كلمة بمناسبة عيد الشرطة العربية
الزمان انفو _
كلمة الإصلاح الآن تـتحير من أين تبدأ الكتابة عن هذه الهيئة التي لا أرى مثالا لمهنتها يعبر عنها إلا ما قاله داعية كبير عاش مع القرآن: فقال العيش مع القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها.
فكذلك العيش في المهنة الحقيقية للشرطة: راحة ضمير ومتعة داخلية لا يرتاح لها إلا من عاشها عملا وأتيحت له الفرصة لتطبيقها كما يشرحها العارفون بها.
ولكن أقول مع الأسف إننا نحن القدماء وزملاؤنا الذين جاءوا بعدنا لم يتركنا الجيش نـنعـم بتلك الراحة والمتعة حتى يرى الشعب الموريتاني بالعين المجردة حلاوة الهدوء ونشر الاطمئنان والسكينة في قلوب المواطنين نتيجة تطبيق لقواعد أمنية يمكن الرجوع إليها 24/24 لوجود الراحة والطمأنينة عن طريق علم الأمن وتطبيقه لا عن طريق طيبوبة الشعب الموريتاني وعدم إجرامه الطبيعي فقط التي قد تتغير في أي لحظة.
وسوف أوضح ـ إن شاء الله ـ سبب عدم إتاحة الفرصة إلى عهد قريب جدا.
والآن أود أن أعطي نبذة قـليلة عن تاريخ إنشاء الشرطة الموريتانية التي لم تولد قبل الاستـقلال إلا بفتح مفوضية واحدة في مدينة أندر العاصمة الأولى لموريتانيا أيام الاستعمار.
أما بعد الاستقلال فقد أنشئت إدارة للشرطة سنة 1960 في نواكشوط وعملها محدود وأكثره إصدار الجوازات ومراقبة الأجانب، إلا أنه نتيجة السماح بإجراء مسابقة لاكتتاب الشرطة فقد وقعت مسابقة في نفس التاريخ سمحت باكتتاب مفتشين ووكلاء بعد تكوينهم السريع فقد أنشئت مفوضيات ـ في كل من: نواكشوط ـ روصو ـ أطار ـ نواذيب وبعد ذلك تتابع فتح المفوضيات كل ما سمحت الظروف بذلك.
وبعد هذا التاريخ الموجز فإني أصل إلى تعريف موجز كذلك لكلمة الشرطة لغة ولأعرفها أخيرا بمهنتها الحقيقية.
فتعريفها اللغوي يقال إن الشرطة مشـتـقة من العلامة لأن المسؤولين عن الأمن العام في أول مصطلحه كانوا يحملون شعارات تميزهم عن غيرهم.
ويظهر أن هذا تعريف لغوي محض لأن الكثير الآن أصبح يشاركهم في وضع العلامات المميزة.
ولكن التعريف العملي لمهنة الشرطة مباشرة هو أنهم الرجال الذين جعلتهم الدولة عيونها للسير وراءهم ولذا فأول درس يتلقاه الشرطي عند تعريفه لمهنته هو أن الشرطة عيون الدولة التي تسير خلفها، ويترتب على هذا التعريف العملي الكاشف حقيقة مهنة الشرطة وهي أن كل ما كانت رؤية الشرطة في عملها تساوي 10 على 10 فالدولة تسير سيرا حثيثا على الخطوط المحددة لها في جميع الميادين.
وعندما يكون هناك ضباب في رؤية الشرطة ـ فإن الدولة تبعا لذلك تترنح في سيرها يمينا وشمالا وعلى الدولة الموريتانية أن تعترف أن هذا هو ما وقع لها من الانقلاب وإلى عهد قريب جدا.
فمنذ إزالة الحكم المدني الأول وموريتانيا تـترنح في سيرها إلى أن وصلت قمة الترنح عندما سمحت بإقامة الديمقراطية الفوضوية العرجاء فوق أرضها وتحت إدارتها هي العسكرية.
وقبل أن أبتعد عن هذا التعريف العملي لمهنة الشرطة وهي أنهم هم عيون الدولة فإن شرحه الذي يوضح المهنة هو أن الشرطي عليه أن يكون هو أول من يدخل المسجد ولو لم يكن من المصلين وهو آخر من يخرج منه وهو أول من يدخل الحانات وهو آخر من يخرج منها ولو لم يكن ممن يستعمل الكحول.
