عتبات النص ودلالتها في رواية “أعشقني” لسناء شعلان
بقلم :عمر المحبوب/ طنجة/ المغرب
الزمان انفو ـ لم تعد العتبات النصية بتلك البساطة مجرد علامات بكماء خالية من التشويق والإثارة بل غدت خطابات أدبية غنية الدلالات وملفوظات إشارية ذكية التبلور. هذا ما أوضحه الباحث الناقد المغربي “عبدالمالك أشهبون” في مقدمة كتابه “العنوان في الرواية العربية” والذي رأى فيه أهمية العتبات النصية التي تشتمل أيضا إضافة إلى عناصر الغلاف الخارجية العتبات الداخلية المتمثلة بالإهداء والتنبيهات والهوامش والتذييلات أي التي من دونها يبدو النص عاريا من سماته.
كما هو معلوم يقول الاشقاء المصريون “الكتاب يعرف من عنوانه ” وهذا قول قديم يحمل دلالات متعددة. يحمل هذا القول فرضية ان العنوان هو اهم مفتاح لباب فهم معاني عالم الكتاب. هذا القول استمد شرعيته ربما من اغلب العناوين قديما كانت تلخص مضمون الكتب ، أو تؤشر وتحيل على معانيها فيما كانت العناوين الملتبسة والجديدة مرفوضة بالمطلق من طرف النقاد القدامى الذين كانوا يرون في تلك العتبة أمرا بسيطا ، ولا يجب إعارته الكثير من الاهتمام.
“لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، تغيرت الأمور، وأصبح الكتاب الروائيون العرب يولون اهتماما نسبيا لعناوين نصوصهم، وأضحى الاهتمام بالعنوان “ظاهرة نقدية طارئة” على مستوى النقد العربي الحديث، الذي أصبح ينظر في عتبات النص، من مثل العتبات الواقعة في الصفحة الأولى من الرواية، من اسم المؤلف، والتعيين الجنسي، وصورة الغلاف، والعنوان، أو العتبات الواقعة داخل العمل الروائي نفسه، من إهداء، ومقدمات، وعبارات توجيهية، وتنبيهات، وهوامش، وتذييلات، إضافة إلى ما يثبت في الصفحة الرابعة من المؤلف الأدبي، والمتعلقة بالكتاب، وعدد صفحاته، وناشره، إذ ظهرت مجموعة من الدراسات النقدية الرائدة في المجال، التي كانت لها مزية تحقيق السبق في عرض الأفكار النقدية الجديدة حول عتبات النص، التي لم تعد مجرد علامات نصية بكماء، خالية من التشويق، والإثارة، والدلالة”.([1])
وارتباطا بهذا الموضوع سأقتصر في هذه الورقات على الحديث عن بعض العتبات داخل هذه الرواية”أَعْشَقُنـــي”ودلالاتها بطبيعة الحال. وهذه اهم العتبات التي سأشتغل عليها هنا : العنوان، الغلاف ،التصدير ،الاهداء ،المقدمة ،ثم الافتتاحية.
كلمة عن العنوان
رواية ” أَعْشَقُنـــي” هي من الرّوايات العربيّة القليلة جدّاً التي تحمل اسماً يتكوّن من جملة فعليّة كاملة في حين معظم الرّوايات تحمل اسماً لا غير أو جملة منقوصة تبدأ باسم أو بظرف أو بحرف جرّ كما تجسد الامثلة اسفله، (اقتصرت على عناوين بعض الروايات العربية التي صدرت مابين سنة 2010 و 2014 والتي لاقت انتشارا هي الاخرى بين اوساط القراء العرب ):
1-“فراكنشتاين في بغداد” للكاتب العراقيأحمد سعداوي 2-“الفيل الازرق” للكاتب المصري الشاب احمد مراد
3 -“في حضرة العنقاء والخل الوفي” للروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل 4 -“لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” للروائي السوري خالد خليفة 5 – “رواية فرسان وكهنة” للروائي السعوديمنذر القباني 6- “موسم صيد الزنجور” للمغربي اسماعيل غزالي .
