في ذكرى رحيل العلامة بداه ولد البصيري
الزمان انفو ـ وكنا كندماني جذيمة برهة :: من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا :: لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
كان الإمام بداه يحب التقري والمدنية، ويرى أنهما ضروريان لنشر العلم، وقال إنه ظل سنوات يرفع يديه يسأل الله أن ’’ ييسر الله له منزلا في الحضر يقرأ فيه كتبه”، وذات مرور ببلدة لكصر سنة 1958 رأي غرفة من الطين بجانب المصلى قرب سوق البلدة، قال هذه غرفتي وهنا سأقيم، فألقى عصا التسيار واستقر به النوى، وأرسل إلى أهل بوحبيني فأرسلوا له مكتبته تحملها الثيران.
أقام الإمام بداه بالبلدة وتلقاه أهلها بالقبول فأنشأ المحظرة وأقبل عليه الطلاب من حدب وصوب.
أخذ على الرئيس الأسبق المختار ولد داداه العهد على أنه يتركه يصدع بما يرى أنه الحق.
ورغم ذلك فقد ظلت خطب الشيخ تغيظ بعض أطراف الحكم، وكان يقول “إما أن تتركوني أقول ما أرانيّ الله أو أترك لكم المنبر’’.
من ورع الإمام الأكبربداه أنه في صلاة التراويح تجاوز آية وحين سلم سأل من حوله فأجابوه بأنه تجاوزها فعلا فغضب غضبا شديدا ولامهم على عدم تنبيهه لذلك.
وحدثتني الأخت الكبرى حفظها الله قالت: كان الإمام بداه ولد البصيري رحمه الله يخصص يوما من الأسبوع لتدريس النساء.
ذات درس لاحظ النسوة وجود امرأة مع الإمام في غرفته وهي من يقوم على الخدمة هذه المرة، ناداها مرة لجلب كتاب ومرة أخرى لجلب إناء وكانت تتصرف بشكل طبيعي.
كانت حرم الإمام عيشة منت أغا قد توفيت قبل مدة، ولم تكن المرأة من بنات الإمام، خيم الصمت على النسوة.
حنحن الإمام بداه وقال بصوته الجهوري:
الصيدات، هذي السيدة اعگبناكم إلها عدنَ امعاهَ ذوليامْ الماضيين.
وحدّث المرحوم محمد المصطفي ولدغابد رحمه الله قال: إن دارا له كانت محجوزة للبنك في بعض المعاملات التجارية فسعى الإمام العلامة بداه ولد البوصيري ـ رحمه الله ـ لفكِّ حجزها و إعادتها له
وأضاف محمد المصطفي أنه كان يهدي للعلامة بداه الهدايا ويقبلها منه، لكنه لم يقبل منه بعد فكّ رهن البيت هديةً لورعه خوفا أن تكون ثمنا للشفاعة أو ” ثمنا للجاه ” الذي ذهب بعض العلماء إلى تحريمه، واستدلوا بحديث أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: ( مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا).
وحدّث الشيخ أواه ولد آچه قال .. كنت مع العلامة المختار ولد ابلول “التاه” رحمه الله عند قرية المبروك، وجاءنا العلامة بداه ولد البصيري، يحمل تأليفا جديدا له، وكان من عادة الإمام بداه إذا ألّف كتابا، أن يطوف به على العلماء ..
يعرضه عليهم، ويناقشهم حول ما تضمّنه، وفي هدأة الظهيرة ، استلقى العلامة المختار على ظهره، وأمر العلامة بداه أن يقرأ عليه من الكتاب ..
بدأ بداه بقراءة الكتلب وحين وصل إلى اسم صحابي ، قال ولد ابلول: علْ ذاك الاسم.
فأعاد بداه الاسم
فقال المختار ..
آن بعد ذا الصّحْبي ما نعرفو !
قال بداه: خالك بعد !
قال المختار: آنا بعد ما نعرفو !
قال بداه : آنا بعد عندي ابن هشام، والإصابة، وظاهرلي عني ألا متأكد !
