قصص مشوشة…/البشير ولد عبد الرزاق

الزمان انفو –

ذات مرة، نصح لي صديق، قال، لكي تصبح ذا شأن في هذا البلد، عليك أن تكون دائما قريبا من “قلب الحدث”، وأن تربي لنفسك مخالب حتى تدافع بشراسة عن مكانك هناك، حاولت جاهدا أن اعمل بنصيحة ذلك الصديق المخلص، في الأخير، لم أستطع التمييز بين “قلب الحدث” ومؤخرته، كما أن قصة المخالب تلك لم ترق لي البتة، فنزلت درجة حتى أصبحت في”رئة الحدث” وقلت لنفسي، هنا تستطيع على الأقل، أن تتنفس بعمق وحرية وسط الناس، بعيدا عن رائحة هذا العفن الوطني المنتشر:
..كان يفترض أن أكتب لكم هذه المرة عن قصص حوادث السير، التي ألهبت مشاعرنا خلال الأيام الماضية وجعلتنا نبكي بحرقة، للأسف التخلف يرتبط دائما بوفرة القصص البائسة والتعيسة من الصباح إلى المساء، بعد أن كتبت المقال وسهرت الليالي وأنا أضع الرتوش الأخيرة عليه، حتى بدا لوحة تراجيديا تقطر ألما وحزنا وحسرة، ضاع مني أو حتى أكون دقيقا أكثر، نسيته في مكان ما ولم استطع الاهتداء إليه،
قلت لنفسي بسيطة، إن شاؤوا، اقترحت عليهم مقالا بديلا يكون عن الانتخابات، ونخلص من هذه الحكاية ولا طالب ولا مطلوب، صحيح أن الانتخابات وحوادث السير هما أمران مختلفان، الأولى تحدث مرة كل خمس سنوات وبصخب، بينما الثانية تحدث مائة مرة في اليوم وسط صمت مطبق، لكن في نهاية المطاف، كلها مصائب تنهمر فوق رؤوسنا،
في فيلم “أيام الغضب” للمخرج منير راضي بطولة نور الشريف، يروي نجاح الموجي قصة شاب مصري خريج كلية الهندسة البترولية، جاء إلى القوى العاملة طلبا لوظيفة، فقاموا بتعيينه عاملا في محطة بنزين على الطريق الصحراوي، وحين اعترض المسكين على الأمر، وصاح في وجوههم: “يا ناس، أنا مهندس بترول”، قالوا له: “ماهو كلو بترول، يا عم”…
..أو إن شئتم، تركنا كل القصص الحزينة تنام في سلام على الرفوف، ورويت لكم قصة ذلك الكاتب المسرحي “التحفة”، الذي ألف مسرحية رديئة للغاية، وفي ليلة العرض ثار الجمهور على الممثلين ورموهم بالأحذية وأكياس الفشار وقنينات الماء الفارغة وكل ما توفر بين أيديهم، حتى طردوهم من على خشبة المسرح، الطريف في الأمر، هو أن كاتب المسرحية كان من بين الجمهور الثائر، بل وأكثر من ذلك تسلق خشبة المسرح حتى استوي عليها، ثم ألقى خطبة عصماء في الحاضرين، حياهم فيها على حماسهم وبارك لهم ثورتهم ضد “هذه الرداءة الموغلة في الرداءة”، على حد وصفه، صفقوا له طويلا ثم حملوه على الأكتاف،
الذي روى لي القصة، همس لي في ختامها: “ألا ترى أن هذا الكاتب المسرحي المعتوه، يشبه حكامنا لحد الضجر، يقتلون القتيل ثم يسيرون في جنازته”، هو الذي قال، أنا لم أقل شيئا ولا دخل لي في الأمر، أنا أصلا لا أتكلم في السياسة،
