رسالة بقرة / حبيب الله ولد أحمد
الزمان انفو ـ قد يخرج الجوع والعطش والجفاف والإهمال والنسيان بقرة عن المألوف، لتخاطب البشر عبر رسالة ناطقة بمعاناتها، لا تستغربوا شيئا، فنحن في زمن تشيب لهول أحداثه الولدان .
يجب ـ وستفعلونها ـ أن تتهكموا على بقرة بائسة تتحدث إليكم، فأنا و صديقى الحمار كنا ـ ولا نزال ـ مثار سخريتكم ـ منذ ظهورنا معكم على هذه الأرض الظالم أهلها ـ
ولم يشفع لنا عندكم “ظهر يركب” ولا “ضرع يحلب” فطفقتم تلصقون بنا كل الأوصاف القبيحة، من الغباء مرورا بالجهل، وليس انتهاء بالبلادة. سأعطيكم معلومة غير مهمة بالنسبة لكم، فأنا أخاطبكم ووزني أقل من 20 كلغ، وقبل هذه السنة الجافة الشهباء كان وزنى يتجاوز ال150 كلغ، حتى أن بقرة من “قريباتي” تصر على أنني “عجل” ولست “قريبتها” و”صديقتها” التي تقاسمت معها الظلال والغلال” وجابت معها الآكام والآجام طلبا للماء والمرعى” وعندما ذكرت لها مواقف جمعتني بها لم تتقبل الأمر، وواصلت خوارها تعجبا منى، وقد أخذ منى الخور كل مأخذ. نسيت أن أذكر لكم ان هذه الرسالة موجهة بالأساس لثلاثة من علية قومنا من البشر، وهم الرئيس ووزيره الأول، ووزير ماليته، على أنها بعد ذلك لخاصة الناس وعامتهم. ليس اعتباطا أن أوجه رسالتي هذه بين يدي “قمة نواكشوط” الإفريقية، فعلاقتنا معشر البقر بالأفارقة قديمة ،كعلاقة العرب مثلا بالإبل. أنا ـ وأعوذ بالله من أنا ـ أتحدث إليكم من منطقة قصية على الحدود الموريتانية ـ المالية لا داعي لتحديد اسمها وإحداثياتها، لما لذلك من مخاطر “أمنية” فلا أدرى متى تعتقلني “المخابرات” الموريتانية بتهمة إفشاء السر، والإساءة للتعايش بين البقر والبشر. الأوضاع هنا بالغة السوء، نذهب إلى موريتانيا نموت جوعا ،نذهب إلى مالي نموت عطشا . لكي أكتب لكم هذه الرسالة احتجت لمجموعة رجال لإسنادي، مستعينين بعصيهم وعضلاتهم . هنا لا قمح، ولا علف، ولا “حشيش”، لا يوجد شيء على الإطلاق، ولأول مرة أتعاطف مع ملاكي من البشر، إنهم جائعون مثلى، منهكون محبطون ويائسون، وطالما فكرت هل بمقدوري مساعدتهم، فمرة سقط أحدهم بجانبي جوعا ومرضا، فقلت ليت لي قوة لإحضار مجموعة بقر تساعدنى على “إنهاض” هذا المسكين، كما يفعل البشر بالبقر عندما يعجز عن النهوض. سمعنا عن مليارات الدولة وجهودها لتوفير العلف، فقط سمعنا وعلى الأرض لا علف ولا حكومة ولا جهود ولا هم يحزنون . لقد فقدت “بناتي” و “اولادى”، حتى الثور”زوجى” الذى كان يحميني ويمنعني، ويساعدني على تربيتهم، نفق ذات يوم مغبر مشؤوم وحزين. كنا قطيعا يتجاوز ال300 رأس، الآن لم يبق من القطيع سوى 5رؤوس أنا سادستهم . بدأنا نودع أفراد القطيع بمعدل رأس شهريا، ثم بمعدل رأس يوميا، والآن على مدار الساعة نفقد رأسا. ملاكنا تعبوا كثيرا حتى أنهم أطعمونا ثيابهم، وسجاجيد صلاتهم، وأسقف منازلهم ،وبطانياتهم، لم يتركوا شيئا يصلح للمضغ ـ بديلا عن القمح والعلف ـ إلا وجلبوه لنا، وكم حزنت قبل يومين عندما رأيت احد ملاكي يبكى بحرقة، ورأسه بين يديه مفجوعا بائسا يائسا محبطا، يتجرع الهزيمة بين سماء لم تمطر، وأرض لم تنبت منذ سنوات ، لو رأيتم جسدي الآن لفهمتم معنى أن أخاطبكم، جسد منهك، عظام نخرة، وبثور، وتقيح، وإسهال، وذباب، وأعين متورمة، ورأس أكبر من باقي مكونات الجسد. أنا لا أثق في رئيس، ولا في حكومة، ولا تهمنى السياسة، كل ما يهمنى حفنة قمح، وجرعة ماء، أقوى بهما على البقاء مع أن حياتي بلا معنى فملاكي يموتون مثلنا جوعا ومرضا، وكل قطيعى رحل، وأتجرع المرارة، وأنا محاطة بعظامهم النخرة، والتي هي كل ما بقي لدي من ذكرى تشدني إليهم . يمكنني ـ والأماني جائزة ـ أن أطلب ـ عبثاـ من الرئيس وحكومته الالتفات إلينا، طبعا لن يفعلوا ،وسأبالغ في التمني، لأطلب من القادة الأفارقة التوقف عند معاناتنا، وطبعا لن يفعلوا، فمشاكل البشر لديهم أكثر من مشاكل البقر. بقي لدي رجاء أخير، وهو أن تتوجهوا جميعا بالدعاء إلى الله ليمن على هذه الأرض اليباب بمطر يغسل الجفاف، ويعيد الحياة، ورغد العيش، لآلاف البقر والبشر، فسافيات الجفاف تردم كل يوم قطعانا وقرى بكاملها. ويؤسفنى أن أقول إن حكومتنا نزع الله منها الرحمة والإنسانية، فهي تنهب وتأكل دون أن تتوقف لأداء أمانة إنقاذ حياة بشرية أو حيوانية، في بلد يعصف به جفاف لا نظير له ،حتى في الأساطير. قد تكون هذه آخر كلماتي، فالجوع أخرس لسانى، والمرض يهز جسدي، وحسبى أن أموت هنا، لتلتصق عظامي بعظام بني جلدتي وبناتها، لقد عشت معهم الحلو والمر، وطموحى أن أبقى إلى جانبهم للأبد، ولو مجرد عظام نخرة.