وبناء على هذا التعريف فإني أنـتهز فرصته لأبين للقارئ الكريم كيف تكون الشرطة وحدها هي عيون الدولة.
الجواب أنه من المعلوم أن الدولة هي كيان من بين أركانه السلطة والشعب وهذه السلطة هي المكلفة بتحمل جميع متطلبات الحياة السعيدة في الدولة المتمثـلة في تسيـير أمور الدولة في شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخ.
وملاك توفير ذلك كله هو المحافظة على نشر الهدوء والسكينة فوق كامل ربوع الدولة ولتحقيق ذلك قامت أغلب الدول بتقسيم أفراد قوتها على النحو التالي:
أولا: قوة الجيش ويعنيه مباشرة المحافظة على حوزة التراب الوطني وحفظ حدودها من الاعتداء عليها وعنده وسائله لذلك ولا يتدخل في الشؤون الداخلية إلا إذا استدعي لطوارئ خارجة عن سيطرة القوات الأخرى.
ثانيا: قوة الدرك الوطني ومهمتهم أنهم هم شرطة جميع ما يطلق عليه القوات المسلحة بمعنى أنهم مكلفين بالشرطة القضائية داخل ما يقع في القوات المسلحة في أي تحرك غير مسموح به فرادى أو جماعات وكذلك مهمتهم المعاملة مع كل ما يدخل في عمل الشرطة من الأمن العمومي أو الشرطة القضائية والاستعلامات ولكن في الريف فقط بالإضافة إلى مراقبة المرور بين المدن.
ثالثا: قوة الحرس الوطني وهي قوة لحراسة المنشآت العامة والشخصيات الهامة في الدولة بالإضافة إلى كتيبتهم القتالية المساعدة للجيش ساعة القتال وكذلك مكافحة الشغب إذا تجاوز طاقة الشرطة الحضرية في الحضر وقوة الدرك في الريف بالإضافة أساسا إلى المساعدة المباشرة للإدارة الإقليمية في تسيـير إدارة مكاتبها.
رابعا: القوة الأمنية المدنية وهي هيئة الشرطة التي اصطلحت جميع الدول أن تسند إليها المهمة التي أناطها الدستور برئيس الدولة وأناطها هذا الأخير بوزارة داخليته، ووزير الداخلية كلف بها الإدارة الإقليمية التي جعلت الدولة تحت قيادتها في حفظ النظام جميع القوات العسكرية أعلاه كل ما احتيج لذلك وقوة الشرطة الداخلية المخصصة للحضر.
وهذه المهمة العامة كلف بها الدستور رئيس الدولة خاصة وهي المحافظة الدائمة المستمرة على حياة سير الدولة بانتظام وحفظ أرواح وممتـلكات جميع أفراد الشعب وما فوق أرض الدولة من الأجانب ونشر الأخلاق الحميدة وإنصاف المظلوم من الظالم وعلى العموم نشر الهدوء والسكينة والاستقرار في الدولة.
هذه هي مهمة الشرطة التي تنوب فيها عن مسؤولية الرئيس عنها بواسطة وزير الداخلية والإدارة الإقليمية.
وبعد هذا التكليف فهمت الشرطة أن عدم الهدوء والسكينة وجميع الاضطرابات في الدولة كل ذلك لا يقع إلا عن إجرام فعينت نفسها لمكافحة الجريمة أيا كانت ومن أي كانت قبل أن تقع وبعد أن تقع وقبل ذلك كله البحث عن من يفكر فيها في جميع مراحلها، كما أنها فهمت أن الجريمة تقع عن طريق مزاولة السياسة أو عن طريق الاقتصاد أو الشؤون الاجتماعية أو الثقافية أو الفروع الناتجة عن هذه المسميات
وعندئذ قسمت الشرطة نفسها لمكافحة كل مراحل الجريمة وفي جميع الأماكن وذلك على النحو التالي:
أولا: فقبل أن تقع الجريمة خصصت لها فرقة حفظ النظام بالدوريات الراجلة والمحمولة وتتكثف الدوريات كلما جن الظلام وتأخر الليل وفي جميع أماكن مظنة الاجتماع للجريمة.
ثانيا: بعد وقوع الجريمة وقد خصصت له الشرطة القضائية وفروعها الشرطة الفنية الخ وذلك لضبط الجريمة عند وقوعها والاستحواذ على ما في ميدان الجريمة من آثار وإصدار المحاضر التي تدين المجرمين.
