انقلاب الأيام الستة
الزمان انفو – كتب لدكتور البكاي ول عبد المالك :
بين خطاب المسيرة والبيان الرئاسي الأخير ستة أيام حدثت فيها تحولات دراماتيكية وفضائح تجبر المتورطين فيها – في المناخ السياسي العادي- إما إلى الارتداد إلى جحور ضيقة في نوع من البيات الشتوي أو إلى حمل أقنعة غير قابلة للاحتراق .. ومتى كانت الوجوه عندنا قابلة للاحتراق ؟!
ما حدث في هذه الأيام الستة لم يكن مفاجئا في الحقيقة لمن يمتلك القدرة على القراءة الصحيحة للأوضاع السياسية والاجتماعية ومآلاتها رغم أنه أشكل على ساسة كثيرين . ما حدث هو ما كان ينبغي أن يحدث ولا يمكن تصور حدوث غيره دون مخاطر حقيقية على الكيان نفسه وعلى تجربته الديمقراطية.
وفي تقديرنا أن ثمة موقفين لم تحسن الطبقة السياسية في موريتانيا التعامل معهما : موقف رئيس الجمهورية المنحاز للدستور وللشرعية الدستورية بعد أن بلغت القلوب الحناجر سواء دفع إلى ذلك دفعا بفعل الظروف المحيطة داخليا وخارجيا أو كان ذلك بدافع وطني وشخصي يعبر عن طموح الرجل في دخول التاريخ من بابه الواسع؛ وموقف زعيم الحركة الانعتاقية الرئيس والنائب الموقر بيرام ولد الداه ولد اعبيد الرامي إلى الظهور بمظهر السياسي المعتدل سواء أكان ذلك طبعا أم تطبعا المهم هو أن هذين الموقفين المتزامنين لم يجدا الطبقة السياسية الوطنية التي تواكب الإشارات الواردة فيهما وتتفاعل معها على نحو إيجابي وبشكل يخدم المصلحة الوطنية ويخرج البلد بالتالي من عنق الزجاجة.
يعتقد البعض أن المماطلة والغموض فيما يتعلق بالمأمورية الثالثة طوال الأشهر أو ربما السنوات القليلة الماضية لم يكن مناورة سياسية خارجية الغرض منها خلط أوراق المعارضة وإرباك الساحة السياسية لكي يكون كل حل مقبولا مهما كان نوعه بل كان الهدف منها دفع المرشحين لخلافة الرئيس إلى ارتكاب أخطاء من نوع ما تستدعي النكوص والرجوع عن الوعد بتسليم السلطة أو دفع أطراف متشددة في المعارضة إلى ارتكاب أخطاء مماثلة تستدعي إعلان حالة الطوارئ وتعطيل العمل بالدستور وفي كلتا الحالتين يكون الطريق ممهدا لانتهاك الدستور ومنع الانتقال السلمي للسلطة وإجهاض التجربة الديمقراطية الفتية والحيلولة دون حصول أي تراكم فيها يمنحها مزيدا من القوة والرسوخ وبالتالي القدرة على الصمود.
فيما يعتقد البعض الآخر أن وراء الصمود الخرافي لزعيم حركة إيرا وأتباعه أجندات خارجية وخطط استخباراتية داخلية أو خارجية وأطماع مادية شخصية لكن ما لا نستطيع جميعا أن ننكره هو أن ثمة ظروفا موضوعية تتمثل في الغبن والتفاوت في الثروة والمعرفة بين المكونات الاجتماعية أصبحت تضفي على ذلك التوجه – بغض النظر عن سياق نشأته والقوى التي تقف وراءه – نوعا من المصداقية يوما بعد يوم وتمنحه بعض التعاطف في أوساط مختلفة محليا ودوليا شئنا ذلك أم أبينا.
لكن لحسن الحظ نجح الجميع في الاختبار : نجح الرئيس أولا إذ لم يقع في الفخ الذي نصبته له فلول ما يسمى بـ “المأمورية الثالثة” التي لا تحسن “قراءة” الدستور أحرى عن فهمه، ونجحت المعارضة وخصوصا النشطاء الحقوقيون بما أبانوا عنه من نضج تكتيكي على درجة عالية من الذكاء إذ لم يرتكبوا خطأ يعزز احتمال بقاء الرئيس في الحكم بشكل يخالف قواعد الدستور ولكن السؤال الذي نطرحه جميعا هو أين المعارضة ؟ لماذا لا يكون لها نفس الاستعداد للتعاطي الإيجابي مع الشأن العام وتشجيع هكذا توجهات ودفع أصحابها إلى الاستمرار في نفس الاتجاه وتمهيد كافة السبل لذلك ؟ لماذا لا تكون لديها القدرة والشجاعة على فعل ما فعله خصومهم السياسيون والتقدم بمقترحات ملموسة من شأنها أن تعيد بناء الثقة وتخرجنا جميعا من عنق الزجاجة ؟ مقترحات تتعلق على سبيل المثال بإعادة تشكيل اللجنة الوطنية للانتخابات ؟ تحرير الإعلام العمومي؟ حياد الجيش؟ التعيينات ذات الطابع السياسي؟ تمويل الأحزاب ؟…إلخ. لماذا لا تكون المعارضة إيجابية وذكية مرة واحدة على الأقل ؟!! ما الذي يمنعها هي الأخرى من أن تكون على موعد مع التاريخ؟!!