لقد تمردت الاديبة الروائية سناء شعلان هنا على العرف العربي الخاص باختيار العنوان لتغرد خارج السرب كما يقال: اختارت لروايتها عنوانا في صيغة جملة فعلية تتكون من كلمة / فعل مضارع (أَعْشَقُني)يكون العاشق والمعشوق فيه واحدا. هذا الزمن المضارع الذي قد يحيل على الأبدية ويغي تخليد اللحظة ؛ خلود الحب و خلود لحظة العشق هنا .كما قد يحيل هذا المضارع الى هيمنة هذا الموضوع( موضوع العشق) ويلخص حالة القلق التي جعلتها الكاتبة بوابة نحو عوالم الرواية .
ان “أَعْشَقُني”جملة فعليّة كاملة بعيدة البعد كلّه عن السّكون، تجسد حالة فعل مستمر، فعل موصول لا ينتهي.
هذا التمرد ان صح القول على مستوى اختيار العنوان ،وعلى مستوى الشكل( ترك صفحات بيضاء داخل الرواية: 4 -8 – 10 وتخصيص الصفحة 11 لمحتويات الرواية (الفصول الثمانية) ، قابله تمرد من نوع اخر تجسد في ثورة الكاتبة وصرختها الغاضبة عن هذا العالم البشري الذي تفنن في ابداع اشكال الخراب والدمار ،لكن عجز في المقابل عن ابداع اشكال العشق والمحبة .انه عالم انقرض فيه فعل العشق منذ اعوام خلت .
لاشك ان الكاتبة هنا قد تعمدت شكل العنوان لتلغي ذلك التّأويل الأوّلي الذي قد يقود الكثيرين إلى الظّن أن “أَعْشَقُني” هي جملة فعلية آمرة أي “اِعْشَقْنِي ” ؛وهنا ستكون الكاتبة أو البطلة تستجدي العشق من المّارة واصحاب المشاعر الجافة في عالم بشري اصبح يعمه الخراب والخواء ،عالم حابل بمفارقاته وتناقضاته الصارخة ،عالم يشهد تطور اعتى وسائل الفتك والإرهاب والإبادة لكن يشهد في المقابل اعلى درجات الجفاء والخواء العاطفي . هذا العالم الذي سيفرز لنا وضعا إنسانيا يشكل القلق،الحيرة والضياع ابرز سماته. وفي هذا العالم بالذات يتولد هذا العشق المتفرد الذي يفك شفرة رمزية العنوان :
” يا لجمال قدر يقودني إلى أن أعشقها!! أقصد أعشق جسدها،بل أعشق روحها وذاتها،من الصّعب أن أشرح لنفسي هذه القضية الملتبسة،فأنا أعشق امرأة هي أنا في واقع الحقيقة الملموس،وأنا إيّاها في السّياق المنطقيّ نفسه،ولكنّ الحقيقة أنّني رجلّ يعشق امرأة في ظروف عجيبة،إذ هو ماديّاً مفقود،وهي روحانيّاً مفقودة،ولكن كلانا في هذه اللّحظة في ذات واحدة،هي إيّاها وإيّاي،إذن أنا أَعْشَقُني،ولذلك فأنا أعشقُها.
لابدّ أنّ هذه القضية أكبر من فهمكِ الصّغير يا ورد،يوماً ما ستكبر،وتفهم معنى ما يحدث،وستفهم دون غيركَ من البشر معنى كلمة أَعْشَقُني،أنا يا وردي أَعْشَقُني،أتعرف معنى ذلك؟معناه أنّني أعشق أمّكَ شمس بامتداد لا يعرف نهاية،فهل تغضب؟تستطيع أن تركلني بقدر ما تشاء إن كنتَ حانقاً علي،ولكن ذلك لن يغيّر شيئاً من حقيقة أنّني أَ…عْ…شَ…قُ..نِ…ي…”.* سناء شعلان:أعشقني،ط3، 2016،عمان،الأردن،ص 82
ان هذا العشق يمثل الترياق السحري او ذلك الماء المبارك الذي ارتوت منه الكاتبة في رحلتها : او بالأحرى رحلة “باسل المهري ” ؛ والذي كان يعيش ويصارع أزمة فكريّة وأخلاقيّة وإنسانيّة وعقائديّة ونفسيّة نحو ذّاته. “باسل المهري”الذي لم يعرف الحب طريقا الى قلبه الا بعد تلك الرحلة القدرية التيساقته لان يحيا داخل جسد اخر (جسد ” شمس” الملقّبة بالنّبيّة). وكان “شمس ” تخاطبه بلسان مولانا جلال الدين الرومي “وتقول له :
“ما لم نتعلّم كيف نحبّ خلق الله، فلن تستطيع أن نحبّ حقاً ولن نعرف الله حقاً”
و”ان الطريق إلي الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيسي واجه ، تحد ،وتغلب في نهاية المطاف على النفس بقلبك إن معرفتك بنفسك ستقودك إلي معرفة الله”.