قال المختار: آنَ بعد ذا الصحابي ألا ما نعرفو !
وبعد فترة من الزمن، عاد بداه، وحين دخل خيمة المختار، نادى بصوته الجهوري:
التاه .. ذاك إللّي گلت حگ، الصحابي أسمو فلان بن فلان، و أنا من صحّف اسمه.
قال المختار: أهيه .. افلان إصّ خالگ
إبان اندلاع أحداث 1989، وتقتيل الموريتانيين في السنغال والسنغاليين في موريتانيا، وقف الإمام الأكبر بداه ولد البصيري رحمه الله، على المنبر في خطبة الجمعة، لينهى عن الفتنة ويدعو السلطات لضبط الأمن، وينبه المسلمين إلى خطورة دم المسلم، وخطورة أخذ شخص بجريرة آخر، وماريـءَ الإمام غضبانَ كما ريـءَ يومها، وكان صوته عبر الأثير قويا مجلجلا.
الإمام بداه في سياق حثه على خطورة دم المسلم، حكى قصة مروعة يرويها عن ثقات منهم شيخه الشيخ أحمدو ولد أحمذيه:
دارت حرب أهلية بين قبيلة مسلمة في المنتبذ القصي، فكثر القتلى وسقط بينهم جريح كان جرحه نازفا فلم يستطع التحرك فتجمد الدم السائل من جراحه والتصق جسده على صخرة بين قتلى تلك الحرب.
فلما جنّ الليل جاء هاتف من السماء مناديا القتلى:
يا كلاب النار انبحوا .. يا كلاب النار انبحوا
فلم يبق جرح بميت إلا طفق ينبح، فباتوا ينبحون حتى أصبح الصباح.
يروى -والشيء بالشيء يذكر- أن أحد الصالحين بات قرب تيلمّاس جنوب غرب واد الناقة، في مكان جرت به حرب قبلية، فلما كان السدس الأخير من الليل نادى مناد من السماء:
يا كلاب النار انبحوا!
فخرج القتلى من الأرض واستقبلوا ساحل البحر وأخذوا ينبحون حتى مطلع الفجر!
وحينما اشتعلت حرب الصحراء سنة 1976 اعتبرها الشيخ فتنة بين المسلمين، وعلى عكس بعض الفقهاء الذين قالوا إن قتلى الجيش الموريتاني شهداء لايغسلون ولا يكفنون كان الشيخ بداه يقول ’’ إن الحزم عكس ذلك غسلوهم وكفنوهم وصلوا عليهم”
غِبّ المحاولة الانقلابية في 16 مارس 1981، طلب الرئيس محمد خونه ولد هيداله من مفتي موريتانيا الإمام بداه ولد البصيري رحمه الله، الإفتاء بأن منفذي المحاولة محاربون فقال الإمام بداه مخاطبا هيداله: هم ليسوا محاربين، وأنتم الصنادرة مثل ” اكلابْ لخلَ” كلما انفرد اثنان بواحد أكلاه، ولن أصدر أنا حكما يظل سيفا مسلطا على كل منقلب وأبوء أنا بالإثم في أبد الآبدين.
قال هيدالة للإمام: أنا آمرك بذلك
فقال الإمام بداه: أنت علاقتي بك منقطعة فأقصى ما يكمن أن تفعله هو قتلي، لكن علاقتي بالله دائمة فهو يميتني ويبعثني ويحاسبني فأنا أخاف الدائم ولا أخاف المنقطع.
يحكي أن وكيل شرطة انتابته حالة من الورع بخصوص أخذ مبلغ ’’مائتي أوقية’’ بطريقة غير شرعية من أصحاب السيارات، أثناء عمله في تنظيم حركة المرور .. فذهب إلى الإمام بداه ولد البصيري رحمه الله يستفتيه في جواز ذلك، فقال له الشيخ بداه رحمه الله: “شوف الرشوة احرام … يغير ظاهر لي انْ ذو الناس الّ اعطاهم مولا نا ِش من فضله ونِعمِه ما اخصرْ شِ حد اتم يتحككْ اعليهم امنين ذاك كانهم ينفعوه … و الضعفاء عسك من مالهم..
