الطبقة..
كنت ومازلت أصر على أنهم طبقة وأن هذه الطبقة تحكم موريتانيا وتتبادل الأدوار بصفة أبدية، وتقبل كل خمسين سنة – تكرما منها- دخول شخص إلى اثنين قائمة أعضائها الطيبين, وأتساءل دائما كيف يعيش المرء في موريتانيا دون أن ينتمي لهذه الأخوية..
يحاول الكثيرون بطريقة عفوية في بعض الأحيان ضمي إلى أكبر تجمع للجلادين في العالم ولم أقبل دائما.. في بعض الأحيان أكاد أقع سهوا بقبول دعوة ظريفة من شخص ظريف في مناسبة خاصة.. مرة يقول لك الصديق الساذج: سنذهب بعد قليل لتقديم واجب العزاء في مريم والدة فلان (يكون فلان هذا سياسيا كبيرا أو وزيرا سابقا أو حتى رئيسا أو شيخ قبيلة)، حين أرد بأنني لا أعرفه ولم أتشرف بمعرفة أمه المحترمة حين كانت حية ترزق، يقول لي: حتى أنا لا أعرفها ولكن هكذا تسير الأمور في البلد.. لا ما هكذا تسير الأمور في البلد، بل هكذا تسير الأمور فقط في الإقطاعية الكبيرة المسماة “الطبقة العليا في المجتمع”.. وأنا لست منها ولا أريد أن أكون .. فالارتقاء داخلها يعني الشطارة في التلصص والمجاملة والنفاق والتجسس ونهب المال العام وإقصاء الآخرين..
لقد بلغ بي احتقار هؤلاء أن أقاطع كل ما يتعلق بهذه الطبقة.. بين الفينة والأخرى يبرز منهم كاتب ألمعي تدخل كتاباته إلى بيتي وأظل في حرب مع نفسي هل أقرأ أم لا.. في الأخير أقرر أن لا أقرأ ما يكتب لأن هذا الكاتب وإن حاول الظهور بمظهر المتقشف فكريا إلا أنه يظل “سرقة تجسمت” وظلما تجسم ومحسوبية تجسمت وإقصاء للآخرين تجسم.. هذا الكاتب ألبس من مالنا ومنه أكل ومنه تعلم وبه فقط استطاع الوصول إلى الجامعات العريقة والكتب النادرة والمعلومات الموغلة في الغموض وبه نال الأفضلية على كتابنا، كتاب الشعب، ممن لم يتمكنوا من طبع ونشر أفكارهم..؟ هذا الكاتب ملكي وملكك لأنه من لحمنا ودمنا وعرقنا لكن باسم من أسماء الطبقة.. لا لن أقرأ كتاباتهم ولن أحفظ أشعارهم وأنصحكم بذلك.
في بعض الأحيان تقرر بعض أسر الطبقة أن لا تترك شيئا إلا وأخذته فتدخل الحلبة بالملاكمين والمدربين والمدلكين والطبيبين والقفازات الأربعة.. وحتى الجمهور.. فكل من في القاعة من أفرادها.. في هذه الأسر ترى التاريخ يلد كم مرة، ويتكرر كم مرة.. وفي كل مرة يرى الأب “ابتداءه في انتهائه” فيحس بالحبور والنشوة والقوة ونحس نحن بضعفنا وهواننا وقلة حيلتنا.
في الرئاسيات الأخيرة كشفت الطبقة عن وجهها الحقيقي حين احتفى قادة المعارضة بالمنهزمين من رجال ولد الطايع وقرروا جميعهم تحميل الغائب المسؤولية عن كل ما حدث خلال السنوات العشرين الماضية، وكأن ولد الطايع كان يتصرف بمفرده ودون اللجوء إلى إرشاداتهم وتقاريرهم الكاذبة.. لقد استقبل قادة المعارضة من كان يفترض أن يتسموا بأذيال النظام (طبعا لو أن كل ما يقال صحيح) بسرور كبير، فمنحوا مناصب قيادية على حساب المناضلين ممن لا ينتمون للطبقة.
من حين لآخر يظهر وجه جديد لا يبدو عليه أثر النضال ولا يعرفه منا أحد.. يشنف أسماعنا بالخطب النارية ضد النظام الحاكم لكن سرعان ما تتضح الحقيقة: إنه أحد أشبال الطبقة فقد والده منصبه بعد ذهاب معاوية أو هيدالة او ولد داداه ويحاول بناء الأسرة من جديد، فارحموا عزيز قوم ذل.. وليس لنا إلا أن نرحمه لأننا لسنا من الطبقة وأهل الطبقة أدرى بشعابها وشخوصها.. والحقيقة أنه لو رجعنا إلى الصور القديمة للأسد لعرفنا أن هذا الشبل منه وامتداد مورفولوجي دقيق لكل تفاصيله.
أعضاء الطبقة يستفيدون دائما، ففي النهاية لا عداء بينهم، يتبادلون الأدوار بالانقلابات وبالانتخابات ويحشرون الحشم والعبيد للاقتراع وللصلاة على موتاهم في ساحة ابن عباس (الصلاة على شخص في هذا المكان تفيد بأنه شخص كبير.. كبير لماذا؟ لأنه من الطبقة، مرة يكون مهندسا ومرة يكون طبيبا ومرة رئيسا ومرة ضابطا ومرة سارقا، فالمهم أن ينتمي للطبقة حتى يخرج إلى الأخرى من ساحة ابن عباس وليس من مسجد الدعاة).
قد لا تعلمون أن من تشاهدونهم في التلفزيون جميعهم أقارب وأصدقاء ولهم مصاهرات وعلاقات قديمة وجديدة ومصالح مادية مشتركة.. يثرون النقاش في البرلمان ويجادل بعضهم بعضا بحدة، ومتى خرجوا ذهبوا للاطمئنان على مريض من الطبقة أو لحضور عقيقة آخر مولود في الأخوية أو لحضور زيجة “داخلية”..
في النهاية ستستمر الطبقة وتعيش أمدا لا يعرف أحد منتهاه.. فابن العقيد عقيد وابن الوزير وزير وابن الشاعر المتملق شاعر متملق وابن الأمين العام أمين عام وابن السفير سفير وابن الانقلابي انقلابي وابن المعارض معارض إلى أن يعود المعارض إلى الحكم فعندها يعود هو إلى الحكم, يترعرع في ظله ويرضع من ثديه حتى يصبح معارضا كبيرا أو حاكما متسلطا.. سيدوس الجميع بحذائه لكنه في النهاية سيتذكر دائما أن الفضل في كل هذا راجع إلى الطبقة الأم التي تستحق وحدها البر… فماذا تريدون بعد ذلك
محمد الامين ولد محمودي/خاص “أقلام”