هذا من جهة ، ومن جهة اخرى نستشف انالجسد الانثوي “لشمس ” خلق له صراعا داخليا،اذ تارجحت مواقفهبين قبول هذا الجسد او النفور منه. فهو كان يتمثل هذا الجسد بشكل مختلف في السابق( اشارة ضمنية هنا الى ثقافة او صورة الجسد الانثوي عند الرجل العربي).
وعودة لذلك الماء المبارك او الترياق فنجده ايضا مصدر ارتواء “شمس” النبية في رحلة انتظارها لخالد الكائن اللغوي الياسميني النادر. رحلة استمدت زادها بطبيعة الحال من طاقة هذا البعد الخامس (الحب).هذا العشق المقترن بلذة الاشتهاء والبلل الذي اختارته الكاتبة على لسان “خالد” ان يكون صوفيا ، حيث جاءت رسائل خالد لشمس تحمل قبسات ونفحات صوفية :
“انا لااحبك ،انا اصل الي منك ،ولاادخل الى ذاتي التي صرتها انت ،انت انا ،وانا انت ،وعشقي بوتقة لانصهار تفاصيلي ومفاصلي وازمنتي…..”اشتهيك :خالد،ص .133
“……اعلمي ان حبي لك حبا صوفيا لاتقوى اللغة على وصفه ،ووحده الجسد حين يتحدث يقترب من المعنى ،ويمكنه ان يجعل من الدال مدلولا لقواميس العشق كلها “. اشتهيك:خالد ص ،134
ويحيلنا مضمون الرسالة الاولى بشكل مباشر على فكرة الحلول التي تعتبر احد مرتكزات الفكر الصوفي. وهذا ما يعلن بشكل صريح في مذكرة “شمس” عن “خالد”:
” …انا اقبل شمس على أي حال تكون،فاصير صوفيا بامتياز ،يتحقق لي الحلول ،فاصبح انا انت ،وانت انا ،وليس سوانا غير انانا.نعم اريد ان اعريك،وان اتمرغ في كل جزء من جسدك العارف بأمر العشق ،اريد ان اتصبب لذة”.ص 193.
وفي هذا الاطار يعتبر الباحث “هشام العلوي” المرأة عند المتصوف معبر للتسامي ،وان التواصل مع جسد المرأة عبر النكاح اختبار للوصول الى تجربة الفناء في الذات الالهية ،حيث تغدو المرأة موضوعا استعماليا يطلبه السالك من اجل العبور الى موضوع القيمة الحقيقي “الله” .
كما” جعل الصوفي من الجسد الانثوي قبسا من الجماليات الالهية وبالتالي اجمل واعظم مظهر من مظاهر الالوهية المبدعة. فهو يسمو بالجسد الانثوي الى اعلى مرتبة في الوجود :مرتبة الكمال الوجودي”.([2])
كلمة عن الغلاف:
ان الطبعة التي بين ايدينا الان هي الطبعة الثالثة التي صدرت سنة 2016. ولقد صدرت هذه الرّواية قبل ذلك في طبعتين؛ الأولى صدرت في العام 2012، في حين صدرت الثّانية في عام 2014.
