مخدّرات هذا العصر الجديد
*بدرية البشر
قديماً كان من علامات الجنون أن تشاهد أحداً يكلم نفسه، ونادراً ما كنتَ ترى هذه الشخص، لكنك اليوم لا تكاد ترى أحداً إلا وهو يكلم نفسه ثم تكتشف بعد ثوانٍ أنه يتكلم مع شخص آخر عبر هاتف محمول عبر سماعة بخيطها الرفيع، أو عبر خدمة «بلوتوث». ما زلت أذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها شخصاً يكلم نفسه، فتوقفت سائلةً إياه: هل تكلمني أنا؟
اليوم صار سهلاً أن تعتاد على مجانين التقنية الحديثة، على رغم أنهم لا يزالون يربكونك وهم يصيحون، بينما لا أحد معهم سواك، تسمعهم يقولون: يا أخي، لكنهم لا يقصدونك، أو يبتسمون فترد لهم الابتسامة، لكن تكتشف أنها ليست لك، بل مع آخر في الهاتف! هذه الظاهرة استغلها ممثل طريف في برنامج الكاميرا الخفية في تلفزيون السودان فجلس قبالة شخص وأخذ يوجّه له الحديث، وكلما رد عليه هذا الشخص تظاهر بأنه يتحدث مع آخر في الهاتف المحمول، وانتهى المشهد بمصارعة حرة كعادة الكاميرا العربية الخفية.
هذه التقــنية وفّرت لنا ظــاهرتين متناقضتين، الأولى: صخب عالٍ في تبادل الأحاديث، لكن ليس مع من يشتركون معنا في المكان، بل مع آخرين بعيدين، حتى إن مشهداً كوميديا نقدياً أظهر المضيف الذي جاءه أربعة أصدقاء، وهو يقدم لهم كنوع من الضيافة أجهزة هواتف ذكية، توفر لهم برامج التواصل الاجتماعي فيلتقط كل واحد جهازاً، ويبدأ بالحديث مع آخر خارج المجلس، وينتهي اللقاء من دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، والثانية: الخرس العائلي، سواء بين الأزواج، أم الوالدين أم الأولاد، الجميع مصاب بخرس مع من يشاركونهم المكان، فعيونهم مربوطة بشاشة أمامهم، وقلوبهم وعقولهم في مكان آخر.
دخلت قبل النوم على ابنتي كي أودِّعها وأعوّضها بحديث قصير، بعد غياب طــوال اليوم، وبعد ثوانٍ وجدت أن كلتينا كانت مشغولة بالرد على رسائل «واتس آب» و«بلاك بيري» و«آي فون»، وكل هذا بسبب اعتقادنا بأننا نتابع أمراً مهماً لا يحتمل التأخير.
ما نتعرض له يومياً أشبه بأننا تحت دش أو شلال من المعلومات والاتصالات والملاحقات التي تجعلنا عالقين بها، منذ أن نستيقظ حتى ننام. لدينا ضعف استهلاكي شديد تجاه الأجهزة الحديثة، وأيضاً مفاهيم خاطئة حول ضرورتها. حين أجريت إحصاءً لعدد مالكي أجهزة الاتصال في السعودية وجدت في عيّنتي نسبة تقترب من 90 في المئة والأطفال منهم. الأهل يجيبون عن أسباب تزويد الطفل بجهاز «آيفون وبلاك بيري»: «كي نطمئن عليه ونبقيه في دائرة الاتصال بنا في حال تعرض للخطر»، ولكن هذا المنطق يشبه تماماً ما كنا نفعله قديماً حين نشتري للمراهق سيارة، كي يؤدي مهمات للعائلة، فيلتزم بها المراهق في البداية، لكنه في الأخير يفر، فيصير كل ما قدمناه للمراهق هو أنه أصبح أكثرَ عُرضة للخطر.
يسمي الخبراء هذه الأجهزة «مخدرات العصر الجديد»، وهم لا يقصدون أنها تسبب الإدمان فقط، بل تُحدث تغييرات في المخ وفي العادات والسلوك. سيكون من العجيب لهذا الجيل الجديد أن نتحدث عن أخطار أشياء وُلدت معه وألِفها، ولا يرى منها بأساً كما نراه نحن الذين نشعر بغرابتها، لكنني شخصياً أعتقد أنه يمكننا التحكم بهذه الظواهر من خلال رفع درجة الحصانة والمناعة ضد الاستهلاك بتحديث العلوم التي يتلقاها الأطفال في المدارس عبر دروس التحكم بالوقت وضبط استخدام التقنية وإدخال الألعاب البدنية لا الذهنية في ثقافة سلوكنا اليومي، كنوع من التوازن، وإلا تحولت هذه التنقية الجديدة إلى وحش يلتهمنا، لذا أنصح وزارة التربية والتعليم بأن تتوقف عن تدريس الأطفال درس «ماذا تفعل إذا ضاع السواك؟» وتستبدله بـ «ماذا تفعل حتى لا يضيع وقتك مع الأجهزة الحديثة؟».
* كاتبة وقاصة من السعودية.