ايديولوجيا القرية
الزمان انفو ـ قدر لي وانا المولود في انواكشوط ان ارحل في سن العاشرة الى القرية،لم يكن ذلك خياري ولن اتخذه اليوم ضد من يمكنني ارساله من عدمه،ليس لان القرية سيئة ولكن لأنني عشت سنوات حزن لا اعرف ليلها من نهارها.
اذكر ان اشيائي انواكشوطية اختفت بعد ايام،لقد انسلخت من جلدي بسرعة ،تاهت هويتي كلمح البصر..انها اشياء يحسها اطفال الآن في منافيهم ولايعبرون عنها..السلة الخيزارانية التى عبأها ابي بالسكاكر والمكسرات والشوكولاتات والياوورت وكلوغز (كان ابي يسمي كورن افلاكس كولوغز) وغيرها من الأغراض اختفت اذ وزعتها جدتي رحمها الله على اصدقائي الجدد،”اقاربي الذين هم امتدادي ومن طينتي ومن دمي”..انهم يختلفون عن جيلاني سيللا واكنين وكازا وامهادي واهل انواكشوط،انهم ابناء الصالحين، يلبس أحدهم الدراعة تماما كالكبار،وتحتها سروال قصير ارتسمت عليه خرائط صنعتها مسارات التبول الليلي،لكنهم رغم السن والتبرل كبار ويتحدثون كما الكبار. اختفت كرة المضرب التي جلبتها معي..بعد ايام رأيت الكبار يلعبون ” انجولدت” بها واذكر انني تلقيت اول علقة بضربة من “عارف” الذي يكبرني بسنين، كان القروي يصفي حساباته مع ” البورجوازي” المدني،(والدي معلم لكن من انواكشوط)..بكيت وحين عدت الى بيت اقاربي حيث اقيم اعترضتني جدتي بخطابها الذي سيلازمني لسنين: انت المخطئ،الأطفال هنا طيبون وكل واحد منهم تلقى تربية ورثها من اسلافه الصالحين،علقت المعلومة حلقة في اذني وفهمت منها انني الظالم دائما حتى وانا مظلوم.. في المدرسة فاجأتني صورة الخميني معلقة على الجدار،قلت تلقائيا: اتفو. قال لي المعلم: لماذا؟ قلت لأنه الخميني قال هل تعرفه،قلت نعم ثم اضفت من اغان تعلمتها من قيس جاري العراقي
بابا جابلي هدية دبابة وبندقية
راح انصير فالميدان
اطلب منك يارحمن تنصر الغالي صدام
بهت الرجل: وماذا ايضا غنيت
عيشة عيشة عراقية بنت القادسية
وواصلت مقلدا صدام من نص كتب على صورة جداية للرجل معلقة في بيتنا،كانت تلك الصور تقدم لنا مع كل خنشة تمر. “اننا لانريد الحرب مع ايران ولكننا قررنا ان نسترجع كل نقطة ارض عراقية اغتصبها الفرس،من كلام القائد صدام حسين. وهنا تلقيت نقرة على الرأس من ذلك المدرس الغاضب،اذهب،اجلس هناك فأنت بعثي،جميع الأطفال رددوا: بعثي،بعثي. اذكر انهم كانوا يرددون الكلمة متى صادفوني في الأزقة،ولم اعرف معناها..لا اذكر ان كنت سألت عن ذلك،لكنني بعد ايام وباختصار لم اعد بعثيا،وصرت كأهل القرية ممجدا للخميني صاحب اللحية البيضاء،كنت اذهب مع الأطفال ليلا الى التلة الشمالية،حيث بعض الرجال يجلسون وبينهم ميكرفون يتبادلونه ويتحدثون،ويهتف لهم آخرون بالتكبير بعد التكبير. لا اعرف ان كان من بينهم الزعيم الاخواني الراحل محمدي ولد خيري رحمه الله،لا اعرف لكنني افترض ذلك الآن. في الليل ننتشر في الأزقة ل ” تغيير المناكر” نضرب ونطارد ولنا الحق في ذلك ولا احد يلومنا..وفي المقابل ينشط بعض الوعاظ،ويتحدثون كثيرا عن النار والموت والآخرة ..حقا مازالت فرائصي ترتعد حين اتذكر سفراتي الليلية من غرب المدينة الى شرقها حيث المرابط محمدو رحمه الله، ولوحي الذي يكبرني بسنتيميترات..كنت اخاف ظلي والجان والأموات خاصة انني فقدت صديقا لي في تلك السن،مات،دفنوه،لم يعد له من اثر،ربما التهمته الغربان السود التي كانت تحوم حول التخوم في انتظار الدابة التي ستنفق،انه الجفاف والموت والحر والأرز والسردين وسفتي و،،آه من تلك الأشياء التي كانت ترعبني وتخيفني وتخلق مني انسانا يخاف من كل شيئ وبخاصة البرق والعقارب والسيارات.كان علي ان اتقبل حقيقة اننا محفوفون بصحراء تبتلع الناس،وكنت ككل الناس اتلقى تلك الأخبار المرعبة من قبيل فلان تاه وعثر عليه الجمع ميتا على بعد كلمتر او اثنين من القرية،مات عطشا،لم يستطع المواصلة،السيارة التي وصلت من رحلتها اليومية الى العاصمة عليها ان تبحث ليلا عن تائه آخر..هدأة الليل لايقطعها الا اصوات الصيحات القادمة من اوبرا ” البريكة” فهناك يغني ” السوادين” المنهكون ويرقصون،انه عالمهم الخاص،تسمعهم يرددون ” كرموصة زينة،توكله امينه” دون ان تجد معنى عميقا وراء تلك الكلمات(حلو لذيذة تأكلها امينة)،لايهم،فعلى الأقل ستشغل اذني عن ازيز الرياح على الأسقف الصفيحية،والذي طالما حرمني النوم وسلمني للكوابيس،من يطل من النافذة؟ لا احد!!!بعد اشهر قليلة اصبحت واحدا منهم واندمجت..اعتقدت انني يتيم لفترة لا استكنهها الآن،الى ان زارنا الوالد،كان حليقا وبذقن طويل،يجالسه رجلان من الحي يصغرانه كثيرا لكنهما يكرهان معه الخميني ويمجدان صدام والعرب..لاحظت انهم يدخلون في حوارات مع من يحضرون عادة “آطواجين”قريبتي مضيفة والدي الكريمة،ينتهي الطعام يختفي الجمع،غدا سيعودون بخمينياتهم ويعود والدي وصديقاه ببعثياتهم،وهكذا انعم بأيام ثم يذهب الوالد ويتحلل طعم الشوكولا في فمي واعود الى حياتي كقروي مع اناس يهتمون كثيرا للموت والآخرة ولايولون كبير اهتمام للأشياء التي تركتها في انواكشوط.. بعد سنوات في انواكشوط عدت الى قريتي فاذا الجميع يسبحون بحمد البعث وصدام وام المعارك والثورة العربية..ثم بعد سنوات اخرى ظهر ملتحون يدينون باسلام ليس الذي عهدناه لكنهم لايمجدون الخميني،ثم جاء آخرون يحملون افكارا مسلحة هذه المرة.وجاءت سنوات اخرى ليلتبس الأمر ايما التباس على سكان القرية وعلي وعلى القرية الكونية ككل.. ” مقطع من قصاصات الطفولة”
من الصفحة الزمبل محمدالأمين محمودي على الفيس