الزمان انفو ـ حسن العاصي ـ كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك
بالرغم من أن العلاقة بين الحقيقة والإعلام هي علاقة جدلية تبادلية، إذ في الوقت الذي تسهم فيه الحقائق في صناعة إعلام بارز وناجح ومؤثر، فإن الإعلام يمكن بدوره أن يكشف الحقائق ويثبتها ويعززها وينشرها أو يغيرها، أو ينقلها من مكانها، أو يوظفها في سياقات غير حقيقية. إن للإعلام تلك المقدرة الكبيرة على تدوير الحقائق لتصب في مصلحة جهة أو دولة ما. من خلال التلاعب بالعقول، حتى تلك العقول المثقفة والنخبوية لا تنجو من التأثير العميق الذي يحدثه الإعلام الموجه على خيارات وأفكار ومواقف وقناعات الناس.
إن من يتوقع الحصول على الحقيقة من خلال وسائل الإعلام فإنه لا شك واهم، ذلك أن هدف وسائل الإعلام المتعددة هو إنتاج منظومات فكرية تقوم على صياغة أفكار ومفاهيم واذواق المتلقين، من خلال رسائل إعلامية وصور ورموز ومصطلحات تتكرر حتى تتحول إلى بديهيات ومسلمات في ذهن المتلقي، كي تسيطر على متطلباته من جانب، وتوظفها وتستثمرها من جانب آخر. ويمكن للإعلام أيضاً أن يكون صانعاً لنماذج بشرية ذات نفوذ مجتمعي، تقوم بالتأثير على الناس لخدمة مصالح سياسية لطرف او غيره. ووسائل الإعلام تقوم بهذا الدور بخبث شديد من خلال إظهار جزئيات وتفاصيل صغيرة بصورة مكثفة واختزالية وبسيطة في ذات الوقت، كي يسهل تسللها إلى وعي المتلقي، ومن ثم تصبح شيء مسلم به موجود في العقل البشري، يصعب تفكيكه.
الناس تميل لمتابعة الأخبار الكاذبة
أجرى المعهد الأمريكي “ماساتشوستس” للتقنية مؤخراً دراسة شملت حوالي 130 ألف خبراً كاذباً وإشاعة على موقع “تويتر”، وتوصلت الدراسة التي أشرف عليها باحثون متخصصون إلى أن الأخبار الزائفة تنتشر بصورة أسرع كثيراً من تلك الأخبار الحقيقية، وأن الناس يبحثون عنها وأن مستخدمي تويتر أعادوا تغريد الأخبار الكاذبة بصورة مبالغ فيها، وذلك يعود ربما إلى أن الأخبار الزائفة عادة ما تكون غير مألوفة.
اللافت في هذه الدراسة أن أكثر الأخبار الزائفة كانت حول قضايا سياسية بصورة كبيرة، ثم تلتها قضايا مرتبطة بالمال والأعمال ثانياً، ثم نلتها قضايا العلوم والترفيه، ثم الكوارث الطبيعية والإرهاب. وتوصلت الدراسة إلى أن الأخبار الزائفة والإشاعات تنتشر بصورة أسرع ستة مرات من الأخبار الحقيقية. وأن نسبة المتابعين لهذه الأخبار الكاذبة أكثر بعشرة أضعاف من الذين يتابعون الأخبار الحقيقية.
الإعلام الأسود
تحول قطاع الإعلام إلى مشروع سياسي واقتصادي، وإلى صناعة للرأي العام بهدف تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وفكرية وتجارية. إن صناعة الكذب في الإعلام تزامنت مع ظهور الصحافة المطبوعة، وتطورت بتطور وسائل الإعلام. وهي صناعة على درجة عالية من الخطورة لاستهدافها العقل البشري.
إذ يمكن لوسيلة إعلامية أن تقنع المتلقين أن هناك مؤامرة كونية ضدهم من خلال البث المتكرر المدروس لبعض الفقرات والجمل الكاذبة والصور الملفقة. كما يمكن للإعلان أن يغير السلوك البشري من خلال التأثير على متطلباته ورغباته، وتبديل طرق إدراكه للوقائع والأشياء المحيطة به، من خلال وسائل متعددة تقوم بتوظيف علم النفس للتحكم بسلوك المستهلك وعاداته، وتوجيهه إلى ناحية دون أخرى.
إنه الإعلام الأسود الذي يستطيع تحويل إنسان مغمور إلى شخصية شهيرة جداً من خلال التدليس والكذب والبيانات الملفقة، وخلق وقائع مزيفة، وإيهام المتلقي بأن ما يراه أو يقرأه هو حقيقة. كما يستطيع تشويه صورة إنسان أو جهة ناجحة ومتميزة، عبر نشر الأكاذيب وإطلاق الإشاعات حولها.
قبل الاحتلال الأمريكي على العراق العام 2003، كان للإعلام الأمريكي والبريطاني دوراً هاماً ومقرراً في تهيئة الراي العام الغربي للقبول بفكرة الحرب، فتم التلاعب بعقول الناس وإقناعهم أن العراق يمتلك أسلحة نووية لتبرير الحرب.
الإعلام الأسود يقوم بحجب الحقائق واستبدالها بمواد يرغب بها المتلقي حتى لو كانت أشياء ساذجة. هو إعلام كيدي أيضاً يهدد الاستقرار المحلي والإقليمي في منطقة تشهد صراعات متزايدة. الإعلام الأسود تستخدمه الدول، أيضاً عبر أدوات خبيثة، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، لتحويل مباراة كرة قدم إلى ميدان لتنفيس غضب الناس واحتقانهم السياسي والاجتماعي نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في بلدان تحكمها أنظمة قمعية استبدادية. ومن خلال مثل هذه السياسات الإعلامية القذرة يتم قياس سلوك المواطنين من قبل الأجهزة الأمنية عبر دارات تلفزيونية، لكي تحدد أساليب التعامل الأمني معهم لاحقاً.
صناعة المصطلحات
المصطلحات التي تستخدمها الوسائل الإعلامية المختلفة، عبارة عن كلمة، أو جملة مركزة مصنوعة بدقة ويتم اختيارها بعناية فائقة، بهدف جعلها تعبير ومرادف ملاصق لقضية أو حدث محدد، في مكان جغرافي معين، وفي فترة زمنية محددة، ويستهدف قطاع ما وفئة ما. الغاية من هذا المصطلح الإعلامي هو تسليط الضوء على حقيقة ما، أو العكس إخفاءها. ويمكن لاستعمال مصطلح محدد من قبل وسيلة إعلامية أن يسعى لتغيير ميول ومواقف فئة ما أو شعب أو أمة. كما يمكن للمصطلح أن تكون له غايات أخرى مثل التأثير على صناع قرار لكسب مواقف دولية أو إقليمية.
يستطيع المصطلح عبر استخدامه في وسائل الإعلام أن يصنع صورة نمطية عن أحد أو شيء، أو التأثير على الوعي الجمعي، بهدف السيطرة على عقول الناس، ومحاولة سلب إرادتهم، وبالتالي صناعة رأي عام يتوافق مع مصالح من يصنع هذا المصطلح ومن يسوّقه.
فصناعة المصطلحات واحدة من الأدوات الهامة التي تستخدمها وسائل الإعلام لتسويق الافكار وتمرير المعلومات بطريقة تحقق أهداف جهة ما أو دولة ما. حيث يتلقى القارئ أو المستمع أو المشاهد مصطلح ما يوسم حدث محدد أو يتم وسم قضية معينة بمصطلح ما، يصبح هذا الوسم هوية لهذه القضية وشخوصها ومكانها وزمانها، وهكذا تصبح كافة القضايا المتشابهة والتي تتناولها وسائل الإعلام موضع مقاربة لدى المتلقي بالمصطلح السابق، ويظل الناس يتذكرون هذه الحوادث والقضايا كلما تم استخدام المصطلح من قبل وسائل الإعلام. هذا هو التأثير السياسي والاجتماعي الذي تخلفه صناعة المصطلحات في الغرف المغلقة لوسائل الإعلام، التي عادة ما تكون تخدم جهة أو دولة.
في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين كان البث الإذاعي أهم وسيلة إعلامية سريعة لتبادل وإيصال المعلومات، خاصة نشرات الأخبار التي تصل للمستمع بشكل دوري يومياً على مدار الساعة، وتتضمن معلومات عن آخر الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وشهدت تلك الفترة احداثاً هامة في العالم وفي منطقتنا العربية، أطلق الإعلام خلالها مصطلحات كثيرة على سبيل الذكر لا الحصر “حرب الخليج” و “الحرب الباردة” و “الشيوعية الملحدة” و “مجاهد”، ساهم الراديو في وسم كثير من الأحداث بمصطلحات غير بريئة في واقع الحال.
تسعى وسائل الإعلام من خلال استخدام وإعادة استخدام هذه المصطلحات إلى التأثر على عقل المتلقي لتوجيه اهتماماته نحو قضية معينة، أو لجعله يتقبل فكرة كان يرفضها سابقاً ولتبديل مواقف المتلقي وافكاره يجري ربط المصطلح بواقعة ما، تجعل الإنسان يتذكر الواقعة أو الحدث كلما تكرر المصطلح في وسيلة إعلامية.
كما أطلقت وسائل الإعلام الغربية مصطلح “الحرب الطائفية” إشارة إلى حالة التناحر والصراع المذهبي الذي تلتهب به المنطقة، وصل إلى حد الاشتباك المسلح والقتل من كافة الأطراف. كان الهدف من إطلاق المصطلح تأجيج نار الخلافات السياسية وتحويلها إلى حرب قذرة تحت يافطات دينية ومذهبية لمعرفة الإعلام الغربي الأثر الذي يحتله الدين في مجتمعاتنا.
بعض وسائل الإعلام العربية تستخدم مصطلح اسم “إسرائيل” بدلاُ عن اسم فلسطين المحتلة. قديما كان كل عمل سياسي أو عسكري ضد الاحتلال -أي احتلال- كان يوصف بأنه مقاومة مشروعة، والآن أصبحت تطلق كثيراً من وسائل الإعلام على ذات الفعل أنه “عمل إرهابي”. وكذلك الأمر تتباين المصطلحات في وسائل الإعلام المختلفة حول حدث واحد، مثل “عمليات استشهادية” أو “عمليات انتحارية” ويمتد الحال إلى تسويق الإعلام الصهيوني والغربي إلى مصطلح “جدار أمني” بدلاً من تسمية جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويصبح هنا التبرير أن الغاية حماية السكان الإسرائيليين من “الإرهاب” الفلسطيني، وذلك للالتفاف على الاسباب الجيوسياسية الحقيقية التي دفعا إسرائيل لبناء الجدار.
مثال آخر، حيث يطلق الإعلام الصهيوني مصطلح “الإرهاب الشعبي” بدلاً من تسمية المقامة السلمية المدنية، وذلك لتبرير الأعمال الوحشية غير المبررة التي يقوم بها الجنود الإسرائيليون ضد الفلسطينيين -ومن يدعمهم- الذي يمارسون الاحتجاج المدني السلمي، وصلت إلى حد قتل وزير فلسطيني أعزل -الشهيد زياد أبو عين- في وضح النهار وأمام كمرات الصحفيين. وهو المصطلح الذي تسوقه إسرائيل في تعاملها مع وسائل الإعلام الغربية.
مع التطور الهائل الذي حققته تقنيات وتكنولوجيا الاتصال والتواصل ونقل المعلومات، يصبح للمصطلح تأثيراً بالغاً في منطقة تشتعل بنيران متعددة المنشأ. وبالقدر الذي تتقاطع فيه المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية إقليمياً ودولياً، فإن المصطلحات المستخدمة في وسائل الإعلام تتوالد وتتكاثر وتتباين لمواكبة تطور الأحداث. فيظهر مصطلح “القتيل” المستعمل في وسيلة إعلامية مقابل مصطلح “شهيد” في وسيلة أخرى، ومصطلح “إرهابي” في مقابل مصطلح “مقاوم”.
ولا يقتصر غزو المصطلحات الجوانب السياسية، بل يمتد ليشمل كافة مناحي الحياة. فقد ابتدعت وسائل الإعلام العربية مصطلح “المثلية” بدلاً عن فعل الشذوذ الجنسي، وظهر مصطلح “التحرش الجنسي” بدلاً عن الاغتصاب، وهي مصطلحات الغاية منها تشذيب السلوك وجعله أكثر قبولاً.
التضليل الإعلامي
يهدف إلى عكس الوقائع وقلب الحقائق، ويسعى إلى توجيه عقل المتلقي من خلال استهدافه بحرب نفسية لإحداث تأثير عليه، بواسطة الترويج لمعلومات لا ترتبط بالحدث، أو باستعمال وسائل الإعلام لمفردات ومصطلحات بعينها تؤدي في نهاية المطاف إلى إصدار أحكام ما في قضية ما، أو من خلال انتقائية متحيزة تنتهجها وسيلة إعلامية ما، فتختار أن تقدم شيء للمتلقي وإخفاء اشياء أخرى.
إنها سياسة غسيل العقول وصناعة الكذب، وهي حرب في غاية الخطورة، حيث أنها تستهدف العقل البشري والتشويش على صحة قناعاته وأفكاره، ثم تأثر عليه لتغيير موقفه بدافع من وقائع وهمية لا وجود لها، وإقناع المتلقي على أنها حقائق، وهذا الفعل بدوره يمس حقيقة الواقع الحقيقي المعاش، ويبدأ التشكيك بشأنه، حتى يصبح في وعي المتلقي -فرداً كان أم جماعة- شيئاً غير موجود.
وعادة ما تلجأ الدول إلى التضليل الإعلامي خدمة لسياساتها تجاه دولة أخرى أو تجاه المعارضة السياسية الداخلية. هي صناعة الكذب ذاتها التي تجعل من “إسرائيل” دولة صديقة لبعض العرب، وتشيطن الفلسطينيين في بعض الوسائل الإعلامية العربية، وهو التضليل الإعلامي الذي يجعل وسائل إعلامية عربية أخرى تقدم تبريرات للحرب الصهيونية على قطاع غزة، بحجة أن إسرائيل فقط تقصف مواقع حركة حماس “الإرهابية”، فيما تعتبره وسائل إعلام غربية أنه “دفاع مشروع عن النفس”.
صناعة الكذب التي تؤدي مفعول السم السياسي والفكري. صناعة التضليل الإعلامي هي أخطر قطاع صناعي على الإطلاق، لأنها تتعلق بكافة عناصر الواقع الذي نعيشه، وتزييف هذا الواقع، وإعادة صناعته بمؤثرات تخدم الدولة أو الجهة التي تقف خلفه، من خلال تضخيم التفاصيل التافهة والتقليل من شأن كل ما هو مهم مفاعل، في سياقات تربك عقل المتلقي، وتفصله عن واقعه البغيض الذي عادة ما يكون سبباً في حراك جماهيري مثلاً أو سبباً في احتجاجات ومطالبات حقوقية أو سياسية. إنها عملية لعب جماعي بالعقول وتزييف وعيها.
الجيل الخامس للحروب
عرفت البشرية أنواعاً مختلفة من الحروب بدءً بحروب الجيل الأول، وهي الحروب التقليدية بين دولتين وجيشين نظاميين، هذا النوع من الحروب اختبرته البشرية تاريخياً واستمر حتى منتصف القرن العشرين.
الجيل الثاني وهي الحروب التي خاضتها الدول بأسلوب حرب العصابات، أو هي الحرب التي دارت بين العصابات فيما بينها. وانتشرت هذه الحرب في بلدان أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص.
الجيل الثالث هو الحرب الاستباقية، مثل الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها على العراق.
الجيل الرابع هو الحرب التي تخوضها دولة ضد منظمة أو جماعة، مثل حرب أمريكا على القاعدة، حرب أفغانستان ضد حركة طالبان .. الخ.
أما فيما يتعلق بحروب الجيل الخامس فإنها حروب نظيفة وخطيرة، تقتل دون إراقة الدماء. حروب تستخدم المعارف المتطورة، وأحدث تقنيات الاتصال، وآخر صرعات التواصل. تسعى هذه الحروب إلى تحقيق مصالح فردية أو جماعية، مصالح جماعات أو أحزاب أو دول، من خلال امتلاك المقدرة التقنية على تنفيذ أعمال التخريب بواسطة الانترنت والوسائط الالكترونية المتعددة، وهي ما تعرف بالحرب الرقمية.
