إنها مغرية…/ البشير ولد عبد الرزاق
الزمان انفو ـ لأنه منذ تسعينات القرن المنصرم، وقيام جمهوريتنا الثانية تحت رعاية عسكرية، لم يحصل وأن وجدت موريتانيا نفسها أمام انتخابات بهذه المواصفات، مفتوحة على كافة الاحتمالات، ومناسبة جدا لطرح كل أنواع الأسئلة والقراءات الخارجة عن المألوف، كما هي الحال مع عامنا الانتخابي الكبير هذا (2018-2019)، حتى استحقاقات 2007، التي كانت أطهر وأشرس المعارك السياسية في تاريخ البلاد، لم ترق أبدا إلى هذه الدرجة من الإغراء والجاذبية،
هي مغرية كذلك…
لأن “التناوب” تحول إلى رياضة قومية على المستوى الإقليمي، فمن بين كل ثلاثة انتخابات جرت في قارتنا الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، تمخضت اثنتان منها، على الأقل، عن تناوب على السلطة، حصل الأمر في السنغال ومالي وغامبيا وغانا وغينيا ومدغشقر وزامبيا وزيمبابوي ونيجيريا وأنغولا والبنين وبوركينا فاسو وليبيريا والسرياليون والقائمة تطول…، كل دول القارة، إما أنها عرفت التناوب وإما أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من ذلك، والسؤال “متى سيأتي الدور على موريتانيا؟ لم يعد مشروعا فقط، بل وأصبح ملحا للغاية مع مرور الوقت،
هي مغرية كذلك…
لأن التناوب على السلطة بات أيضا مطلبا أساسيا للمنتظم الدولي، فإذا كانت تسعينات القرن المنصرم قد مثلت مرحلة تأسيس الفعل الديمقراطي في الكثير من دول الجنوب، فإن بداية “الألفينات” شهدت بروز مفهوم التناوب على السلطة كموضة سياسية جديدة، وكشرط لا مناص منه، لتكريس وترسيخ الممارسة الديمقراطية داخل تلك الدول، يتجلى ذلك واضحا، في إصرار الدول المتقدمة التي تمثل شريكا لا غنى عنه بالنسبة لتلك البلدان،على شفافية الانتخابات وعلى توفير كافة أساليب الرقابة لضمان عدالتها ونزاهتها وتوقيع كل أشكال العقوبات على أية سلطة سياسية تحاول التلاعب بنتائجها، لدرجة أن الأمر وصل أحيانا، إلى اقتلاع حكام من كراسيهم نهارا جهارا وهم ينظرون، حصل ذلك مع يحي جامى ومن قبله مع لوران غباغبو.
هي مغرية كذلك…
لأن “الممكن”، الذي هو دين السياسة وديدنها وذروة سنامها، تضاعف إلى ثلاثة “ممكنات” على الأقل: ممكن صنعه الحوار الأخير، وممكن يصنعه التناوب المرتقب، وممكن يصنعه انصراف الرئيس الحالي، أولا، ممكن صنعه الحوار الأخير: تمثل في مخرجات يمكن للمعارضة أن تتوكأ عليها وهي تسلك طريقها نحو الانتخابات، إن الذين يطرحون السؤال: ألم يكن أجدى للمعارضة “المقاطعة” أن تشارك في الحوار الأخير؟ ويتوقعون أن النتائج وقتها كانت ستصبح أفضل كما وكيفا، إنما يثرثرون خارج رقعة اللحظة السياسية، ويغرقون أكثر في وحل الأسئلة “الماضوية”، فالواضح اليوم، هو أن غياب بعض المعارضة عن الحوار خدم الحوار، إذ جعل النظام يصر على نجاحه نكاية في المقاطعين، والواضح أيضا، أنه كما خدم المقاطعون المشاركين في الحوار حين تخلفوا عنه، فإن المشاركين في هذا الحوار ردوا الجميل للمقاطعين، حين عادوا منه بهذا “الممكن”، حتى وإن كانت حدوده دون المأمول، صحيح أن كل ذلك حصل دون اتفاق مسبق، ولكن، رب صدفة خير من ألف ميعاد.
ثانيا، ممكن يصنعه التناوب: فالتناوب في حد ذاته يغري جدا ويسيل الكثير من اللعاب، خاصة أنها المرة الأولى التي يرى فيها سياسيونا هذا التناوب رأي العين، فمنذ بداية الدولة الوطنية لم تحس البلاد بدفء التناوب أو كانت قريبة منه لهذه الدرجة.
ثالثا، ممكن يصنعه انصراف الرئيس الحالي: فمعروف أن المعارضة عندنا قائمة على معارضة شخص الرئيس، وهذا ليس خطأ المعارضة لوحدها، بل إن السبب وراء ذلك، يعود في جزئه الأكبر إلى طبيعة النظام السياسي، الذي أسس أصلا على اختزال الدولة داخل الأشخاص الذين يحكمونها، وبما أن الرئيس الحالي في حكم المنصرف، فإن ذلك يزيد من مساحة الممكن ضعفين، ويضيف إلى إغراء اللحظة إغراء آخر تصعب مقاومته.
وأما القول بأن الرئيس الحالي لن يبتعد كثيرا عن السلطة، فهو لا يفسد لهذا الإغراء قضية، لأن القاعدة العامة، تفيد بأن كل الذين خرجوا من السلطة لم يعودوا إليها أبدا، وأن الحالات النادرة التي عاد فيها هؤلاء، إنما هي الاستثناء الذي يثبت تلك القاعدة.
هي مغرية كذلك…
لأن جميع الأسئلة الخاصة بها معلقة ومؤجلة إلى حين: أية أغلبية ستفرزها هذه الانتخابات؟ ومن هو رئيس موريتانيا القادم؟ ومن يكون مرشح الأغلبية؟ ومن يكون مرشح المعارضة؟ وهل ستصمد المعارضة بشكلها الحالي أمام عاديات تلك الانتخابات؟ وهل ستحافظ الأغلبية على تماسكها خلال أهوال هذا العام الانتخابي الكبير والطويل؟ أم أن المشهد السياسي سيعيد تشكيل نفسه بنفسه طبقا ل”إلحاحات” المرحلة؟… أسئلة كثيرة ومتزاحمة، والمغري في الأمر، هو أن أغلب هذه الأسئلة، تعدنا بأنها ستبقى قائمة على حالها، قابعة في مكانها، حتى اللحظة الأخيرة.
باختصار، هي لحظة سياسية وطنية نادرة ومغرية للغاية…
ولأنها كذلك، ستخسر المعارضة كثيرا، إن هي تعاطت معها بنفس التشنج والقلق، كدأبها مع لحظات سياسية سابقة، فطبيعة اللحظة تدعو إلى التعامل معها بفرح شديد، لأن هذه البهجة ستمثل نصف الطريق، نحو صناعة الدهشة…