ثالثا: شرطة الرقابة أو الاستعلامات وتعنى البحث عن التفكير في الإجرام، وأخرتها هنا لنذكر ما يترتب عليها من مكافحة الإجرام.
هذه المهمة من المعلوم أن الشرطة مهما كان عددها وإمكانياتها وتعلمها أن تحيط بجميع ما في الدولة من مظنة التفكير في الإجرام فماذا عملت شرطة الدولة في هذا الصدد.
فالدول التي تهتم بأمنها وتعلم جيدا أن كلما اتسعت الحضارة وطغى العلم اتسعت الجريمة وتنوعت، فإن هذه الدول تعطي لأمنها الداخلي ورقة بيضاء لتوفير حفظ الأرواح والممتـلكات ونشر الهدوء والسكينة في جميع التراب الوطني.
وتـتـكفل له بجميع الإمكانيات التي تحقق ذلك ــ ولمعرفة الوزارات أنها تحتاج لخدمات هذا النوع في جميع مصالحها من المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة والثقافة إلى آخره، فهي سخية بتحويل بعض ميزانيتها لوزارة الداخلية لتراقب لها مصالحها وبعد معرفة ذلك كله قامت الشرطة بالتسجيل في الورقة البيضاء جميع ما يمكن أن تقع منه الجريمة:
ففي مجال السياسة سجلت الأحزاب بجانب كل من يهتم بالسياسة، وفي المجال الاقتصادي سجلت الشركات العامة والخاصة وما يمت إليها بصلة، وفي الثقافة سجلت الجامعات والثانويات والمراكز الثقافية.
وفي الشؤون الاجتماعية سجلت القبائل والشرائح ومراكز المجتمع المدني إلى آخره وتقوم شرطة الرقابة بزرع مراقبين على الجميع بحسب الإمكان ويلزم أن يكون المخبرين هنا شرفاء، فشرطة الرقابة تميز بين المخبر النزيه والمخبر المضاد الخ.
وهنا أود أن نفرق للقارئ الكريم بين التجسس بالمعجمة والتحسس بالمهملة وكلاهما في القرآن الأولى نهى الله عنه {ولا تجسسوا} والثاني أمر الله به {فتحسسوا من يوسف} {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} الخ الآية.
وتقوم هذه الهيئة بإيصال تقارير المراقبة قبل الساعة 8 من كل صباح فيرسل تقرير مفصل إلى من يهمه الأمر يشمل جميع مرافق الدولة.
وملخص ما جاء أعلاه أن جميع الدول لا تـتعامل مع حفظ الأمن العام بجميع جوانبه إلا مع الشرطة وحدها، أما الهيئات الأخرى فمحدود لها المكلفة به من المراقبة بصفة عامة، والدول هنا جميع أركانها سخي بما يقدم في حفظ الأمن العام لهذه الهيئة لتحقيق هذا العرض المبسط إلى أقصى حد.
ومن هنا نعود إلى موريتانيا لنتساءل عن مهمة الشرطة في الدولة أين منه موريتانيا؟ وهنا أيضا ستكون الإجابة مبسطة وعلى القارئ أن يفهم الموضوع من ما كتب أعلاه وبالإشارات أدناه.
فالجمهورية المدنية الأولى ولدت بموريتانيا بالغة سن الرشد المدني وولدت معها كذلك نواة للشرطة بالغة الرشد تبعا لبلوغ المسؤولين عنها آنذاك فلم تتدخل للشرطة في عملها القليل آنذاك ولكن على الطريق الصحيح.
ولكن ما إن وقع الانقلاب حتى استلم الجيش مقاليد الكل وأصبحت الشرطة غير بالغة في نظره حتى الآن فتكوين عملها الذي أوردناه سابقا لا يعنى الجيش فمن ذلك إلى عهد قريب أعلى رتبة في الجيش يكون ثلاثة منها على التراتب مسؤول عن الأمن الداخلي عقيد مدير الأمن ـ عقيد وزير الداخلية ـ عقيد رئيس الدولة وهذا في أغلب الأحوال ـ وما إن مرت سنين قليلة على الانقلاب حتى انخرط الجميع في الحركات السياسية ـ أي جميع الهيئات العسكرية والشرطة ـ قومي بأنواعه الثلاثة زنجي بنوعيه الخ وقد تقـلصت مهمة الشرطة إلى أقصى حد: الدوريات ـ الاستعلامات ـ التقارير وبقي كثير من الشرطة مع رواتبهم في الوظيفة العمومية وجها لوجه إلا أن الأمن العمومي تعاقدت معه اتحادية النقل على خدماتها وأنفقت عليه بسخاء وتركته الإدارة العامة بالاستغناء عنه كما ظهر لها من الدولة.