ثم أدخل الإمام رحمه الله يده في جيبه وقال للوكيل بظرافته المعهودة: وانَ بعد ’’ميتينِي’’ راعِيهمْ.
ذات مرة زاره أحد الوزراء في مسجده ولما أراد الوزير الانصراف لم يجد نعليه، فرجع إلى الإمام غضبان أسفا وهو يحث الإمام على زجر الناس عن سرقة النعال من المسجد.
التفت الإمام إلى الناس في المسجد وقال: اعلموا أيها الناس أن السرقة حرام سواء كانت سرقة النعل في المساجد أو سرقة أموال الدولة فاسمعوا وعوا..
ذات مرة سأل أحد الحاضرين عن حكم الغناء (الهول) فقال بداه:
كنت مع شيخي الشيخ أحمدو ولد أحمذي وكان يعرظني على كثيب خارج الحي وجاء الأعور ولد انگذي للحي بعدنا، وحين علم أن الشيخ خارج الحي، طرح آلته وخرج نحونا وما إن أبصر لعور الشيخ أحمدو حتى جعل أصبعه في أذنه وطفق ينشد، يقول بداه واصفا حال شيخه الشيخ أحمدو الذي تملكه الطرب:
(تمْ ذَ لمرابط يحمارْ ويخظار) حتى فرغ الأعور من إنشاده فأعطاه ما قطع به لسانه وانصرف يضيف الإمام بداه: فهذا الهول قطعا لاشيء فيه، هول الرجل للرجل بدون آلة وهو ما شهدته بين شيخي الشيخ أحمدو ولعور.
كان الأستاذ محمدن ولد سيد إبراهيم عميد الأدب الشعبي رحمه الله يحضر دروسه، وذات مجلس، جعل العلامة يُمِر يده على رأس محمدن ويقول مداعبا: ” هذا الراص بعد املان من لبتيت”.
حين كثر اللغط بداية الثمانينيات حول رؤية هلال شهري رمضان وشوال، ورفع البعض الصوت على الإمام الأكبر بداه ولد البوصيري، فقال الإمام بداه رحمه الله:
ألا عرفو بعد عن هلالنا أبيظ ماه أحمر.
أي ليس الهلال الأحمر الذي يوزع لبن سَفتِي ودهن كندي وزرع لحميرَه واسراويل افكّو جاي..
أي أنه لاهمّ دنيا يرتجى من وراء القيام على لجنة الأهلة و تحري رؤية هلالي رمضان وشوال ..
في ثمانينيات القرن الماضي كان مركز الدعوة والإرشاد السعودي بانواكشوط يصرف ما يقابل ألف ريال سعودي لمحظرة الإمام بداه يسلمونها للمؤذن سيدي عبد الله الملقب (ديدي) رحمه الله.
وذات لقاء في مجلس عام سمع أحد تلامذة بداه، السبيعي مدير مركز الدعوة والإرشاد يقول إن السعودية تصرف رواتب لبعض العلماء ومنهم بداه.
نقل التلميذ فحوى الرسالة لبداه، وذات لقاء في منزل الإمام العامر المصاقب لمسجده في لكصر ضم السبيعي والكثير من الشخصيات سأل بداه السبيعي:
هل تصرفون راتبا لبداه؟
بهت السبيعي وقال كلا وحاشا..
قال بداه ما تفعلون بالضبط؟
قال السبيعي: نقدم مبلغا بسيطا لمساعدة طلبة العلم
قال بداه وكيف يتم تقديم ذلك المبلغ؟
قال السبيعي يتم تحويل المبلغ للأوقية ويسلمه سائق المركز للسيد ديدي القائم على شؤون المحظرة.
في التاسع عشر من دجمبر سنة 1980 تمّ الإعلان عن مشروع دستور جديد، عرف بدستور حكومة ولد ابنيجاره.
