رمضان وقنديل
الزمان انفو –
كتب عباس ابراهام:
—————
يكون الكلامُ فيما يلي على قضيّتيْن: قضيّة طارق رمضان ويونس قِنديل من جِهة راهنيتهما في مسألة الدمقرطة والمؤسّسات. كان المتكلِّم قد اقترح مؤخّراً انعِكاسيةً على الفضاء العمومي؛ يقصُد بذلك أنْ يُفكِّرَ هذا الفضاء حول نفسِه وحول أدبياتِه وأخلاقِه. وبهذا المعنى فإنّ مسألة الدمقرطة، من حيث هي أخلاق وسُبُل تنظيميّة للحوار (وليست فقط آليّةً للعبة التداول) قد صارَت حائنة بدخول الفضاء العمومي في المجال اليومي والخصوصي لكلّ فرد.
أوّدُ أنْ أقول في البداية إنّني لا أمتلِك معلومات مهمّة من الناحية الجنائية في القضيّتيْن، وليس ذلك مبحُثي، وإنّما أهتم بنوعية اللغة والمحاججة المُقدّمة وملَكة الحُكم. وما يبدو لي هو أنّ الفضاء العمومي العربي لم يُطوِّر بعدُ لغة احترافيّة في التعامل مع “الفضيحة”. والآن دعك من الإنكاريين والقداسيين، فهؤلاء لا يهمّون في نقاش المسائل؛ ولولا عدم ثقة المصادِر الإخبارية وسماحها بالكذب وعدم اليقين والوهم الجماعي المُريح لما كان لهم وجود في المجال العمومي العقلاني. ما يهمّنا هنا هو أهل الأخبار والنظر. ففي قضيّة طارِق رمضان طالبوا بخلعِ الرداء الإسلامي عنه، بحجّة أنّه تخلّى عنه أوّلاً. أمّا في قضية يونس قنديل فقد واصَلوا لعبتَهم الدؤوبة في تصفية الحسابات بالقول إنّ “مؤمنون بلا حُدود” فقدَت مصداقِيتَها وبالتالي يتعيّن حلّها أو الانتهاء منها.
وما أريد أنْ أقولَه في مسألة الفضيحة هو أنّه يتعيّن على الفضاء العمومي العربي أنْ يأخُذَ الفضيحة بجديّة، باعتِبارِها ظاهِرة إخباريّة حداثية. المخيال الليبرالي التقليدي يُقدِّمُ إجراءً أكثرَ أماناً: المؤسّسات فوق التاريخ ويملؤها أشخاصٌ استحقاقيون ولكنّهم أحياناً يسيؤون استخدام السلطة أو يضعفون للإغراءات غير المؤسّسية. في حالة حدوث هذا تكون المؤسّسات مهيّأة بأدوات المساءلة والتحقيق التي تسمحُ لها بعزل النزق الفردي عن المؤسّسات التاريخيّة. وهذا هو مفهوم “الخزي” العربي. هو أيضاً مخيالٌ يساري حيث يتواكب الصعود الطبقي، وبالأخصّ البرجوازية الصغيرة، التي تزعم الثورة والإصلاح، مع انتهازية سرعان ما تتكشّف إذا وصلت هذه البرجوازية للسلطة. ولكن مفهوم “الخزي”، الذي يمكن ترجمتُه إلى مفهوم “السقوط”، اختُطِف بمخيال ذكوري هو مفهوم “العار” والعارُ صارَ اجتماعياً، ليس خاصاً بالفرد، بل بمجتمعِه ومؤسّستِه. إذاً يبدو أنّ المخيال الليبرالي الابتدائي لا يعتمِل باستقلالية في الفضاء العمومي العربي.
أمّا استخدام الفضيلة الإسلاميّة، وبالأخصِّ ما أُؤدلِجَ منها، في النقد العمومي فلا يستقِيم دوماً: ذلك أنّ الفضاء العمومي، بما هو وليد في حداثات غير إسلاميّة صرفة، ما زال يحمِل في بواطِنه ما ينتمي للعقل العمومي وليس للعار والشنار والعِفّة الدِّينة (وهذه هي بُنية العلمنة: أنّ في العموم ما يحتوي على القيّم الأهلية). مثلاً مفاهيم الغيبة والطهرية والقذف والنميمة والتجسس لا تعتمِل في الفضاء العمومي العقلاني: لأنّها تغدو جزءاً من ضرورة اطلاع الجمهور على مُحدِّدات الفاعِلين. وعلاوة على هذا فهي تتناقض مع فضائل إسلاميّة أخرى هي غضّ البصر والستر والسماح. بعبارة أخرى لا تُقدِّم الفضيلة الدِّينية أخلاقاً نسقية يمكن التسلّح بها من طرف واحد في الفضاء العمومي (وإنْ كانت مهمّة جِداً في نقاش الأخلاق العموميّة).
وخلاصة القول هو أنّ أنماط التفكير التي لا تقدر على تمييز المؤسّسة عن الأشخاص أو تِلأك التي تستنِد على نسَقٍ ديني واحِد (لأنّ هذا النسَق غير موجودٍ أصلاً) ليست مفيدة في فضاء عمومي معقّد. وهي أقرَب إلى تراشُقات غوغاء المصارَعة منها إلى أحكام العاقلين وتداولاتِهم.