ماذا لو شذت الحرب في مالي عن القاعدة؟/ الاعلامي عبد الله ولد محمدي
ثمة أسباب كثيرة تدفع الكثيرين في منطقة الساحل وخارجها إلى دق طبول الحرب في مالي والتحريض عليها، دوافعهم في ذلك متعددة، ومبرراتهم متداولة في تصريحات أصبحت من لوازم البيانات الصادرة عقب كل لقاء رئاسي أو وزاري يعقد في عواصم المنطقة أو خارجها لبحث أزمة مالي وتفرعاتها.
يحتج الأوروبيون في الدعوة إلى الحرب بحجج كثيرة، بعضها أمني حيث أصبح الشمال المالي مركزا لتدريب الإرهابيين الذين يشكلون تهديدا حقيقيا لأوروبا، وبعضها يدخل في خانة الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث أصبح شمال مالي يطبق قوانين تنتهك تلك الحقوق.
ولا يخفي الفرنسيون قلقهم، ويقولون صراحة: «لا نريد محمد مراح» جديدا، في إشارة إلى الجزائري الذي قتل عدة جنود وأطفال بمدرسة يهودية في «تولوز». نفس الخطاب يرفعه قادة بلدان الغرب الأفريقي الذين يتوجسون من سريان عدوى تفكك دولة «مالي» إلى دولهم الغارقة في بحر من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعرقية لا ساحل له. ومهما كانت حجج ومبررات الحرب لإعادة الوحدة إلى دولة «مالي» أو الحيلولة دون انتشار وباء التفكك إلى الدول الأفريقية المهددة به، أو إجهاض مشروع إمارة «أزوادستان» على الطريقة الطالبانية، أو محاصرتها ومنعها من التمدد – وهي كلها حجج معقولة ومشروعة – حسب أصحابها، فإن ثمة حقائق اجتماعية ووقائع تاريخية لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال بالنسبة لأصحاب القرار، بل يجب أن يدركوها، وينصتوا إليها، ويأخذوها بعين الاعتبار، قبل المغامرة بالقفز إلى الرمال المالية المتحركة.
أولى هذه الحقائق أن دولة مالي منذ حصولها على الاستقلال من المستعمر الفرنسي سنة 1960 لم تستطع أن تبسط نفوذها علي مناطقها الشمالية بصفة شاملة، وكلما حاولت ذلك اصطدمت بالمجتمع الأزوادي العصي على التطويع، كما حدث ذلك في عهد الرئيس «موديبو كيتا» في ستينات القرن الماضي، عندما حاول فرض النظام الاشتراكي وصهر المجتمع في بوتقة جديدة لا تعترف بالقوميات الإثنية، والتنظيمات القبلية، والتفاوتات الأرستقراطية أيضا. وجوبهت تلك المحاولة اليتيمة بمقاومة شديدة سالت فيها أنهار من الدم، وقضى فيها الآلاف، وسجن كثيرون، وما زالت الذاكرة الأزوادية تحتفظ بذكرى النقيب «جيبي سلا» حاكم « كيدال» العسكري، الذي حاول إجهاض ثورة قبيلة «أفوغاس» وألقي بزعيمها «زيد آغ الطاهر» في غياهب السجن، حيث خلفه شقيقه «آنتالا» في قيادة القبيلة، التي ما زال يتزعمها حتى الآن، دون أن تفلح النظم الاشتراكية أو الديمقراطية أو العسكرية التي تداولت على حكم مالي، في الحد من نفوذه على قبيلته أو تغيير طريقة حكمه لها، التي يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
فمنذ ذلك التاريخ، غسلت العاصمة «باماكو» يدها من منطقة «أزواد» التي تشكل ثلثي الأراضي المالية، وتمتد من «دوينزا» قرب «موبتي» إلى مدينة «الخليل» على الحدود الجزائرية، وتخلت عن مسؤوليتها التنموية في هذه المنطقة الشاسعة، وتقلص حضور الدولة ونفوذها إلى حد كبير. ودفعت الدولة المالية ثمن هذا الإهمال، وألقت عصابات التهريب والإجرام عصا الترحال في هذه المنطقة، وتحولت إلى سوق حرة مفتوحة تتزاحم عليها «كارتيلات» التهريب من مختلف جهات العالم، بدءا من التجار الصحراويين في مخيمات جبهة البوليساريو (جنوب الجزائر)، الذين اتخذوها في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي قاعدة تجارية لتصريف فائض المساعدات الإنسانية التي كانوا يتلقونها من بعض بلدان الاتحاد الأوروبي (الحليب المجفف – الزيوت – البطانيات)، مرورا بالتجار الموريتانيين الذين كانوا يهربون الأرز والسكر والشاي، ثم السجائر بعد ذلك.
لكن سوق التهريب في المنطقة ستشهد منعطفا خطيرا مع دخول «كارتيلات» المخدرات من أميركا اللاتينية على الخط حاملة معها مئات الملايين من الدولارات التي استثمرتها في صناعة التهريب، وحدثت بسبب ذلك تغيرات كبيرة ليس على المستوى الاقتصادي فقط، بل على المستوى الاجتماعي أيضا، وأصبح المال الذي كان شحيحا في الماضي يسيل كنهر متدفق لا أحد قادر على وقف جريانه واستثماره، وظهرت طبقات من الأثرياء الجدد الذين أصبحوا يزاحمون القيادات التقليدية على النفوذ والسيطرة، بل إن قبائل بأكملها دخلت في دورة الاقتصاد الجديد الذي يتطلب بنية تحتية شبيهة بالبنية العسكرية عدة وعتادا.
وتزامنت هذه الطفرة المالية مع اشتداد الصراع في الجزائر بين الجماعات الإسلامية المسلحة وقوى الأمن والجيش في نهاية عقد التسعينات. ونتيجة للضربات الموجعة التي وجهها الجيش الجزائري لتلك الجماعات أخذ بعضها في الانسحاب التدريجي من الأراضي الجزائرية نحو الشمال المالي، وهناك بدأت تبني قواعد خلفية لها. وكان على رأس تلك الجماعات «الجماعة الجزائرية للدعوة والقتال» التي ينتمي إليها مختار بلمختار الملقب بـ«خالد أبي العباس» والمعروف أيضا باسم «بلعور».
واستطاعت تلك الجماعة أن تتغلغل بسرعة في النسيج الأزوادي، وتتقرب من السكان المحليين عبر نسج شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية تكللت بزواج زعيم الجماعة من ابنة أحد شيوخ قبائل «لبرابيش» العربية. ومع مرور الوقت، بدأت الحركة الصغيرة تقدم بعض الخدمات البسيطة للسكان المحليين عجزت دولتهم عن تقديمها لهم، وأخذت تجند الشباب الذين لم يتلقوا حظا من التعليم في الكتائب العسكرية للجماعة، وفي نفس الوقت كانت تغرس في المجتمع أنماطا جديدة من التدين تتسم بالتشدد وتتناقض تناقضا كبيرا مع أنماط التدين السائدة التي يطبعها التصوف وروح التسامح.
أحدث حضور «بلعور» وجماعته في شمال مالي «نهضة إسلامية» بين الشباب المهمشين الذين أصبحوا يتوافدون زرافات ووحدانا على معسكرات التدريب التي افتتحتها «الجماعة»، والتي أشعلت في الشباب روح الحماسة والشعور بالأهمية والقدرة على «تغيير العالم». وساعد هؤلاء المجندون «بلعور» في توسيع نفوذه، وأصبح مع مرور الوقت يملك السيطرة على الأرض، وهو من يسمح للآخرين بتمدد مسالك التجارة والتهريب في المنطقة جراء نفوذه الأمني. بيد أن الرجل سيحاول لجم هذه التجارة دون ممارستها عكس ما تروج معظم وسائل الإعلام الغربية.
ومن دون اللجوء لعائد تجارة تهريب السجائر، سيجد بلعور وزملاؤه طريقة أخرى لا تقل إغراء وإثراء وإثارة من تهريب السجائر والمخدرات، ستدر عليهم ملايين الدولارات، وتحظى في نفس الوقت باهتمام الإعلام العالمي، وهي تجارة «اختطاف الرهائن» التي ازدهرت في العشرية الأخيرة من القرن الجديد، وتحولت إلى صناعة مربحة مدرة للدخل، ساهمت في التقليل من البطالة، خصوصا في المناطق الأكثر فقرا. وتمتد هرمية هذه «الصناعة» من قادة الكتائب العسكرية، إلى الوسطاء الذين يروجون البضاعة، والمخبرين الذين يحددون الهدف في متاهات الصحراء، والمنفذين المباشرين والمسؤولين عن مكان الاحتجاز، والمؤمّنين له، زد على ذلك من يحددون قيمة الفدية، وحتى الذين يتولون عملية التفاوض.
إن تجارة «اختطاف الرهائن» لم تكن لتتسع وتزدهر بالشكل الذي عرفته في السنوات الأخيرة لولا تخلي الدولة المالية عن مسؤوليتها في تنمية مناطقها الشمالية، وتركها ثلثي البلاد عرضة للفقر والجهل، وتخضع لسيطرة الجماعات الجهادية المسلحة. وربما تكون بعض الأوساط الرسمية في «باماكو» ضالعة بشكل أو بآخر في هذه الصناعة العابرة للحدود، نظرا للفساد المستشري الذي ينخر بقوة نظام الدولة، الأمر الذي أصبح يهدد أمن واستقرار المنطقة بأكملها، فضلا عن أمن واستقرار الثلث المتبقي من الدولة المالية.
من السهل إذن إطلاق شرارة الحرب، وقد أطلقت بالفعل، بشكل رسمي، بعد سماح مجلس الأمن الدولي بنشر قوات عسكرية أفريقية في شمال مالي، إلا أنه ليس من المؤكد أن هذه الحرب ستحقق مرادها في توحيد دولة مالي، وبسط الأمن والاستقرار في شمالها، وطرد الجماعات الإسلامية منها، اللهم إذا تم فتح جبهات أخرى اقتصادية تعمل على تنمية المنطقة، وانتهاج سياسة تعالج المظالم التاريخية التي طالت السكان الأزواديين، وتشركهم في الحكم، إضافة إلى جبهة ثقافية تدافع عن القيم المحلية وتحافظ عليها، وهي جبهات يبدو أن المخططين للحرب لم يدرجوها حتى الآن في استراتيجياتهم.
لقد عودتنا «الحرب العالمية على الإرهاب» في أفغانستان واليمن والصومال وفلسطين والعراق أنها تتعامل مع أعراض المرض في الوقت الذي تهمل أسبابه، لذا نأمل أن تشذ القاعدة في مالي هذه المرة!
الشرق الاوسط