عن التحرش
الزمان انفو ـ كتب الأستاذ د. عباس أبرهام:
ظهرت الحركة الرافِضة للتحرّش في موريتانيا في سياق واضِح. عالميا كانت الحركة النسويّة الرافِضة للاستغلال الذكوري للسلطة من خلال إدراجه الجنس في المقايضات والعلاوات قد بلغت مداها وتحوّلت إلى حركة عالمية عشية إسقاط هارفي واينستين في الصّف الماضي. وبقدر ما كانت حركة “#me_too” عالميّة فإنّها كانت محليّة كذلك في مواضيعها.
للأمانة كان المدّْ الجديد من النسوية في موريتانيا قد استبق هذه الأشجان. ولكن الحديث ذو شجون، كما يُقال. فهذه الحركة كانت قد تخلّت عن التقوقع في كواليس المجتمع المدني (يجب الآن الاعتراف أنّ تحويل النضال اليساري إلى نضال مجتمع مدني ONGfication قد أضرّ بقضية اليسار ونخّبها وأبعدها من الشارِع)؛ وكانت قد امتعضت كثيراً من اصطفاف القوى المعادية للنسوية (اتحادات الأئمة وعلماء الدولة وبرلمانيها المتحالفين مع الإسلامويين) في إسقاط قانون النّوْع، الذي راهنت عليه القوى النسوية، سواء بشقِّها المجتمع-مدني أو بشقها الحادث من المناضلات الطلابيات.
ولكن يافطة رفض التحرّش لم تكن يافطة مطلبيّة بقدر ما كانت يافطة لا مساسيّة. فقد بلغت جرائم الاغتصاب مداها في مجتمع يزعم المحافظة، ناهيك عن جرائم الشرف التي تُوِّجت بثلاثة جرائم اغتيال وحشية لزوجات من قبل أزواجهن لأسباب تتعلّق بالشرف. وقد مثّل أحد الآباء السلطة الذكوريّة التقليديّة بالعفو عن قاتل ابنته وتشريع القتل على الشرف، ناهيك عن صهصهة الأُسر الكبيرة والمُركّبات العشائرية الذكورية على أصوات بناتِها المتذمِّرات علنياً من التحرّش. وفي هذا الإطار أُطلِق شِعار: #حمايتي_بالقانون_حقي
إلاّ أن الجزء الأهَمّْ من النضال ضدّ التحرّش هو مطالبة بمجال عمومي صحي. فمنذ الثمانينيات أصبح المجال العمومي في المدن الموريتانية الكبيرة مجالاً همجياً: يُسمَحُ فيه للرجال الغرباء، راكبين وراجلين، بمعاكسة الفتيات في الشارع لمجرّد أنهّن جميلات في أعينهم. ويُقال إنّ هذه ظاهرة بدوية؛ والواقِع أنّها ضدّ البداوة فقد أصبحت ممكنة فقط مع انفكاك المضارب وامتلاء المجال العام بغير بنات العَمّْ المُشوبقات والمجونسات والمؤقّتات. وسرعان ما تحوّلت هذه الظاهرة الهمجية إلى استصدار هؤلاء الرجال حقّ قطف الثمار الجنسية العموميّة بما فيه من الممارسات السادية، بالمعنى الأصلي، من اختزال المرأة في جسدها والشوبقة والتحاكك وضرب الأرداف وانتهاك الخصوصية. وهكذا صارت حريّة الفتيات في التجوّل دون مضايقة شبه معدومة.
جزء آخر من هذه الحركة الثائرة جاء من الطالبات والعاملات اللواتي شكين من معاكسات الأساتِذة والمُشغِّلين. تماماً كما في حركة هارفي واينستين: كلّ هؤلاء توقّعوا اقتطافات جنسية بسبب علاقة القوى التي تربطُهم بالفتيات.
إنّ من مطالب الحركة الرافِضة للتحرّش هو بناء عقد جندري جديد في المجتمع. يُسمح دوماً بالعلاقات الحرّة ما بين الرجال والنساء، بدل الزيجات الاجتماعية والصفقات العائلية؛ ولكن كما في كلّ العالم هنالك قوانين. هنالك أمكنة عموميّة محايدة، وهنالك أمكنة حميمية يُسمح فيها بالتعارف (ودوماً وفق الآداب). ومن الهمجي الاعتداء بالأبصار والتقدّم بالكلام، ناهيك عن المعاكسة، في الشوارع.
نعم هذه حركة حقوق، ولكنّها أيضاً حركة حركة تهذيب. يجب أنْ تُدعَم.
مجلة “المشاهد” الهنديّة تصدر العدد الأوّل للسنة الرّابعة خلال