إنها حرب لا مركزية تستخدم كافة أشكال التكنولوجيا المتطورة، وتوظف خبراء في علم النفس وعلم الاجتماع. فعلى سبيل الذكر لا الحصر استبدلت دوائر صناعة الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية شعار “حقوق الإنسان” وهو الشعار الذي شكل المعزوفة الأمريكية التقليدية التي كانت توظفه حين ترغب في إجراء انقلاب عسكري في إحدى دول امريكا اللاتينية، أو حين تريد مهاجمة دولة ما، فقد جرى استبدال هذا الشعار بمصطلح “حقوق الأقليات” وهو النسخة الحديثة التي يجري بموجبها بث السموم الإعلامية في أكثر من مكان في العالم.
تنتشر في الكثير من شبكات التواصل الاجتماعي المعلومات الزائفة، وصل خطر تأثيرها مرحلة جعلت هذا الموضوع مادة مهمة للنقاش في الكثير من العواصم العالمية، كما حدث أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
لعبة تحاكي الحقيقة
قامت مجموعة من الباحثين الجامعيين البريطانيين من جامعة “كامبردج” بمشاركة مع بعض الصحافيين الهولنديين من تجمع “دروغ” بتصميم لعبة تشرح تقنيات صناعة ونشر الأخبار الزائفة. اللعبة تتيح للاعب تصميم سياسة دعائية معادية ضد شخص ما، هدفها تشويه صورته، والترويج لمعلومات ملفقة، بغرض التعليم والتعريف بآليات وأدوات بث ونشر الأخبار الكاذبة في العالم وإطلاق الشائعات. واللعبة عبارة عن موقع الكتروني، بإمكان اللاعب وضع صورة ما لشخص ما، ثم القيام ببث أخبار مزيفة ومعلومات كاذبة وبيانات ملفقة الغاية منها تشويه صورة وسمعة هذا الإنسان، ربما يكون معارض سياسي مثلا، ثم يتعرف اللاعب على الأدوات والوسائل اللازمة لتحقيق هذا الهدف، حيث تقوم اللعبة بتوفيرها لتنفيذ الخطة.
الغاية من ممارسة اللعبة هو إتاحة فرصة أمام اللاعبين المستخدمين أن يجربوا بأنفسهم عبر فتح حسابات وهمية على منصات التواصل، والتلاعب بصور وفيديوهات، ونشر مقالات ملفقة، وسواها من أساليب يتعلم فيها المشارك باللعبة كيف يمكن صياغة أخبار زائفة، وكيف يمكن صناعة حملات دعائية ضخمة لكنها عارية عن الصحة تماماً، إذ تقوم على الكذب والتزوير والتلفيق من بدايتها لنهايتها، وتجد قبولاً عند المتلقي وعند قطاع واسع من الناس. فلسفة اللعبة بسيطة تكمن في الإدراك، فإن وضعت نفسك مكان شخص يسعى للإضرار بك، فإن ذلك يعطيك مهارة المقدرة على كشف ألاعيبه والتصدي لها.
مثقفو ورجال دين ميديا
لم تستثني حمى الإعلام وصناعة التضليل حتى المثقفين الذين وظفهم الإعلام بهدف التبرير السياسي للسلطات المتنفذة في عدد من الدول، ذلك أن بعض المثقفين قد استخدموا مقدراتهم المعرفية كسلعة تجارية خاضعة لمقتضيات السوق الإعلامي من عرض وطلب. فهم جاهزون لأي تسويق إعلامي يقوم بتبييض وتجميل جهة ما، أو تشويه وتقبيح جهة أخرى. وهنا يتحول المثقف من صانع للأفكار والتنوير، إلى صانع أيديولوجيا براغماتية تقوم على خلط الأوراق وإرباك المتلقي باستخدام خطاب تبريري لا تحليلي. ولسوء حظ هذه الأمة أنه حتى بعض رجال الدين ليسوا خارج هذا التصنيف، فيما يجب أن يكون رجال الدين ينتمون إلى شريحة المثقفين الذين تناط بهم مهمة تغيير وتحديث المجتمعات البشرية، نجد أن عدداً ليس قليلاً من رجال الدين العرب قد انخرطوا في لعبة الإعلام وصناعة الكذب وتزييف الحقائق، من خلال إصدار الفتاوي وإطلاق الخطب التي تخدم جهة دون أخرى، وتشوه صورة طرف دون آخر، عبر الاقتصار فقط على إظهار التفسير الديني الضيق الخالي من الاجتهاد لأسباب تتعلق بمصالح جهات ودول، الأمر الذي يؤدي كما هو الحال إلى انسداد فكري ثقافي ديني معرفي في الواقع العربي، لأن الخطاب الديني في منطقتنا يقوم بتكييف فقهي لكافة الظواهر حتى الاستبدادية منها، وهذا ينسحب على مجمل القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، فعلى سبيل الذكر لا الحصر إن الصراع الفلسطيني الصهيوني ليس صراعاً دينياً، فلا الفلسطينيين يهدفون إلى إدخال اليهود في الدين الإسلامي، ولا الصهاينة ينشدون تهويد الفلسطينيين، إنما هو صراع سياسي على الأرض من أجل الوجود.