في غلاف هذه الطبعة الثالثة ،تطل علينا الكاتبة بصورة لملامح وجهها البهي وتقاسيمه الجميلة ،يؤثث اللون الاحمر كل مساحة الغلاف ؛وذلك من خلال لون الشال/الوشاح الاحمر الذي تضعه الكاتبة على راسها ،ولمعان وبريق احمر الشفاه الذي اختارته ان يكون احمرا بدوره ايضا . كما تضفي القروط(على شكل ورود صغيرة) على انف وجبهة الكاتبة بريقا ولمعانا اخاذا.
وتحت هذا الوجه مباشرة يتوسط عنوان الرواية “اعشقني” بالأبيض في خط واضح ،عريض، كبير ومشكول . وفي حين تموقع جنس الكتاب (رواية) على جهة اليسار تحت العنوان في احمر قاني ، جاء اسم الكاتبة “سناء شعلان” بالأبيض على غرار العنوان.
فكما هو معروف فالأبيض يدل على الثراء والتحضر والرقي والتهذب والصفاء والسلام والاشراق والنقاء والبراءة .
وفي هذا الصدد يقول الباحث المصري عمرأحمد مختار:”لما كان هذا اللون مرتبطا عند معظم الشعوب- بما فيهم العرب- بالطهر والنقاء استخدمه العرب القدماء في تعبيرات تدل على ذلك، فقالوا: كلام أبيض، وقالوا: يد بيضاء. واستخدموا البياض للمدح بالكرم ونقاء العرض من العيوب. ولارتباطه بالضوء وبياض النهار استخدموه في تعبيرات تدل على ذلك[…] وأطلقوا على الحنطة وعلى الشمس اسم: البيضاء. وقالوا: الأيام البيض لليالي 13،14،15 لأنّ القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها”.([3])
ان غلاف الرواية هنا يتفجر دما ان صح القول، وكما هو معروف فاللون الاحمر يحمل سمة القتل المصبوغ بدم الشعوب والموت والجحيم، فكل شيء اصبح دمويا في هذا العالم كما يصرح بذلك احد الباحثين بخصوص حضور اللون الاحمر في اغلفة الاعمال الادبية.
لكن اذا كان االلّون الأحمر ارتبط في المخيال العربيّ بالدم والثورة والشهوة والشرف،فان الكاتبة اختارت ان تمنحه دلالة اخرى في هذه الرواية ليرمز الى التشبت بالحياة ،هذه الحياة التي لن تستقيم في نظر الكاتبة الا عبرالارتواء من نهر العشق المقرون بالشهوة كما شهدت رسائل “خالد” لشمس” على ذلك ( اشتهيك : خالد ).هذا الانتصار للحياة الذي تترجمه العبارات التالية:
“ان القلب يتسع حتى يضيق العالم ،ان القلب يستطيع ان يحمل بين عرائشه الصور الجميلة كلها”. ص 9
“بلسان البشرية :اقول ان هناك ما يستحق المحاولة في هذه الحياة”. ص 151.