تقول زوجتي إن مشكلتي هي كثرة حكاياتي، للأسف ما بيدي حيلة، فقد ورثت حب الحكايات والشغف بها عن أخينا “كرانه”Grand وتعني بالفرنسية “الكبير”، هكذا كنا نلقبه لأنه كان أكبر منا سنا، حدث ذلك داخل أحد أحياء الانتظار في نواكشوط العتيقة، ذات زمن جميل مضى، كانت كل مساءاته باردة رطبة، مشبعة برائحة البحر وسمك الأبراميس (كبارو) المقلي، تبيعه نسوة من الزنج، يكشفن عن نصف سيقانهن، فتختلط سمرتهن بحمرة الغروب، كن يحرصن بشدة على تتبيله بمسحوق من الملح والفلفل الحار، يضعنه داخل علب نسكافيه فارغة، على أغطيتها ثقوب صغيرة، تعين على ذرذرة المسحوق بعناية فائقة فوق السمك المقلي،
هناك وفي ذلك الزمن البعيد، روي لنا “كرانه” كل أفلام الهند والصين وتايوان والغرب الأمريكي والشمال الإيطالي والجنوب الفرنسي التي شاهدها في السينما، روى لنا كذلك بطولات حرب الاستنزاف، التي حضرها في صالة المركز الثقافي المصري (سينما عرب)، كنا ندفع له قطعا نقدية صغيرة، مقابل الاستمتاع بتلك الحكايات الساحرة، لكن بعض الخبز أو البسكويت أو الحلوى، كان دائما يفي بالغرض،
في تلك الأماسي الباردة كنا نجد دوما ركنا نأوي إليه، وكانت قصص الفتى وطريقة سرده الآسرة تنشر الدفء في المكان، وحين يسرق النوم بعضنا ويصحون بعد نهاية الحكاية، كانوا يشعرون بحزن شديد، لكن “كرانه”، بكرمه الدافق، كان يعدهم بإعادتها في المساء التالي،
عندما كبرت وأصبحت من رواد دور السينما، وتركت أثر رائحة تبغي في كل صالات المدينة، اكتشفت أن أغلب الأفلام التي رواها لنا أخونا “كرانه” كانت من تأليفه الخاص، لم أحنق أبدا على الفتى، فقد أدركت أنه كان جزءا من ذلك الانتظار الطويل…
..أو إن شئتم، تركنا حكايات المسارح ودور السينما تستريح داخل الذاكرة، وقصصت عليكم خبر “الرجل العنكبوت”، سبايدرمان الدائرة الثامنة عشرة:
الفرنسيون شعب متأفف جدا، دائم التذمر، لا يعجبه العجب، ونادرا ما يجمعون على أحد أو على شيء، وقد سبق للجنرال ديغول أن وصف هذا المزاج المتقلب لشعبه بدقة، حين قال: “كيف يمكن لأي شخص أن يحكم بلدا به 246 نوعا من الجبنة”،
لكن مساء السبت 26 مايو 2018، في شمال باريس وبالذات في الدائرة الثامنة عشرة، كان مختلفا عن كل مساءات السبت الأخرى التي سبقته، فقد توقفت حركة السير في الشوارع والطرقات والأزقة الضيقة، وشخص جميع المارة إلى إحدى العمارات، بعدما أذهلهم مشهد شاب أسمر في ربيعه الثاني والعشرين، وهو ينقذ طفلا صغيرا من السقوط المحقق من الطابق الرابع،
في حالة نادرة من نوعها، استطاع الفتى مامودو قساما، أن ينتزع الفرنسيين من شرفات المقاهي ومن الزوايا المعتمة في الحدائق العامة ومن حلبات الرقص ومن المقاعد الخلفية في السيارات والقطارات، وغيرها من الأماكن، التي تحكي عنها أغاني مساءات السبت في بلاد الغال…
..اسمعوا، لقد تعبت حكاياتي من هذا السفر الطويل، فتعالوا بنا نعقد اتفاقا، سأروي لكم قصة موقعة “الأرك”، (بفتح الراء)، بين الأندلسيين والقشتاليين، ونخلص من هذا الفصل، ولا طالب ولا مطلوب:
يقول المقري في “نفح الطيب”، إنه ما كادت هدنة السنين الخمس بين الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور وملك قشتالة ألفونسو الثامن تنتهي، حتى عاث الإفرنج فسادا في ثغور الأندلس، فقتلوا وشردوا ونهبوا، ولما انتهى خبرهم إلى أبي يوسف يعقوب المنصور، جهز جيشا وجاز به إلى الأندلس، حدث ذلك سنة591 للهجرة، 1195 للميلاد،
حين علم ألفونسو الثامن بأمر الخليفة الموحدي، استنجد بحلفائه، فجهزوا معه جيشا جرارا لملاقاة أبي يوسف، يقول عنه صاحب “بغية الملتمس”، إنه كان ينيف على خمسة وعشرين ألف فارس ومائتي ألف راجل، والطريف في الأمر هو أن ألفونسو الثامن، اصطحب معه في جيشه ذاك، جماعات من التجار اليهود جاؤوا لشراء أسرى المسلمين! اليهود كانوا دائما أغبياء، وحدها أنظمتنا العربية المهلهلة، هي من أجرت لهم عمليات زرع ذكاء،
عندما تراءى الجمعان عند “حصن الأرك”، اشتد خوف جيش الموحدين وساءت ظنونهم، لما رأوا من كثرة عدوهم، فنادى فيهم المنادي: “يقول لكم أمير المؤمنين أن اغفروا له، فإن هذا الموقف موقف غفران، وتغافروا في ما بينكم وطيبوا أنفسكم وأخلصوا لله نياتكم”، فبكى الناس وأعظموا ما سمعوه من سلطانهم،
استمرت المعركة يوما كاملا، وانتهت بنصر مؤزر للجيش الموحدي، قتل عدد هائل من القشتاليين وأسر منهم الكثيرون، وكان من بين الأسرى، بعض أولئك التجار اليهود الذين جاؤوا لشراء أسرى المسلمين، هرب ألفونسو الثامن ومن بقي معه من الجند وهم قليل، واستبشر الأندلسيون خيرا بهذه المعركة، إذ ذكرتهم بأخرى سبقتها، هي موقعة الزلاقة، التي حدثت في عهد المرابطين…
..مشكلتنا الحقيقية، هي ذاكرتنا المخرومة، التي تجعلنا ننسى دائما، أننا أحفاد أولئك الذين صنعوا النصر مع طارق بن زياد في معركة وادي برباط، وأولئك الذين صنعوا النصر مع يوسف بن تاشفين في موقعة الزلاقة، وأولئك الذين صنعوا النصر مع أبي يوسف يعقوب المنصور في يوم الأرك،
الفتى مامودو قساما وهو ينقذ ذلك الطفل من موت محقق، ويوزع الدهشة بسخاء على الفرنسيين والعالم بأسره، إنما كان يستلهم تاريخ أجداده البامبارا، الذين تسلقوا كل أسوار التاريخ، بدون قفازات ولا أحذية ولا سرابيل تقيهم بأس عدوهم، ووصلوا إلى قممه وشيدوا لأنفسهم هناك مجدا تليدا، حدثت به الركبان، كان الأمر بالنسبة للفتى ممتعا جدا، تماما كشربة ماء باردة في وسط مدينة باماكو في يوم مشمس وحار، لدرجه أنه وهو ينزل مع الطفل، كان يداعبه ضاحكا: “لماذا فعلت هذا بنفسك أيها الصغير الشقي؟”،
يقول أستاذنا أدونيس، إن العرب توقفوا عن صناعة التاريخ منذ سقوط بغداد، من المحزن حقا أن تتوقف الأمم والشعوب عن صناعة التاريخ، لكن المحزن أكثر هو أن تتوقف عن قراءته، فالأمم والشعوب التي لا تقرأ تاريخها وتستمتع به لحد العشق والوله، تنهمر الشيخوخة مبكرة على وجهها وتحل أزمنة الغياب بديارها، وينتهي بها الأمر إلى التوقف نهائيا عن التدفق،
ويا ويل الأوطان، يوم تتوقف شعوبها عن التدفق…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى