المعالجة التشريعية لجرائم النشر الصحفي في موريتانيا
الزمان انفو ـ
تعتبر حرية التعبير إحدى أهم الحريات الأساسية للإنسان، فهي الحق السياسي المقيّد ببعض القيود الذي يتيحُ للإنسان الحق في التعبير عن وجهة نظره، واعتناق الآراء دون مضايقة والتماس الأخبار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود، وهي بهذا المفهوم إحدى أبهى نتائج الثورتين: الانكليزية التي أطاحت بالملك جيمس الثاني عام 1688 وكانت وراء إصدار قانون “حرية الكلام في البرلمان”، والفرنسية التي كان من نتائجها إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا 1789 والذي يعتبر عرَّاب ما تلاه من إعلانات تتناول الحرية، والذي ينصُّ على أن “الحرية تقتصر على قدرة المرء على القيام بكل ما لا يلحق ضررا بالآخرين، وهكذا فإنه لا حدود لممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان إلا تلك التي تؤمِّن للأعضاء الآخرين للمجتمع التمتع بهذه الحقوق نفسها، وهذه الحدود لا يمكن تحديدها إلا بقانون” [المادة: 4]، ثم تكرَّس هذا الحق في كافة المواثيق الحقوقية الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 [المادة: 19] والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية [المادة: 19]، وجعلته الدساتير الوطنية على رأس الحريات الفردية الأساسية للمواطن.
ولئن كان الحق في التعبير وحرية الرأي من الحقوق الكونية المطلقة التي لا حدود لممارستها كحقوق طبيعية للفرد ما دامت في دائرة أخلاق الجماعة، فإن المعيار المحدد لأخلاقية الرأي أثار جدلا فلسفيا عميقا؛ إذ رأى الفيلسوف جون ستيوارت ميل John Stuart Mill 1806-1873 إن حرية التعبير تعني: التعبير الحر عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقي وأن المحدد الوحيد للأخلاقية الرأي هو “إلحاق الضرر”، وأن العواقب الجيدة لأكبر عدد من أفراد الجماعة هي الفيصل الوحيد لاعتبار عمل ما أو فكرة ما أخلاقية أو لا أخلاقية، بينما رأى مخالفوه أن العمل اللا خلاقي سيء حتى ولو عمَّت فائدته وجعلوا الدين معيارا لتصنيف الأعمال إلى مقبولة أو سيئة؛ ولتوضيح هذا الاختلاف فان جون ستيوارت ميل يعتبر مثلا الافتراء مقبولا إذا كان فيه فائدة لأكبر عدد من الأشخاص في مجموعة معينة على عكس مخالفيه الذين يعتبرونه تصرفا سيئا حتى ولو كانت عواقبه جيدة.
وقبلُ كان للإسلام مفهوم شامل للحرية مرِنٌ و مقيد بجملة من الضوابط الشرعية تحمي هذا الحق وتحدده فالرأي السيئ اللا خلاقي غير مشروع فهو بالتالي منافٍ لحرية التعبير ولو لم يضُر، ومَنِ اهْتَدَى، أو ضَلَ، أو أبْصر، أو آمَن، أو اسْلم، أو أحْسن، أو أطاع فلنفسه، {وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ} [هود: 118]، {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [النحل: 92/93].
ومن أهم تجليات حرية التعبير، الحق في الإعلام وحرية الصحافة، وهما حقان مقيدان بمجموعة من الضوابط القانونية، التي تكفل الحفاظ على حرية الأفراد وحقوقهم، وتحمي كيان الدولة [المادة: 10 من دستور 20 يوليو 1991 المثبَّت والمعدَّل] تلك الضوابط والمحددات المرنة يترتب على خرقها جملة من الزَّواجر، والأجْزِيَّة القانونية تكرسها القوانين التي تنظم مبدأ النفاذ إلى تقنيات الإعلام والاتصال وتحدد نظام حرية الصحافة وحدود مجتمع المعلومات.
وفي موريتانيا كغيرها أمكن جمع شتات تلك الأفعال الجُرميَّة التي تشكل تشويها لحرية التعبير وتجاوزا للحق في الإعلام وحرية الصحافة وخرقا لتلك الضوابط والقيود القانونية من خلال ثلاثة أعمال تشريعية:
الأول: القانون رقم: 109/1963 الصادر بتاريخ: 27 يونيو 1963 المنظم لحرية النشر [الصحافة] والطباعة الذي صدر بعد مصادقة البرلمان الموريتاني مشتملا على عدة قيود منها ضرورة إشعار النيابة العامة ووزارة الداخلية قبل نشر أي عمل صحفي، وقد استمر به العمل بعد استيلاء المؤسسة العسكرية على الحكم في البلد في 10 يوليو 1978 التي عطَّلت كافة هيئات ومؤسسات النظام المدني بإلغاء دستور 1961، ولم تعترف المواثيق الدستورية العسكرية المتعاقبة بالصحافة ولا بحريتها رغم سريان قانون النشر والطباعة وقد تمت معالجة النطاق الجرمي للنشر في الباب الخامس منه معتمدا تقسيم الجرائم الصحفية إلى أربعة جرائم هي نفس الجرائم التي اعتمدها المشرع لاحقا، ويعتبر هذا العمل التشريعي موغلا في العقوبات المسلطة على المخالفين والتي تنوعت بين العقوبة السالبة للحرية والغرامة الثقيلة.
الثاني: الأمر القانوني رقم: 023/1991 الصادر بتاريخ: 25 يوليو 1991 [83 مادة ]، الصادر بعد مداولة اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، والتي شددت في ديباجته على ضرورة تحلِّى الأطراف المعنية بهذا الحق بمبادئ: احترام الإسلام والقيم الثقافية الوطنية، والتفاني في المصلحة العامة، وترقية استقلال الإعلام، وإعطاء الأولوية لصحة الوقائع وصدق التعبير، والاحترام الكلِّي للحياة الخصوصية للمواطنين، والالتزام بالامتناع عن الابتزاز والمزايدة والتزوير للحصول على المعلومات والوثائق، والحفاظ على السِّر المهني، وعدم إفشاء مصادر الخبر إلا إذا أوجب القانون ذلك ولمقتضيات المصلحة العامة، والامتناع عن التحايل والافتراء والقذف، والأخذ بمبدأ التعددية الإعلامية واليقظة.
لقد كانت هذه المبادئ ترجمة وتوجيها ضروريا لكبح جِماح شعب متطلِّع وتوَّاق إلى فضاء الديمقراطية بعد سنوات الاستثناء (الفترة العسكرية)، لكن هذا العمل التشريعي كان استنساخا أمينا لقانون بلد مجاور تَقَاصَر عن مسايرة ثورة الاتصال والإعلام بداية هذا القرن التي حررت فضاءاته.
الثالث: الأمر القانوني رقم: 017/2006 الصادر بتاريخ: 2 يوليو 2006 ، الصادر بعد مصادقة المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية في [71 مادة]، والذي يلغي ويحل محل كافة أحكام الأمر القانوني الآنف باستثناء أحكام الباب الثاني منه المتعلقة بالإيداع الشرعي للمنشورات.
وقد حرص المشرع في الفصل التمهيدي من هذا القانون على اعتبار حق الإعلام وحرية الصحافة حقوقا ثابتة للمواطن تمارس طبقا للمبادئ الدستورية والترتيبات التنظيمية وأخلاقيات المهنة ولا يمكن تقييدها إلا عن طريق القانون شريطة أن يكون ذلك ضروريا لصيانة المجتمع الديمقراطي؛ لذا اعتبر هذا العمل “التشريعيّ” طفرة كبيرة في مجال حرية الصحافة في بلادنا كان من نتائجها ليس فقط إلغاء المادة: 11 الشهيرة من الأمر القانوني الملغي والتي كانت تخول وزير الداخلية بموجب مقرر أن يمنع تداول أو توزيع أو بيع دورية تمس بمبادئ الإسلام ومصداقية الدولة أو تلحق الضرر بالصالح العام أو تُخِل بالنظام؛ بل لتحديده نطاق الصحافة وتحديده مفهوم الصحفي المهني، وتبنيه نظام التصريح المرن بواسطة إعلان الظهور، وتنظيم الصحافة واستحداث سلطة تنظيم مستقلة بها، ووضع معايير وإجراءات لتسليم بطاقة الصحفي، وتنظيم اتفاقية عمل جماعية بين أرباب العمل وعمال الهيئات الإعلامية.
وقد أدخلت تحسينات هامة على هذا “الإنجاز” التشريعي من خلال:
1. القانون رقم: 025/2011 بتاريخ 08 مارس 2011 والذي وسع من مفهوم الهيئات الإعلامية ليشمل الصحافة الالكترونية التي نص على أنها ستحدد بموجب مرسوم (المادة: 6).
2. القانون رقم: 054/2011 الصادر بتاريخ: 24 نوفمبر 2011 والذي حجَّم العقوبة السالبة للحرية فألغى الترتيبات السَّجنية الواردة في المواد: 35 -36 – 40 – 41- من هذا الأمر القانوني مكتفيا برفع الحد الأعلى والأدنى للغرامة بدل السَّجْن.
وبقراءة متأنية لهذه المعالجة التشريعية نجد أن مشرِّعنا نص على الجرائم والجنح المرتكبة من طرف الصحافة أو من قبل أية وسيلة أخرى للنشر في الفصل السادس من الأمر القانوني الآنف السَّاري، وسنتوصل إلى أن الخاصية الوحيدة الجامعة بينها هي الدور الذي يلعبه الصحفي في اقترافها، وأن المشرع تعمد الخلط بين الجرائم التي تمس حقوق الأشخاص والجرائم التي تهدف إلى الإضرار بالعامة، وحصرها في خمس جرائم هي:
1. التحريض على الجرائم والجنح، [المواد: 32 – 33 – 34].
2. الجنح المرتكبة ضد الشأن العام [المواد: 35 – 36 المعدلتين بموجب القانون رقم: 054/2011].
3. الجنح المرتكبة ضد الأشخاص [المواد: 37 – 38 – 39 و40 – 41 المعدلتين بموجب القانون الآنف]..
4. الجنح ضد رؤساء الدول ووكلاء الدبلوماسية الأجانب [المواد: 44 – 45] المعدلتين بنفس القانون.
5. جنح النشر المحظور وحصانة الدفاع [المواد: 46 – 47].
ولذا لا بد من تفكيك هذه الجرائم لفهم هذه المعالجة التشريعية ولرصد الملاحظات عليها.
أولا: التحريض على الجرائم والجنح: لقد عاقب المشرع المحرضين بالسجن خمس سنوات وبغرامة خمسة ملايين أوقية، بوصفهم متمالئين في عمل جنائي أو جنحي، وفق القواعد العامة للاشتراك واعتبرهم أولئك الذين يحرضون مباشرة أو عن طريق خطب أو صراخ أو تهديد مفوه به في مكان عمومي أو اجتماع عام أو عن طريق الكتابات أو المطبوعات، أو الرسوم أو النقوش أو الصور أو أي وسيلة للكتابة أو للصوت مباعة أو موزعة في أماكن أو اجتماعات عامة سواء عن طريق وسيلة سمعية بصرية، وإذا لم ينجم عن فعل التحريض سوى محاولة ارتكاب الجريمة يطبق نفس المقتضى [المادة: 32 ق ص].
والتحريض المعاقب عليه هو ما كان الغرض منه أن يقترف المُحَرَّض عملا جنائيا أو جنحيا بإحدى الوسائل الآنفة، ويجب أن يكون علنيا ومباشرا، ومع أن المشرع لم يقدم حدا ولا تحديدا للعلانية ولا للمكان العمومي، إلا أن الفقه اعتبر المكان العمومي هو المكان المباح لأي شخص، أو أي مكان مخصص لدخول الجمهور سواء خلال أوقات محددة كالمدارس، أو بالمصادفة كالمحلات التجارية، ورأى أن العلانية لا تتوفر إلا إذا جمعت علانية المكان والجمهور والوسيلة، وأن إثباتها يقع على كاهل النيابة العامة أو القائم بالحق المدني.
ولما كان التحريض عملية نفسية يقوم من خلالها الجاني بالتأثير وحمله على ارتكاب الأفعال المكونة للجريمة والتي من شانها الإضرار بمصلحة عامة يحميها القانون، تم الإبقاء على العقوبة السالبة للحرية جزاء على هذا الجرم ذي الأثر المُتعدِّي، استثناء من بقية جنح النشر الآتية.
ثانيا: الجنح المرتكبة ضد الشأن العام، وعلى رأسها قذف رئيس الجمهورية بإحدى الوسائل المبينة في المادة: 32 الآنفة، وزعزعة السيادة الوطنية، وإضعاف عزيمة القوات المسلحة وهي جنح تؤذي السيادة الوطنية معلقة على قيدين هما: نشر الأخبار الزائفة؛ للإخلال بالنظام العام أو إثارة الفوضى، وسوء النية ، وقد اقتصر المشرع في هذا النوع من الجنح على عقوبة الغرامة الثقيلة في المادتين: 35 – 36 المعدلتين بموجب المادة: 2 من القانون رقم: 054/2011 النافذ حليا.
ثالثا: الجنح المرتكبة ضد الأشخاص أو القذف الصحفي وهو كل أداء أو نشر لواقعة [ قذف / تجريح / افتراء أو سب / إهانة] تلحق إضرارا بشرف أو اعتبار الشخص أو الهيأة اللذين تنسب / تسند لهما الواقعة [المادة: 37]، والإسناد نسبة الأمر إلى شخص على سبيل التأكيد، بخلاف الإخبار الذي هو رواية عن الغير تحتمل الصدق أو الكذب ولذا كانت نسبة الواقعة القادحة إلى الشخص هي المعاقبة لا مجرد الإخبار، وقد حدد المشرع عقوبة هذه الجنحة بالغرامة فقط [المادة: 38].
رابعا: الجنح ضد رؤساء الدول ووكلاء الدبلوماسية الأجانب وتعني الإساءة العلنية لرؤساء الدول والحكومات والأجانب ووزراء الشؤون الخارجية أثناء مزاولتهم لمهامهم ولو كانت الإساءة منصبة على أمور خاصة تتعلق بأشخاصهم وليس بصفاتهم، ويجب أن تكون مأمورية الممثل سارية لم تنته بعد وأن يكون المس بسبب أمور تتعلق بأداء وظيفته ولا تنطبق إذا ما انتهت مدة حكمهم أو ولايتهم أو انتدابهم أو بعد وفاتهم وقد رصد المشرع الغرامة فقط كعقوبة لهذه الأفعال.
خامسا: جنح النشر المحظور: يعاقب نشر الأخبار القضائية بواسطة الصحافة كنشر الوثائق والكتابات وثائق الاتهام والوثائق المتعلقة بمسطرة المتابعة الجنائية أو الجنحية قبل تلاوتها في جلسة علنية بغرامة تصل إلى المليون أوقية [المادة: 46]، وذلك لتجنّثب مناقشة المساطر القضائية في الأماكن العمومية وما يؤديه ذلك من زعزعة الثقة في القضاء وخدش الأخلاق العامة، ولا يُعتبر من هذا القبيل نشر خطابات ألقيت في دورات البرلمان، أو تقديم تقرير موضوعي عن حسن نية حول المداولات العدلية والخطب الملقاة أو النصوص المكتوبة أمام المحاكم إذا صدر عن حسن نية، وقد منح المشرع القضاة الذين يبتون في أصل القضية سلطة إصدار الأمر بسحب الخطب التَّجريحية والإساءة والقذف وأن يُدينوا الشخص المسؤول عنها بتقديم التعويضات اللازمة.
ولئن كانت المعالجة التشريعية للجرائم المتقدمة لم تخرج عن الإطار التقليدي المتعارف عليه في الأنظمة القانونية المشابهة، إلا أنه يمكن رصد جملة من الخصائص والمميزات والملاحظات من خلال ما يلي:
1. لا يخفى عن الناظر أن المشرع اعتمد رُزْمة عقابية ترتكز أساسا على الغرامة المتراوحة بين: 200.000 و10.000.000 أوقية كعقوبة وحيدة بدل العقوبة السالبة للحرية، بعد أن كان ينص عليهما أصليا أو يُخار بينهما، فقد تراجع المشرع في التعديل الأخير لقانون حرية الصحافة عن اعتماد العقوبة السالبة للحرية ورغم أن الهدف من ذلك هو رغبة المشرع الحسنة في عدم تحجيم حرية النشر، إلا أن جسامة الغرامات يجعلها عبثية وموغلة في الإجحاف.
2. أن المشرع الموريتاني اعتمد مبدأ المسؤولية بالتتابع أو التَّتالي Responsabilité en cascade بحيث جعل المشرع المسؤولين عن الجريمة الصحفية سلسلة متتابعة الحلقات يُسألون حسب تسلسلهم المنوَّه عنه في لائحة النشر عن الجريمة الصُّحفية: المديرون ثم الكتاب ثم الطابعون ثم الموزعون [المادة :49] دون إفلات المسؤول الأدنى من العقاب لإمكانية متابعته احتياطيا تحت وصف التمالئ أو الاشتراك [المادة: 50]، لكن جعل التعويض عن الأحكام التعويضية الصادرة لصالح الغير ضد الأشخاص المبينين في المادة: 49 – تطبيقا لقاعدة المسؤولية عن فعل الغير – على كاهل ملاَّك وسيلة النشر يؤدي إلى تحمل من في أسفل الهرم عند عدم إمكانية معرفة المدير أو الكاتب أو الطابع أو في حال إعسارهم ما يؤدي إلى إجحاف باد في حقهم لكل ذي بصيرة.
3. تخضع المتابعة في جرائم النشر لقواعد دقيقة فللنيابة العامة سلطة تقديرية واسعة في تحريك الدعوى في حال الجنح المتعلقة بالنشر المحظور وانتهاك حرمة الآداب العامة والشأن العام بيد أنه تم تقييد سلطتها في باقي الجنح الصحفية والتي لا تمكن فيها المتابعة إلا بناء على شكاية أو طلب أو إذن تحت طائلة البطلان من شانه أن يَغُلَّ يد النيابة العامة عن المتابعة ولو مؤقتا [المادة: 52 قانون الصحافة] رغم خطورة الوقائع أحيانا خصوصا أن تنازل الشاكي يتسبب في إلغاء وسقوط المتابعة طبقا [للمادة: 53 قانون الصحافة]، كما أن النيابة العامة ملزمة عندما تطالب بفتح تحقيق بتبيين الروابط وبتكييف الإساءة أو القذف اللذين على أساسهما قامت المتابعة، وتحديد النصوص المنطبقة تحت طائلة إلغاء المتابعة الجنائية طبقا لصريح المادة: 54 من قانون الصحافة.
4. تتقادم الدعوى العمومية والدعوى المدنية عن جرائم النشر بعد مضي ثلاثة (3) أشهر ابتداء من اليوم الذي ارتكبت فيه أو اليوم الذي تمت فيه آخر متابعة إذا كانت هناك متابعة طبقا للمادة: 69 من قانون الصحافة، ولا شك أن قصر مدة التقادم هنا خلافا للقواعد العامة في التقادم المنصوص عليها في المواد: 7 و8 من قانون مدونة الإجراءات الجنائية، ينمُّ عن المرونة التي اعتمد المشرع تُجاه الجنح ذات الصلة بحرية التعبير، كما أن شمول مدة التقادم للدعوى الجزائية والمدنية الخاصة بتعويض الضحايا يعني أن المشرع لا يأخذ بعين الاعتبار قواعد التقادم في المادة الجزائية التي نفصل بين مدة التقادم الجنائية والمدنية بحيث إن تحقق الأول لا ينعكس على الثانية [المادة: 10 من مدونة الإجراءات الجنائية].
5. يُفرَّق بين القذف أو الافتراء أو التجريح والسب والإهانة بمحدد الواقعة القدحية فإذا كانت الواقعة محل القذف محددة فهي قذف أو افتراء وإن لم تكن محددة فإنها سبٌّ أو إهانة وقد احسن المشرع حين عبَّر عن هذا المحدد في الفقرة الأخيرة من المادة 37 التي تنص على أنه: “يعتبر قذفا كل عبارة أو إهانة أو لفظ احتقار أو كراهية لا تتضمن تسمية أية واقعة بعينها، فمن وصف شخصا بالارتشاء دون نسبة واقعة بعينها إليه يعد سابا لا قاذفا، بيد أن المشرع أهمل التعريض ولم يرصد للمعرِّض عقوبة.
لقد أحسن الفقه الإسلامي حين اعتبر التعريض في القذف كالتصريح كتابة أو قولا في وجوب الحد وهو قول الإمام مالك، والتعريض كأن يقول في حال الغضب والمُلاحاة أي المخاصمة: أنا ما زنيْت فهو كقوله: إنك زنيْتَ، ولا حدَّ في التعريض عند الشافعي وأبي حنيفة حتى يُقِرّ أنه أراد به القذف، وهو ما جنحت عنه المادة 341 في فقرتها السادسة التي لا تعتبر التعريض بالكناية قذفا إلا إذا اتجه إليه القصد، ولذا احتاط الفقهاء حين قرروا عن عدم استكمال شروط حد القذف التعزير؛ لأجل الأذى ولبذاءة اللسان، كما يقول الماوردي.
6. يشترِط المشرع توفر عنصر سوء النية للمعاقبة في جنحتين صحفيتين فقط هما: جنحة نشر الأخبار الزائفة والمستندات المدلس فيها [جنح الشأن العام]، وجنحة نشر ما يجرى في الجلسات العلنية للمحاكم بغير أمانة وعن سوء نية [جنح النشر المحظور]، وأما بقية الجنح فلا نجد عبارة بسوء نية أو عن سوء نية، لكن سوء النية وحسنها يحتاج إلى محددات وضوابط دقيقة أهملت عند التشريع وتركت للاجتهاد.
7. أن الظروف المخففة تطبق في جميع جرائم الصحافة المادة: 68 و لا ينطبق تشديد العقوبات المترتبة على العود إلا في الجنح المنصوص عليها في المواد: 33 و40، 44 المعدلتين والمتعلقة بالتحريض وقذف الخواص، والإساءة العلنية لرؤساء الدول والحكومات الأجانب ووزراء الشؤون الخارجية الأجانب وذلك لحساسيتهم.
8. أورد المشرع لنا أنماطا متعددة من الجنح المرتكبة ضد الأشخاص هي: القذف أو الافتراء التجريح أو la diffamation، والسبّ، أو الإهانة l injure، ولم يفرق بينها وإنما اكتفى بدلالتها القدحية الموجهة إلى ذوات متمايزة: الخواص / القوات المسلحة، وقوات الأمن / الأسلاك المنتظمة / الإدارات العمومية / أعضاء الحكومة / البرلمان / الموظفين العموميين مما أدى إلى الخلط الاصطلاحي بين القذف أو الافتراء أو التجريح المترجم في قانون حرية الصحافة بعبارة la diffamation والذي يراد به القذف الصحفي وبين القذف والافتراء المترجم بعبارة calomnie في الفرع السابع من القانون الجنائي المتعلق بالشرب والقذف وشهادة الزور والافتراء والسب وإفشاء الأسرار [Alcoolisme, calomnie, faux témoignage et révélation de secret professionnel ].