إن تحول بعض المثقفين إلى أبواق دعائية لهذه الجهة أو تلك فإنهم بذلك يساهمون في تمزيق ما ظل من الأواصر التي تجمع بين أبناء البلد الواحد، وما بين مواطني البلدان العربية فيما بينهم. مثقفي الميديا يعملون على خلط الحابل بالنابل، وإرباك المتلقي وإحداث نوع من الفوضى التي تنتشر فيها ثقافة الاستغباء، وبناء ثقافة تقوم على الظن والانفعال وليس على الوعي المعرفي.
عندما ينجح الإعلام في تحويل المفكر والمثقف ورجل الدين إلى تجار، وتتحول الأفكار والمواقف والخطابات إلى سلع تشترى وتباع، فإن هؤلاء يتحولون إلى تجار جهل وشقاء واستبداد للأمة، ذلك لإسهامهم الخطير في تكريس الواقع المريض وإعادة إنتاجه بكامل علله.
إلى اين نمضي؟
يشهد عصرنا الحالي كميات مرعبة من الفبركات الإعلامية، والمعلومات المضللة، والأخبار الكاذبة، والبيانات المزيفة، والصور المركبة، وحملات دعائية تضخم التافه وتسطح المهم، حملات عدائية تشوه سمعة وصورة طرف معين وتنال من أخلاقه وذمته، فيديوهات يتم تصويرها في استديوهات متخصصة تبث للمتلقي على أنها في ميدان معركة أو مظاهرة أو حدث ما في مكان ما. كل هذا تطالعنا به وسائل الإعلام المتعددة من مطبوعات وإذاعات وفضائيات ومنصات تواصل اجتماعي وعبر مواقع الانترنت. إنها حروب إعلامية ناعمة لا تراق بها دماء، بل يجري غسل العقول من خلالها، بأدوات تبسط أذرعها وأدواتها بطرق مختلفة ومتعددة، تربك العقل والمشهد، وتزيف الواقع، وتحدث نوعاً من الفوضى الاجتماعية والسياسية والأمنية.
الأخبار الكاذبة خطر يهدد الوحدة المجتمعية، ويغذي العنف ويزيد من الانقسامات، ويقوض السلم الاجتماعي والتعايش بين جميع المكونات العرقية والاثنية والمذهبية. هذا دفع دول مثل الاتحاد الأوروبي لإصدار حزمة من القوانين في مواجهة التأثير المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي.
في منطقتنا العربية التي تعاني من احتقاناً شديداً واستعصاءً متعدداً في معظم قطاعات الحياة، وترزح تحت ضغوط سياسية واقتصادية كبيرة، تبرز قوى وأطراف تحاول الهيمنة على مقدرات المنطقة، ولها مصالح في إضعاف العرب. هذه القوى تمتلك وسائل إعلامية خطرة موجهة لمخاطبة المتلقي العربي، تقوم سياستها الإعلامية على الكذب وتزوير الوقائع.
في غياب استراتيجية عربية تتصدى لهذا الغول الإعلامي وتفضحه وتعريه، وعدم وجود مؤسسات إعلامية عربية تساهم في بناء الوعي الجمعي للمتلقي العربي ليكون قادراً على التمييز بين الغث والسمين، يمكن لك أيها القارئ العزيز أن تتخيل القادم.