“الايمان بان الحياة ثمينة ،ويجب ان تعاش حتى استنفاد الفرص جميعها “.ص 152
ان هذا اللون الاحمر هو اكثر الالوان ارتباطا بالحب وبالعاطفة والاثارة الجنسية ايضا. ولهذا نجد من اطلق عليه صفة “الأحمر “العاطفي”.فما هي دلالة هذا الارتباط ؟
“ربما لأن القلب يخفق بسرعة لدى الإحساس بعاطفة معينة، أو ربما لأن الوجنتين تتوردان، وربما لأن الأحمر لون دافئ، وربما لأن الورد الأحمر هو الأقوى حضوراً أمام البصر، أصبح اللون الأحمر في المجتمعات الغربية رمزاً للعاطفة وللتعبير عنها. أما إذا تدنت العواطف إلى مستويات غير أخلاقية أو غير مقبولة اجتماعياً، فيصبح الأحمر رمزاً للخطيئة والسوء. فمن هولندا إلى الهند توصم الأحياء التي تنتشر فيها أعمال السوء والرذيلة في المدن بـ “الأحياء الحمراء”، كما توسم ليالي الصخب والمجون بـ “الليالي الحمراء “….. هذا اللون الذي «نحبه في الورد, ننصاع لأمره في إشارة المرور، نتألم لرؤيته على الجرح، نحترمه في رمزيته لدماء الشهداء، ويحبطنا في البورصة” ([4])
دلالاته
خصائصه
-مثير
*بلغة علم النفس، يرتبط اللون الأحمر بالدفء والطاقة الإيجابية والاندفاع وقد
برهن علماء من جامعة Mancheste أن شفتي المرأة الملونتين بالأحمر، أكثر جاذبية للجنس الآخر.([5])
-يدلّ على الحب والجرأة
-يوحي بالحرارة والنار وتحرر الطاقة ويودي الى زيادة الضغط الدموي وزيادة ضربات القلب
-لون الحب والعشق ولون تورد الوجنتان
-لون الدم الذي يرتبط بجريانه اوقد يرتبط بجرحه
-لون قد يقرن بالاحتفالات
-قيل انه اول لون تم اكتشافه واستخدامه
-هناك من يعتبره من الالوان الساخنة
-براق ومتالق
وارتباطا بهذا الحضور القوي للأحمر داخل صورة الغلاف ارتأيت الا شارة الى بعض خصائص و دلالات هذا الاحمر ذو الرمزية القوية.
كلمة عن التصدير :
“خالد” واسئلة الانتظار
الى متى تظل صامتا يا خالد ، واظل العب معك لعبة التخفي ؟!
متى يعرف الجميع انك حقيقة نابضة بالإحساس والجمال والتفلت والثورة والصخب اللذيذ ؟ متى يرون ملامحك النبيلة ؟ ويسمعون كلماتك الندية ؟متى يسمعون صوتك الشجي المترع بصوت الجبال البعيدة والرجال الاشاوس ؟ متى يعرفون ان سلالة الرجال المخلوقين من الياسمين والوجيب لم تنقرض بعد ؟! متى اقول لكل من يسال عنك انك هناك في البعيد حيث البرد والصقيع تكتب ترنيمة عشق وتصاد شموسا واقمارا بصدرك العاري من الحقد والبغضاء؟! متى اقول للجميع انك حقيقة راسخة في زمن الردة والريبة ؟!متى تعود بمواسم الفرح والحب وجنى الحقيقة السابحة في الازل؟
خالد انتظرك..
شمس وسناء
يقال ان الزمن غالبا ما يأخذ ايقاعا بطيئا في نفسية العشاق. كما يرتبط فعل العشق دائما بفعل الانتظاروان المُنْتَظِر دائما ما يطول عمر زمانه . لكن في عمق هذا الانتظار تنبعث مشاعر البوح واللوعة والولع الذي يختلج صدر “شمس” تجاه “خالد”. وفي موجة هذا الشوق والانتظار تبادر هي الى الافصاح عن المشاعر التي تكنها “لخالد”. وفي الوقت الذي نرى ان رسائلها تتذيلها كلمة (انتظرك) نجد كل رسائل “خالد” تنتهي بكلمة :(اشتهيك).
ايمكن القول هنا ان الكاتبة تكرس الثقافة العربية المرتبطة بالبوح عن مشاعرالعشق بين الرجل والمراة؟
ففيحين تبادر “شمس” الى البوح بمشاعرها الجياشة،يختار خالد مسارا اخر ؛مسارا يطبعه الصمت ويغيب فيه البوح بشكل شفوي لكن تحضر فيه الكلمة المكتوبة.
وهنا قد نتساءل :اقدر على الرجل (العربي خاصة) ،ام اختار العمل بالقاعدة الذهبية “الصمت من ذهب “؟ افي صمته هذا سلامة له ؟
“صحيح ان الرجل لا يبوح لفظاً إلا نزراً أو لضرورات الخطوات الأولى في العشق، غير انه يبوح مواربة عن طريق الكتابة التي كرّست الفحولة المكتوبة.