ولا ريْب أن القذف calomnie المنصوص عليه في المادة: 341 من القانون الجنائي هو قذف ظاهر العفة بالزنا أو اللواط وهو جرم حدي ورد في النص وانعقد الإجماع على جلد مقترفه بالقول أو الكتابة الصريحين، أو بالكتابة إن اعتبر بأنه يقصد بها القذف ثمانين جلدة، وهو من حقوق الآدميين يستحق بالطلب ويسقط بالعفو ولا علاقة له البتَّة بموضوعنا.
لكن محل الرَّيْب هو الافتراء المنصوص عليه في القانون الجنائي في المادة:348 والذي ترجم هو الاخر بعبارة calomnie والذي غالبا ما يجمل فيه الافتراء الصحفي عند التكييف للأسف.
إن هذا الافتراء الوارد في المادة: 348 من القانون الجنائي ليس هو الافتراء الصحفي المنصوص عليه في المواد:37 – 38 وما بعدهما من قانون حرية الصحافة، لسببين:
أولهما: أن القذف الصحفي لا يقوم إلا بإحدى الوسائل المنصوص عليها في المادة: 32 من قانون الصحافة حصرا.
ثانيهما: أن الافتراء المنصوص عليه في المادة: 348 من القانون الجنائي هو البلاغ الكاذب dénonciation calomnieuse الذي يعرفه الفقه بأنه: “تعمُّد إخبار إحدى السلطات العامه الإدارية أو القضائية كذبا ما يتضمن إسناد فعل معاقب عليه إلى شخص معين بنية الإضرار به”، وهو تعريف يتطابق مع صياغة المادة: 348 نفسها والتي تنص على أنه: “يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات وبغرامة من 10.000 أوقية إلى 200.000 أوقية كل من افترى بأية طريقة كانت على فرد أو أكثر لدى الضباط القضائيين أو ضباط الشرطة القضائية أو الإدارية أو لدى سلطة أخرى مخول لها حق المتابعة أو التقديم إلى السلطة المختصة أو إلى رؤساء المفترى عليه طبقا للتدرج الوظيفي أو من يستخدمونه… [و] إذا كانت الواقعة المبلغ عنها معاقبا عليها بعقوبة جزائية…”، ويعزِّز ذلك أن هذه المادة 348 من القانون الجنائي استنساخ أمين للمادة: 445 من القانون الجنائي المغربي لم يحذف منها إلا عبارة [وشاية كاذبة] التي تبين مدلول المادة إذ تنص على أن: “من أبلغ بأي وسيلة كانت وشاية كاذبة ضد شخص أو أكثر إلى الضباط القضائيين أو ضباط الشرطة القضائية أو الإدارية أو إلى هيئات مختصة باتخاذ إجراءات بشأنها، أو تقديمها إلى السلطة المختصة، وكذلك من أبلغ الوشاية إلى رؤساء المبلغ ضده أو أصحاب العمل الذين يعمل لديهم يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة مائتين إلى ألف درهم”، فبمقارنة بسيطة بين نص المادتين نجد أن سوء الترجمة كان سببا وراء هذا الخلط الخطير بين الجريمتين المتمايزتين المذكورتين.
