسائدنا يحمل بذور الفتنة النتنة ويفتح الجراح المفتوحة أصلا، من مواجع المظالم التاريخية إلى الآنية ويمزق جسم المجتمع بمختلف مكوناته.
إن إعادة التأسيس ضرورة وطنية كبري ولا سيما في بعدها الثقافي والحضاري المحدد للهوية الجامعة المانعة التي لا يجوز البتة التطاول عليها أو التشكيك فيها، ولتحقيق ذلك لا بُدَّ من التداعي إلى نقاش الأمور العالقة بدون ممنوعات ولا خجل ولا مواربة:
*إن في كل بلدان العالم تساكن بين أقليات وأكثريات عرقية ودينية، ولا يوجد في الأرض شعب من عرق واحد كما لا توجد دولة من جنس واحد، ولا وجود لعرق نقي في أي بقعة من الدنيا ولكن غيرنا تجاوز العقدة بحلها، لا بإخفائها:
* إن تعدد الثقافات عامل ثراء و حيوية لكن يجب أن يحدد و أن لا يأخذ غير حجمه.
* إن الفئات الاجتماعية ظاهرة إنسانية وتشق كل الأعراق الموريتانية أفقيا بدون استثناء ويجب القضاء علي مظاهرها الظالمة بدون هوادة.
*إن لكل دولة في هذا العالم لغة رسمية يتعلمها الجميع و يعمل بها الجميع و يدافع عنها الجميع، وليس لأحد أن يكون مطية للغة أجنبية علي حساب لغته و بلده وشعبه.
* إن العدل أساس الحكم وأول العدل الحق في الثروة و تكافؤ الفرص في الكسب و التكسب
*إن العيش الكريم والحق في الصحة والتعليم هي المقدمة الأولى للديمقراطية، لأن الجائع المريض الأمي لا حرية له مهما كانت شفافية الصندوق.
وعندما يبدأ التداول في كيفية الرد علي هذه الأسئلة سنكون قد قطعنا شوطا مهما في استيعاب متطلبات بقاء شعب أبي كريم مثخن بالجراح على أرضه و نكون قد بدأنا طريق الألف ميــل بالخـطوة الأولى.