وما إن وصلنا إلى سنة 91 حتى جاءت الديمقراطية الفوضوية واستلم أفراد رجال التشريع والعمد ميزانية الدولة: الناتج والمساعدات ـ والمديونية والتوظيف بمعنى انفصلت الدولة عن الشعب نهائيا وحصل الكسوف النصفي في الدولة فوق الشعب نصف في الظلام والآخر في الضوء الكاشف ونتج عن ذلك أن الوزراء والولاة وكل من عنده ميزانية للدولة وضع يده عليها مباشرة فـنتذكر أن الولاة كان عندهم مساعدة للمؤسسات الحيوية في الولاية مثل: التعليم والبيطرة والتنمية والأمن الخ وانتهى ذلك كله عندما علموا أن الدولة أصبح كل من في يده شيء من ميزانيتها يتصرف فيه كيف شاء.
وما جاء انقلاب 2005 حتى وجد جميع قطاعات الدولة على الرافعات “كـللْ”، وبعد ذلك الانقلاب ظهر أن الرئيس الحالي كانت عينه على فساد إدارة الأمن فقط والإدارة الإقليمية ولم يلاحظ أنه بغياب مراقبة الشرطة يفسد كل شيء، والذي أعترف به أنا هنا أن ذلك المدير العام رحمه الله ورضي عنه أعطاه الله مهابة من عنده بدون أن يصدر منه أي سوء لأي أحد لا مدني ولا شرطي فعلى روحه الرحمة والرضوان.
ومن هنا نصل إلى الراحة البيلوجية لعمل الشرطة كلها حتى المرور أنشئت له هيئة يعلم المواطنين كم وقع في زمنها من أحداث فلم تفقد الشرطة من راحتها البيلوجية إلا مرسوما يحلها، ولغياب مراقبة الشرطة ظهرت أصوات لا زال صداها يعلوا في السماء بالقبلية ـ العنصرية ــ والشرائح والقـتـل بالسلاح الأبيض إلى آخر ما هو معروف واتسع الخرق على الراقع، ويظهر أن السيد / الرئيس بما أن الدرك هي شرطته هو فظن أن باستطاعتها النيابة عن الشرطة في الجميع ولم يتذكر أنهما مدرستان كل منهما له منهجه المختلف عن الآخر.
وعلى كل توقف الاكتتاب والترقية أما المعنويات فقليل ما كان منها منذ زمن، وفي هذه الفترة جاء مديران للأمن ولا يحملان آلة رفع للهيئة بل الأقرب أنهما جاءا للتصفية مع احترامنا لهما ولكن لسان حالهما يقول ما قالته المرأة التي لامها الرجل في ميلادها للبنات فقالت: وهل نعطي إلا ما أعطينا.
ومن هنا على القارئ أن يستمع جيدا فعندما أراد الله لهذه الهيئة أن تولد من جديد ميلادا قيصريا فقد هدى الله السيد / الرئيس إلى مدير أعطاه الله من الخلق الرفيع الذي تغذيه الكفاءة في الحزم والعزم وعينه على هذه الإدارة الميتة التي نفخ الروح في جميع جسدها نفخة واحدة فإذا هم شرطة بمعنى الكلمة ـ ترقية واكتتابا ـ وقبل ذلك كله رفع معنويات كانت في الأعماق، وقد ساعده على ذلك ولله الحمد وجود مدير على المدرسة هوايته الإخلاص في العمل وإتقانه يستقبل منه دفعات الاكتتاب من الأميـين في عمل الشرطة “الأحرار” ويعيدهم إليه تحت إيعاز الاستعداد لكل عمل مهني شرطي عن علم وإتقان.
فهنيئا للشرطة بمديرها الباعث لها وهنيئا للمدير العام بإدارة المدرسة التي لم تخيب آماله في إرادة هذا البعث من جديد وهنيئا للشرطة الموريتانية التي أدركت هذا البعث وتاب الله علينا نحن السابقون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة بعد ما كادت تزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم.
بقلم الأستاذ / محمدو بن البار