9. أنه لوزير الداخلية والسلطات الإدارية المحلية أن يقوم بمصادرة أو بحظر وسيلة النشر لأي منشور مناف للنظام العام والأخلاقيات العامة أو يشكل خطرا على الأطفال طريق مقرر مسبب ويقبل هذا المقرر الطعن أمام الغرفة الإدارية بمحكمة الولاية التي يوجد بها المقر الرئيسي للصحيفة وعليها لأن تبت في أجل لا يتجاوز 24 ساعة ابتداء من تاريخ إيداع الطلب كما يجب على محكمة الاستئناف أن تبت في استئنافه خلال 72 ساعة فقط، ولا شك أن تحديد هذه المدة وإن كان يشكل ضمانة إلا أنه يعرقل حرية القاضي واستقلاله لتقييده بآجال لا يمكن الوفاء بها غالبا، هذا فضلا عن إهمال وضعية الحكم هل يكون مشمولا بالنفاذ المعجل أم لا.
10. أن إجراءات التقاضي في الجريمة الصحفية مَسْطَرَها المشرع وأحاطها بالسرعة الكافية ضمانا لحرية الصحافة، فقد أناط مهمة تحريك الدعوى العمومية فيها للنيابة العامة بشكل تلقائي أو بطلب منها وفق الحالات التالية المنصوص عليها في المادة: 52 من قانون حرية الصحافة.
– في حالة السب أو التجريح ضد المحاكم والأسلاك المنتظمة تتم المتابعة بعد مداولة الجمعيات العامة لهذه الأسلاك وبطلب منها، وان لم يكن للسلك جمعية عمومية فبطلب من رئيسه أو الوزارة الوصية عليه.
– في حالة السب أو التجريح أو القذف ضد رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو عضو منها تتم المتابعة بطلب من المعني موجه لوزير العدل.
– في حالة السب أو التجريح أو القذف ضد أحد أعضاء الجمعية الوطنية تتم المتابعة بشكوى من العضو نفسه.
– في حالة القذف ضد موظف أو وكيل عمومي غير المذكورين آنفا أو مواطن مكلف بخدمة عمومية تتم المتابعة بشكوى شخصية أو تلقائيا من قبل الوزارة الوصية.
– في حالة قذف قاض أو شاهد فتتم المتابعة بعد شكوى المعني نفسه.
– في حالة القذف ضد رؤساء الدول والحكومات والدبلوماسيين والوكلاء الأجانب تتم المتابعة بتوجيه طلب إلى وزير العدل بواسطة وزير الخارجية.
– في حالة القذف ضد الخصوصيين تتم المتابعة بعد شكوى الشخص المتضرر نفسه، أو تلقائيا من قبل النيابة العمومية إذا كان القذف أو التجريح قد وجه للشخص بسبب انتمائه أو عدم انتمائه لعرق أو فئة أو دين معين.
وتلزم النيابة العامة بتوضيح الدعوى وتكييف الوقائع وتحديد النص القانوني المنطبق على المتابعة تحت طائلة بطلانها، ويمنح المتهم أجل 20 يوما خالصة بزيادة يوم واحد لكل 100 كيلومتر للمثول ويقصَّر هذا الأجل إلى 24 ساعة فقط في حالة ما إذا كان القذف وقع خلال الحملة الانتخابية في حق مرشح لوظيفة انتخابية، كما يمنح المتهم أجل عشرة أيام موالية لصياغة التهمة لتقديم حججه وبراهينه على صحة الوقائع.
وقد ألزم المشرع المحكمة الناظرة بالبت في أجل أقصاه شهرا واحدا ابتداء من تاريخ أول جلسة إلا أنه يجب عليها أن تبت قبل يوم الاقتراع إذا كان القذف موجها لمرشح لوظيفة انتخابية، وقد حدد المشرع آجال الطعون بثلاثة أيام بالنسبة للطعن بالاستئناف، وثمانية أيام بالنسبة للطعن بالتعقيب أمام المحكمة العليا.
ولا شك أن هذه الإجراءات والمساطر التمييزية المتَّبعة في جرائم النشر تحول دون تحجيم حرية الصحافة والنشر وتبيين خصوصية هذه الجريمة.
القاضي هارون إديقيبي