كل المؤشرات دالة على تقدم الوعي وزيادة نضج التجربة الديمقراطية الوطنية عندنا : فهناك أمور تحدث لأول مرة في تاريخ البلد فإن لم تكن دالة على “القيامة” سياسيا، أي على تفكك الكيان وانهياره فهي دالة لا محالة على أننا نسير في الطريق الصحيح وإلى الأمام بشكل مطرد : فلأول مرة لا يكون النظام السياسي في وضع يسمح له بفرض إرادته من جانب واحد، ولأول مرة تكون فيها الأغلبية الحاكمة منقسمة على نفسها بداية بقرار مجلس الشيوخ المنحل برفض التعديلات الدستورية المقترحة من جانب واحد من طرف السلطة التنفيذية الممثلة للأغلبية الحاكمة وانتهاء برفض التوقيع على خرق الدستور من طرف عدد لا بأس به من نواب الأغلبية الحاكمة، ولأول مرة لم يعد الوعي السياسي منحصرا في جهة واحدة أو جهتين من البلاد فبعد مبادرة سكان الحوض الشرقي تلك المنطقة التي بلغت درجة من التهميش لم تُترك فيها الكلمة للجغرافيا وحدها بل كان فيها للسياسة والتخطيط دورهما أيضا، أصبحت هناك علامة مضيئة ومعلمة مهمة من معالم الطريق نحو الديمقراطية لم تعد المبادرات التي أعقبتها قادرة على مجانبتها أو الحيد عنها وكانت من بين أمور أخرى سببا في الإفراج عن البيان الأخير وبذلك فرضت نمطا جديدا من التعاطي مع السلطة التنفيذية لم يكن مألوفا خصوصا في أوساط الأغلبية وكان من نتائج ذلك التحول في الوعي أن أصبحت أطياف من المعارضة تؤمن بأن الأغلبية الرئاسية ليست كلها على قلب رجل واحد وليست كلها على خطأ : هذا شيء مهم ونفس جديد في تجربتنا الديمقراطية. لكن ماذا بعد ؟
الحقيقة أن البيان الرئاسي الذي وضع حدا لنوايا العابثين بمستقبل البلد لم يكن وحده البادرة الطيبة الوحيدة التي قام بها الرئيس في ظرف أيام قليلة بل تنضاف إليها الإشارات الطيبة الأخرى التي تضمنها خطابه في المسيرة المناهضة لخطاب الكراهية والمتعلقة بالاعتراف وإن كان محتشما وباردا شيئا ما بوجود فوارق اجتماعية ووصف الحلول الناجعة للقضاء عليها والمتمثلة في إصلاح التعليم الذي هو حجر الزاوية لا في النهوض والتنمية الشاملة للبلد فحسب بل وفي رفع الظلم عن المهمشين من ضحايا الاسترقاق أيضا.
ومن الطبيعي أن يكون الرئيس المنتهية ولايته على وعي تام بأن تدشينه لذلك التوجه في الأشهر القليلة المتبقية من مأموريته وعدم الالتفات إلى الوراء سيساهم لا محالة رغم كل ما حصل في سنوات حكمه التسع من نجاحات كثيرة وإخفاقات في دخوله للتاريخ من بابه الواسع وجعله يكسب قلوب الموريتانيين جميعا الأكثر حظا منهم والأقل حظا وقلوب الأجيال المقبلة أيضا لأن ذلك التوجه لا يخدم الاستقرار والأمن على أهميتهما في الوقت الحالي بل يخدم تماسك البلد ومستقبل التعايش بين مكونات المجتمع على المدى البعيد وسيصبح ذلك التوجه تقليدا محمودا لن يكون في مقدور الرئيس المنتخب تغييره مثلما لم تعد الساحة السياسية قادرة على تغيير التقليد الذي سنه ساسة الحوض الشرقي في مبادرتهم.
الموريتانيون كما قال الرئيس أمامهم مستقبل واعد ولا أعنى هنا ما قد يكون الرئيس قد عناه في خطابه ذلك وهو الطفرة المنتظرة في الاقتصاد والناجمة عن تصدير الغاز بل أعنى ثروة الأمم الحقيقية في الوقت الحالي المتمثلة في اقتصاد المعرفة والرأسمال البشري فلم تعد مشكلتنا كما كنا في عهد قريب تكمن في ضعف رأس المال البشري بل هي الآن تكمن في سوء تنظيمه والتحكم فيه والاستفادة منه وقد أظهر ملتقى الكفاءات والعقول المهاجرة الذي عقد مؤخرا في قصر المؤتمرات هنا بانواكشوط صحة هذا القول خاصة وأن المؤتمرين كانوا بالأساس من لون معرفي واحد ومن اختصاص واحد هو المعلوماتية.
إن تعزيز التجربة الديمقراطية ومحو الفوارق أمران يحتاجان إلى قليل من الشجاعة والثقة في المستقبل وأنا أعرف أن الرئيس يمتلكهما لذلك أقول له هذه المرة سيروا ولا تلتفتوا ولن أقول له ما قلته سابقا “سيروا أو لا تسيروا” فقد قرر المسير من تلقاء نفسه.