……الصمت كلام الرجال، عبارة تحمل من التضاد بين مبتدئها وخبرها بقدر ما تحمل من بصمات التاريخ الصامت للرجل. الرجل لا يحكي، ليس أي نوع من الحكي، وإنّما الحكي الذي يلامس منه الأماكن الجوّانية،الدافئة، أي الحكي عن ذاته، رغباته، مشاعره، مخاوفه، عواطفه. تتّهم المرأة دائما الرجل بالصمت، داخل البيت، لا خارجه، أي ان نوعا من الكلام، لا تسمح له فحولته المتراكمة كالغبار عبر الأجيال ان ينطق به، كالكلام على حبّه، أو على تفانيه وإخلاصه”.([6])
وفي سؤال الانتظار هذا،تعلنها الكاتبة صراحة منذ البداية لتضم صوتها لصوت “شمس” وتشاركها لوعة الانتظار كما تشاركها امالها وانتصار رهانها بان سلالة الرجال المخلوقين من الياسمين لم تنقرض بعد.
يتحقق الجمال فقط في حضور “خالد” وفي غيابه يحضر اللامعنى ؛ هذا المخلوق “الياسميني” (اشارة الى اللطف، والرقّة، والحبّ) والكائن العاشق المحب النادر الذي يرتبط فعل الكتابة لديه ارتباطا وجوديا بفعل العشق. انه الفعل الوجودي الذي يربطه ويحتضن عشقه الخالد” لشمس” :هذا العشق الذي يجسد وحده الحقيقة الثابتة في هذا الكون في زمن تعمه الريبة والشك.
ان هذا الانتظار المولد لحالة القلق لدى الكاتبة تجيب عليه في الصفحة الموالية(6) بالجملة التقريرية الاتية :
“خالد ليس خيالا، بل حقيقة، ولا يمكن ان يكون الا حقيقة “.هذه الجملة التقريرية التي امضيت بإمضاء اسم الكاتبة “سناء”وليس اسم “شمس” بطلة الرواية.هي حقيقة تعمدت الكاتبة ان تجعلها تشغل كل الحيز المكاني داخل الصفحة اشارة الى انها هي مركز وقطب الرحى الذي تدور حوله كل احداث الرواية .
كلمة عن الاهداء
الى نبية البعد الخامس في عالمي ،
الى صاحبة اكبر قلب واجمل حب
الى امي
ومن غيرها يحترف العطاء والحب،
ويحمل راية الحب الخالد ؟
اختارت الكاتبة هنا ان تجعل من الاهداء بمثابة جزء من الرواية ؛بمثابة تلك الشفرات التوجيهية التي تقود نحو عالم الرواية ؛ عالم “شمس” نبية البعد الخامس التي اعطت من ذاتها ، طاقتها ،روحها وجسدها لتمنح ذوات اخرى حياة جديدة .
لقد اختارت الكاتبة في هذه الرواية امها( خزان الحب و العطاء) لتكون نبية البعد الخامس في مجرتها الصغيرة (العائلة) لما لرمزية حضورها في حياتها وفي حياتنا نحن البشر .انها(الام) ممن قال عنهم “جبران خليل جبران”: “و هنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم و لا يتطلبون فرحا و لا يرغبون في إذاعة فضائلهم هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي
بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله و من خلال عيونهم يبتسم على الأرض”.
كلمة عن المقدمة : “عندما يحضر خالد، تغيب الاشياء كلها فهو اله الحضور الجميل”،”شمس”.
انه يختزل الكون في حضوره، بل انه الجمع بصيغة المفرد في حياتها.فهي ترى العالم من خلاله بحيث يجسد بطاقة تعريفها واتباث هويتها. كما يشير اغلب النقاد، تبقى المقدمة احدى عتبات النص التي تشد انتباهنا ،انها قراءة يمارسها المؤلف على نصه ليوجه القارئ الى استراتيجيات الاستقبال لديه ،ويحدد مسارات تلقيه ، وهي كلمة يمهد فيها الروائي للقارئ دخول عالم الرواية الساحر.
انها في هذه الرواية تأخذ طابعا توجيهيا محضا ترسم لنا من خلالها الكاتبة خارطة طريق العبور الى عالم الرواية ؛عالم يستمد طاقته وروحه من جمال “خالد” اله الحضور الجميل (طابع القداسة).