وقد وصف ذلك الدستور بأنه هو أول دستور علماني للبلاد ومن أخطر مافيه أنه يبيح “حرية الاعتقاد “.
وقف الإمام بداه بحزم ضد مسودة مشروع الدستور، وخرج كما يقول رحمه الله لأول مرة فى حياته يقود مظاهرة سياسية وفي عهد ولد هيدالة.
وصعد المنبر ليعلن رفضه له، فالجمهورية الإسلامية الموريتانية دينها الإسلام، والدين عند الله الإسلام.
فاضطرت السلطات إلى التراجع عن ذلك الدستور بعد الضغط المكثف الذي قاده الإمام بداه رحمه الله.
بعد عقد كامل من ذلك الدستور، ومع ارهاصات الديمقراطية بداية التسعينيات والإعلان عن مشروع دستور جديد للبلاد، دعا العلمانيون من خلال إذاعة فرنسا الدولية لضمان حرية المعتقد من خلال الدستور الجديد.
دعوتهم لم تمر مرور الكرام، ففي الجمعة الموالية صعد الإمام بداه المنبر كالأسد الهصور منددا بتلك الدعوة، داعيا للتمسك بالشريعة الإسلامية محذرا من دعوات أعداء الدين مرددا عبارته السائرة:
“دين بلا سياسة لا يستقيم وسياسة بلا دين عار الدنيا ونار الجحيم”
وعندما شن نظام ولد الطائع حملته سنة 1994 م على الإسلاميين وقف الشيخ بداه وقفة صارمة ضد الاعتقالات مؤكدا أن الإسلاميين لايقتلون النفس التي حرم الله ولايزنون، وأنهم برآء من كل ما يرمون به وأعرفهم كما أعرف أبنائي.
بعد العلاقات مع إسرائيل ، وقف الإمام الأكبر أمام ولد الطائع في خطبة العيد الأضحى غبّ القرار وقال: “وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ” ونحن مما تبرأ منه الله ورسوله برآء.
كان لايأتيه ذو حاجة إلا سعى في حاجته وكان يكرر “اشفعوا فلتؤجروا”، وذات مرة جاءه أحدهم في حاجة قائلا غدا ستقابل الرئيس معاوية في صلاة العيد ولي حاجة هي كذا، قال بداه فعلا غدا سألتقيه ولكن سيأتي هو ممثلا للدنيا وسآتي أنا ممثلا للدين ولن تكون يد الدين بحول الله هي السفلى فدع حاجتك لغير هذا اليوم.
تميز منهج الإمام بداه بالاعتدال والتمسك بالأصول مع الحرص على الاستفادة من الفقه وتراث الأمة، فزاوج بين المحافظة على الفروع وتشجيع الاستنباط والاجتهاد، واختط طريقا يرفض الجمود الفروعي تماما كما يرفض إلغاء الفقه وتراث العلماء، مؤسسا بذلك ما اعتبر معالم فقه تجديدي داخل المدرسة المالكية، ويتجلى ذلك في كتابه “أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك”، أنكر عليه أحدهم قبضه فى الصلاة قائلا مالك ترقص ، فقال له بداه: هل تعرف معنى قول المقري فى العقيدة من ” إضاءة الدجنة “:
واستجلِ معنَى من لنفسه عرف:: تلحق بمن من نهر عرفان غرف
..؟؟ قال : لا، قال هل تعرف معنى قول ابن مالك :
وأظهرِ انْ يكن ضمير خَبَرا :: لغير ما يطابق المفسَّرا
نحو: أظنُّ ويظنّاني أخَا :: زيداً وعمراً أخوين في الرَخا
يقصد التنازع ؟؟ قال الرجل : لا
ثم أردف هل تعرف معنى قول خليل بن اسحاق : ” حاضرأدرك ثانية مسافر ” ؟؟ ، قال : لا، قال له إذن سأعرض عنك لأن الله يقول : ” وأعرض عن الجاهلين”.
وعما تَبقَّى من حميدِ خصاله:: أرى الصمت أولى بي من ان أتكلما
كامل الود
اكس ولد إكس إكرك