عن «ذاكرة غانياتي الحزينات» احتفال بالغواية.. في التسعين!
شار إبراهيم: أن يعود غابريل غارسيا ماركيز، بعد عشر سنوات، من الصمت الروائي، لإصدار رواية جديدة، فذلك مما لا شك فيه أنه أمر سيحظى بالاهتمام العالمي، ليس فقط من قبل القرّاء بالإسبانية، أو اللغة البرتغالية، على اعتبار أن «الأقربون أولى بالمعروف»، بل كذلك من قبل القرّاء باللغة العربية، التي قُيِّض لها مترجم نشط ونابه، من طراز الأستاذ صالح علماني، الذي جعل من قرّاء اللغة العربية قادرين على الإطلاع، على آخر إصدارات الروائي غابريل غارسيا ماركيز، خلال قرابة شهر فقط، من إصدارها بلغتها الأم: (ذاكرة غانياتي الحزينات، إصدار دار المدى للثقافة، دمشق، 2005).
دائماً ستكون عودة ماركيز إلى حقل الرواية، عودة حميدة، ذات رائحة خاصة، ونكهة مميزة، إذ أن قمة الرواية العالمية تبقى في حالة شوق وتوق، إلى هذا الروائي المتميز، ونتاجاته البارعة، حتى وإن شاغلته الصحافة، أحياناً، أو انشغل بالمرض، حيناً.. فمن الغباء للمرء (العاقل) أن يكلّف نفسه عناء الحديث عن ألق الروائي ماركيز، وقامته الإبداعية العالية، ومكانته المرموقة!.. فذاك هو تماماً من نافل القول.
تأتي الرواية الجديدة لماركيز؛ رواية «ذاكرة غانياتي الحزينات»، لتتكشف عن الروائي البارع ذاته، ليس فقط لأنها رواية مفاجئة، ومدهشة، على الرغم من أنها رواية صغيرة الحجم، إذ أن عدد صفحاتها لا يتجاوز (103) صفحة من القطع المتوسط!.. بل لأنها ذات موضوع خاص، مكثف، وعلى قدر عالٍ من الجرأة والنباهة، والعمق في الرؤية، والطرافة في الموضوع.. وعلى القدر ذاته من التدفق اللغوي، في السبك والتراسل..
هل يكفي للقول إن الرواية تجري على لسان بطلها، بصيغة المتكلم، على مدى صفحات الرواية، ومقاطعها المتتالية، التي لا تتجاوز خمسة مقاطع مكثفة، بما يشبه الاعترافات الجريئة، لرجل تبدأ الرواية وهو يعتزم الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، من خلال إهداء نفسه «ليلة حب مجنونة» مع فتاة عذراء!.. لنجد أنفسنا أمام رواية من طراز مغاير، مفاجئ، إن لم نقل صادم..
بطل الرواية، الذي بالكاد نعرف اسمه، لن يتوانى عن الاعترافات البالغة الجرأة، في مجال انغماسه بالغوايات الضالة، التي مارسها خلال عمره الطويل، فبدا أنه يقيس حياته بالغواني اللواتي عرفهن، حتى الخمسين من عمره، ومن ثم أصبح يقيس عمره بالعقود لا بالسنوات.. دون أن يُفلت احتفالاته بالغوايات تلك، أبداً..
سنعرف منذ البدء، أنه صحفي كاتب عمود أسبوعي، في واحدة من الصحف المحلية!.. وما بين رغبته بالاستقالة، من هذا العمل، بعد أن أمضى نصف قرن من «عبودية التجديف»، عبر هذا العمود الصحفي، وتأفّفه من تصرفات بعض الزملاء، أو الرؤساء، في الصحيفة، من جهة أولى، وسعيه للاتصال بعالم التحقّق والشهرة، التي تثبت له أن على قيد الحياة، وفي دائرة الفعل، من جهة ثانية، سنرى أن بطل الرواية لن يتوانى عن الاعتراف الخفيّ، بأن الحياة ستستمر، طالما هو قادر على الحب.
«العمر ليس ما نصل إليه، بل ما نحسّ به».. و«الشيخوخة لا يشعر بها المرء في داخله، ولكن الآخرين يرونها من الخارج».. وثمة الكثير من طراز هذه التعابير، مما يسوقه بطل الرواية، لنكتشف في النهاية أن انغماسه في الغوايات، إنما لأنه كان يفتقد الحب، ويريد تعويضه من خلال الجنس.. إنه يرى أن «الجنس هو العزاء الذي يلجأ إليه المرء عندما لا يحصل على الحب»..
سيؤثث الروائي ماركيز حياة بطله بالكثير من التفاصيل البارعة، والدالة على العميق من المعاني، ففي البيت الذي يعيش فيه وحده، ثمة الكثير من الأزهار، والورد، والكثير من الكتب.. كما تترع حياته بالموسيقى، من روائع الكلاسيكيات العالمية، حتى لو أعاد عزفها موسيقيون محليون.. وفي كل حال هناك الكثير من الذكريات عن الأب والأم، والأصدقاء والصديقات، والنساء الفاتنات اللواتي مضين..
دائماً يبرع الروائي ماركيز بالتفاصيل الغنية، والمعلومات الثرية، والمعرفة العميقة، التي يعبر عنها بالالتفاتة الذكية، والعين النابهة، والجمل الحاذقة، والطريفة.. وفي هذه الرواية ستبدو لياقته، في هذا المجال، على قدر من البراعة.. فحتى لو كان الحديث عن القط الذي جاءه هدية، أو عن الكتب التي يعيد قراءتها، أو الموسيقى التي ينصت إليها، أو الأماكن التي يمر بها، أو اللحظات المليئة بالنزق والوحشة المتوحدة، والقيظ المبلل بنزف العرق وروائحه الزنخة، سنرى الروائي يقدم ثروة من المعلومات، والمعارف المتواشجة مع البناء الروائي، والسرد الحكائي، دون أن تبدو نافرة أبداً..
وفي الوقت نفسه، يبدو تماماً، أن المرأة هي الهاجس المحور، في حياة بطل الرواية.. وأن كل التفاصيل التي يسوقها إنما تدور هذا المحور، حتى تكاد كل التفاصيل تغدو هامشية.. فالنساء اللواتي عرفهن طيلة حياته، هن الذاكرة التي يسترجعها، والنساء اللواتي يلتقيهن الآن هن استرجاعات لتلك الذاكرة، ذاتها؛ ذاكرة الغواية التي أزهق تسع عقود من الزمن، من عمره، منغمساً بها. النساء اللواتي يعود للالتقاء ببعضهن، ممن لم يلفظن أنفاسهن بعد، فلم يطويهن الموت، وبقين يحتفظن بأشكال من شباب تفاصيلهن الجميلة، التي تذكره بأيام الشباب.
هل كان ماركيز ينوي كتابة رواية على حافة الإباحية؟.. أم تراه كان يريد كتابة رواية حسية الطابع؟..
لقد نجا ماركيز برواية من كتابة رواية إباحية!.. نعم.. على الرغم من أن قسطاً هاماً، ومؤثراً، منها، يدور في غرفة في الماخور، وأمام جسد الفتاة العذراء النائمة (في تحية خاصة منه لرواية «بيت الجميلات النائمات» للروائي الياباني ياسوناري كاوباتا).. ولكن الحسّية بقيت طاغية في الرواية إلى حدّ لم يلجمها سوى قدرة الروائي، على الارتقاء بلغته (مهارة المترجم في اختيار آنق العبارات)، ووقوع بطل الرواية في الحب؛ حب الطفلة ذاتها، ابنه الخامسة عشرة من عمرها، التي جلبتها القوادة ليلة احتفاله بعيد ميلاده التسعين، وبرع في وصف كل مسام في جسدها، وكل نبرة إحساس، أو خلجة من خلجاتها، وفي الحب الذي آثر أن يحتفظ لقلبه أن يموت به، بعد أن يبلغ المئة.
رواية «ذكريات غانياتي النائمات».. أنشودة بارعة عن التشبث بالحياة إلى آخر الشهقات.. كتبها روائي لا يقل عمراً عن بطله.. روائي محاصر بالموت، ليس بسبب الكهولة وحدها، وإنما بالمرض الذي يترصده، فيما هو يقاومهما (الكهولة والمرض) بالكتابة، وبالقدرة على النفاذ إلى جوهر المعنى الإنساني للوجود.. فمن قال إن التسعين ليست ذروة شباب من وُلد في السبعين من عمره مثلاً؟.. بل من تراه قال إن الحب في التسعين مستحيل تماماً؟..
في التسعين!..
لن تكون الكتابة، عند غابريل غارسيا ماركيز، عن الموت، أو العزلة، أو الوحشة.. على الرغم من أنه قال عن نفسه إنه أكثر الناس وحشة وعزلة في العالم.. بل إنها رواية عن الحب.. عن النساء.. وعن الغانيات الجميلات، اللواتي ما ذبلن على عود الأيام..
وإذا ما قال أحد الروائيين العرب (عبد السلام العجيلي): «وأنا في العشرين، كنت أخشى السبعين، لأن الفتيات لن يعدن راغبات بي.. وعندما وصلت السبعين اكتشفت أنني لم أعد راغباً بهن»!.. فإن ماركيز يثبت أنه حتى في التسعين يمكن لك أن تعيش حالة غواية مجنونة، وقصة حب أكثر جنوناً.. وتهزأ من مقولة إن «إحدى مفاتن الشيخوخة، هي تلك الاستفزازات التي تسمح لأنفسهن بها الصديقات الشابات، اللواتي يعتقدن أننا خارج الخدمة»..
«خارج الخدمة»!.. تلك هي المقولة القاسية، حدّ الموت، لمن هو على قيد الحياة.. وأسألوا أهل الأربعين!..
بشار إبراهيم