كلمة عن دلالة افتتاحيّة الرّواية:
” وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق،أنا لستُ ضدّ أبعاد الطّول والعرض والارتفاع والزّمان،ولستُ معنية بتفكيك نظرية إينشتاين التي يدركها ،ويفهمها جيداً حتى أكثر الطّلبة تواضعاً في الذّكاء والاجتهاد في أيّ مدرسة من مدارس هذا الكوكب الصّغير،ولكنّني أعلم علم اليقين والمؤمنين والعالمين والعارفين والدّارين وورثة المتصوّفة والعشّاق المنقرضين منذ آلاف السّنين أنّ الحبّ هو البُعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا،وحده الحبّ هو الكفيل بإحياء هذا الموات،وبعث الجمال في هذا الخراب الإلكترونيّ البشع،وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض قلب،وفلسفة انعتاق لحظة،أنا كافرة بكلّ الأبعاد خلا هذا البعد الخامس الجميل،أنا نبيّة هذا العصر الإلكترونيّ المقيت،فهل من مؤمنين ؟ لأكون وخالد وجنينا القادم المؤمنين الشّجعان في هذا البُعد الجميل. خالد أنا أحبّكَ،وأحبّ جنينا كما ينبغي لنبيّة عاشقة أن تحبّ…”(*)
*نوع الملف سري
-تاريخ الملف: غير محدد من العام 3010 م.
-اسم الملف:البعد الخامس.
-نوع الحافظة: حزمة ضوئية مكتوبة.
-نوع الملكية :شخصي س/س/خ للعام 3010م /مصادر لحساب شركة المخابرات المركزيةلمجرة درب التبانة
-مرافقات الملف :زهرة برية مجففة مجهولة الفائدة او التفاصيل او الغرض.
تستهل الكاتبة افتتاحية النص الروائي “اعشقني” بإحدى يوميات “شمس ” النبية العاشقة.وتختزل هذه الافتتاحية فلسفة الرواية التي تدور احداثها حول تنبؤات المستقبل والتطور التكنولوجي وما يقابله من تبلد وجفاء في المشاعر الانسانية النبيلة المتمثلة في انقراض انبل و ارقى هذه المشاعر . لقد انتصرت هنا الكاتبة لقوة البعد الخامس ؛ هذه التميمة السحرية كما سمتها هي القادرة على بعث الحياة من جديد في هذا العالم الالكتروني البشع ؛ عالم اصبح فيه الانسان مجرد رقم داخل سلسلة كبيرة من الارقام. ان الكاتبة هنا تضم صوتها لصوت مولانا “جلال الدين الرومي” ،اذ يقول : “الحُبُّ هو العِلَّة، الحُبُّ هو المَعلُول”.
إنهم مشغولون بالدماء ، بالفناء .. أما نحن فمشغولون بالبقاء .. هم يدقون طبول الحرب ، نحن لا ندق إلا طبول الحب”
ولقد جاءت هذه الافتتاحية على شكل جملة توكيدية مضمونها ان انتظام هذا الكون العملاق لن يستقيم الا في حضور هذا البعد الخامس (الحب) . فقد صار هذا الإنسان يعيش داخل مجتمعات اختلط فيها الحابل بالنابل،وضاعت في لوالب تقدمها العلمي والتكنولوجي كل القيم والمثل العليا.
ففي ظل هذا العصر الالكتروني والمظاهر المادية الباذخة التي تؤثث الوسط الذي تعيش فيه بعض المجتمعات والعربية منها بشكل خاص صار الإنسان يعيش داخليا واقعا مأساويا. صار الإنسان يحس بعبثية الحياة وخوائها اكثر فاكثر. ان هذه الاخيرة اصبحت تحتاج لطاقة كامنة لا عادة بعثها واعطاءها معنى من جديد ،لاعادة بناء وتشكيل معنى لهذا العالم ككل.
