كيف غامر مسلمو الأندلس بصيام رمضان؟
الزمان انفو ـ في إحدى ليالي صيف عام 1567 ميلاديًا، كانت الساعة بُعيد منتصف الليل حين شرع السيد خيرونيمو، عضو محكمة التفتيش الإسباني في تفقد شوارع مملكة فالنسيا – شرق إسبانيا – المدينة الأكثر خطورةً على المسيحية كما تصفها التراجم الأجنبية؛ وبينما كان الرجل الغامض يجول مُتخفيًا في الشوارع والأزقة، سَرَتْ إلى أذنيه كلماتٍ عجيبةٍ خرجت من منزل السيد المسيحي، كوسمي بن عامر، سليل عائلة محمد بن أبي عامر، أحد أعظم من حكموا الأندلس، والذي وصل بفتوحاته إلى أراضٍ لم يصلها حاكمٌ مُسلمٌ قبله أو بعده، لكنّ أمجاده انتهت عقب سقوط الحكم الإسلامي بتنصير عائلته وتعميد كل أحفاده.
لم تمض سوى دقائقٍ أخرى حتى اندفع خيرونيمو بحذرٍ، وهو يحبس أنفاسه أمام النوافذ المُغلقة لترتعد عيناه مما شاهده بين الثغور: «استفاقت الأسرة للسحور، ثم صلوا الصلاة المحمدية، وتهامسوا بينهم باللغة العربية الفصيحة»، وبعد أيامٍ مَثَل السيد كوسمي بن عامر وعائلته للمحاكمة، في أشهر قضيةٍ عرفتها محاكم التفتيش في إسبانيا.
هذا التقرير يعود بك إلى أزمانٍ بعيدة، وأوطانٍ غابرة، حيث قصص المورسكيون أو «النصارى المُسلمين» الذين حافظوا على صيام رمضان حتى بعد قرنٍ من سقوط الأندلس.
اتفاقية تسليم غرناطة.. راية الأندلس سقطت للأبد
في عام 1492 انتهت قصة ثمانية قرون من العهد الإسلامي في الأندلس، حين اجتاح الملوك المسيحيون شبة جزيرة أيبيريا، ضمن حروب الاسترداد التي تُوّجت بإسقاط الممالك الإسلامية واحدةً تلو الأخرى وصولًا لمدينة غرناطة –جنوب إسبانيا – آخر رقعة إسلامية تنازل عنها ملوك بني الأحمر لفرديناند وإيزابيلا، ملكي أراجون وقشتالة بعد حصارٍ خانقٍ استمر تسعة أشهر، شهد المسلمون فيه آخر شهر رمضان تحت حكمهم الزائل.
لوحة تخلّد تسليم غرناطة كما رآها الرسام
وبينما نصّت اتفاقية تسليم غرناطة على احترام الدين الإسلامي، إلا أنّ الأمة المغلوبة سُرعان ما فُرض عليها اسم جديد أُطلق للتحقير؛ فهم «المورسكيون» الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي، وخُيّروا بين اعتناق المسيحية أو ترك البلاد، مثل الألقاب التحقيرية التي سبق وأن لاصقت العرب حتى بعد دخولهم للإسلام، فكان «الإسماعيليون» الذين «جاءوا من نسل إسماعيل؛ الابن الذي أنجبه نبي الله إبراهيم من المرأة الخادمة وليس الحُرة»، وأيضًا «السراسنة»، الذين جاءت قصتهم في التوراة على أنهم الأمة التي خرجت من سيناء وحُرمت من الوعد الإلهي.
بعدما خرج الملك المُسلم المهزوم أبو عبد الله محمد الثاني من قصر الحمراء، رُفعت الصلبان على أسوار المدينة، وأدى النصارى صلاة الشكر، وماجت الشوارع بالاحتفالات الصاخبة تزامنًا مع برقيات التهئنة التي توالت على ملوك إسبانيا، فبعدما نجح السُلطان العثماني محمد الفاتح في إسقاط قسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية وقلب المسيحية في أوروبا لأكثر من 11 قرنًا، أخذ المسيحيون ثأرهم بعد نحو 50 عامًا وأسقطوا الأندلس.
وبعد سبعة أشهرٍ من توقيع المعاهدة، استقبل المورسكيون شهر رمضان الذي أصبح موطن الذكريات الألمية؛ ففي هذا الشهر دخل جيش طارق بن زياد البلاد لأول مرة وأطلق عليها الأندلس، أما الآن في عهد الملكيين الكاثوليكيين، فقد أُحرقت الكتب، واختفت الموائد التي كانت تُقام طوال الشهر، ومنع القانون كل قديمٍ له علاقة بالحكم الإسلامي، حتى أنّ مشروب قمر الدين الأندلسي خرج هو الآخر بعد السقوط، ومن بعده حلوى القطائف، ولم تعد المساجد تمتلئ بصلاة التراويح.
وفي عام 1499 زاد التضييق عندما أمر كبير محاكم التفتيش بإغلاق كافة المساجد الموجودة في أحياء المورسكيين، تزامنًا مع تبنى المملكة حملة تنصير واسعة، وتعميد الأطفال، بالإضافة لإجبارهم على التخلي عن أسمائهم وأزيائهم الإسلامية ولغتهم العربية؛ لتندلع أول انتفاضة في غرناطة في 12 رمضان احتجاجًا على قرارات الكنيسة، وبالرغم من نجاح المملكة المسيحية في إخماد الثورة؛ إلا أنّ المورسكيين الذين منحوا أسماء مسيحية احتفظوا سرًا بهويتهم الإسلامية.
يقول المؤرخ الإسباني في كتابه «المورسكيون الأندلسيون والمسيحيون»: «طُرد 100 ألف مسلم من فالنسيا – المدينة التي ازدحمت بالمورسكيين – وكانت التهمة أنهم جواسيس للسُلطان التركي عدونا»، واللافت أنّ أبرز التهم التي حُكموا بسببها تمحورت في «صيام رمضان، والصلاة والطهارة».
المصدر: ساسه بوست