انه عالميشترك في خصائصه مع العالم الذي تحدث عنه الناقد و الباحث المغربي الدكتور سعيد كريمي:
” …لم يعد هناك أي نوع من الانسجام بين إرادة القلب الداعية إلى الطمأنينة والسكينة وإرادة العقل التي تدفع في اتجاه تحديث نمط الحياة ولو على حساب المبادئ الكبرى وإنسانية الإنسان! وبذلك صار كل فرد في هذه المجتمعات “سيزيفا” يحمل صخرته على كتفه،وهو يعلم مبدئيا أنه لا أمل له إطلاقا في تحقيق مبتغاه. مما يجعل كل مجهوداته في الحياة عبثا ونشازا”.([7])
اما فيما يخص اليوميات ،فكما هو معلوم هي عبارة عن :
” الكتابات التي ندون فيها الأحداث التي تترك أثراً ما فينا أو في محيطنا يوماً بيوم. ……، لذا فهي عبارة عن سيرة ذاتية يومية. …..مصدرنا الأساسي في كتابة اليوميات هي أفكارنا الشخصية و ما نعيشها شخصياً من أحداث و ما نبديها من مواقف و ما ننطقها من أقوال و مناقشات. فنحنُ لا نعتمد في تدوين يومياتنا الشخصية على أي مصدر خارجي”. كثيراً ما نكتب الأمور التي لا نود قولها للآخرين أو لا نريد مشاركة الغير بها…… فنحنُ نكتب عواطفنا و مواقفنا الشخصية، نكتب فرحتنا و غضبنا، حزننا و سرورنا، آلامنا و أشواقنا، انكساراتنا و نجاحاتنا، أملنا و يأسنا، و أحياناً نكتب ما نخشى قوله لأسباب موضوعية أو شخصية. لذا تعد يومياتنا من أكثر خصوصياتنا الذاتية و عالمنا الداخلي و حافظ أسرارنا و صديقنا الصبور الذي يستمع إلينا و لا يبوح بأي شيء. فدفاتر اليوميات هي مصدر للراحة و التنفيس عن الذات. فنحنُ نهرع إلى دفاترنا و نكتب كلما طغت زبد بحور العاطفة وهاجت الأمواج، و بعدما ننتهي من الكتابة نشعر براحة كبيرة و كأننا قد ألقينا عن كاهلنا أثقال الدنيا كلها.”
……..أما الجانب الأدبي و الصيغة الفنية في كتابة اليوميات فهي تعتمد على المباشرة و الحميمية و اختيار أبسط الكلمات و أصدق الجمل. الصراحة و الصدق ركنان أساسيان في تدوين اليوميات. لذا يجب أن تكون صادرة من القلب، لأن كل ما يصدر من القلب يصل بسهولة إلى القلوب الأخرى. كذلك المُخاطب مهم جداً في كتابة اليوميات. فهناك أشخاص يخاطبون شخصيات وهمية، و آخرون يخاطبون أنفسهم و آخرون يخاطبون شخصيات حقيقية و أما آخرون فهم يختارون مخاطبة الدفتر. كما هناك من يخاطب المجهول في يومياته. حيث يكون المُخاطب معدوم الجنسية، فهو ليس ذكراً و لا أنثى، و لا عمر له و لا صفة فارقة تميزه. أنا أستخدم مصطلح (الملاك) في هذه الحالة”.([8])
كان هنا لابد من التعريج على ادب اليوميات لنطرح التساؤلات الاتية :ما حدود حضور السيرة الذاتية هنا في هذا العمل الادبي ؟ما تفسير حضور تيمة الحب في بعض الاعمال الاخرى للاديبة كالسقوط في الشمس و”من سرق نجمة”
هل اختارت الاديبة هنا اليوميات لتكرس زمن الحاضر الموسوم بالقلق والسيرورة؟
اتتضمن هذه الرواية تلك الأمور التي لم تود الكاتبة قولها للآخرين أو لم ترد مشاركة القراء بها في بادئ الأمر؟
اسئلة من بين اخرى ستبقى معلقة لا نه ليس المقام هنا للتفصيل فيها .
خضروات ومواد مفيدة جداً لصحة الجسم وللوقاية