انحراف قطار/ احمدسالم زياد
ذات خريف صحراوي جاف.. ركبت فتاة سمراء جميلة.. قطار بضائع متجه من بلاد السيبة إلى إلى بلاد الأحلام.. وتحت تهديد السلاح انحرف القطار عن مساره.. حَرَسُ القطار وحَمَّالُوه مَلُّوا من الجلوس في المؤخرة المغبرة.. فقرروا الإستيلاء على مقصورة القيادة.. ترجل السائق العتيد من مقصورته بشموخ.. وقبل انطلاق القطار بدقيقة طلب من المختطفين أن يتركوا معه كبار السن والأطفال.. وتلك الفتاة الجميلة..
لم يصغ إليه أحد من الذين كانوا من قبل يتسابقون لتقبيل يديه.. وتلبية أوامره. أطلقوا النفير.. حجب الغبار الرؤية.. وانطلقوا بعيدا عن السكة.. غاص القطار المتهالك في بحار التيه.. ظل يبحر في الرمل حتى تكسرت كل عجلاته.. أطلق العالم نداء استغاثة.. وزع أهل الفتاة صورها على كل المنافذ الحدودية.. وبينما القطار يغوص في الفناء ببطء.. دب الخلاف بين الحراس كعادة الحراس اللصوص حين يقتسمون الغنائم.. فكلُّ يومٍ قائدٌ جديدٌ.. يأمر فيطاع وينهى فلا يعصى.. ويعد الرعية السليبة بكثير من الوعود المستحيلة.. وفي المساء يكبله رفاقه بألأغلال برفق وحنان، ويرمونه في زنازن النسيان. أدمن الركاب المختطفون الصبر.. حتى ملهم الصبر.. وامتهنوا تسول الأمل حتى يبست حناجرهم.. ولم تعد السحابة الصفية تمطرهم أملا. بعدما سقط الحراس اللصوص مثخنون.. ومحطمون.. ويائسون من الصراع ، تدخلت الرعية السليبة لتفض النزاع.. فِعْلًا.. فُضَّ النزاع.. ودون نِزَاع.. وبعد ثلاثة عقود.. بالتمام والكمال من الإنحراف الكبير.. حصلت معجزة.. حولت تاريخ القطار.. معجزة من الحجم الكبير.. ستظل العجائز على مر السنين تحكيها لصاغرها قبل النوم.. وفي الأعياد. سجلتها القينات في أهازيجها.. وخلدها الشعراء.. ودونها الكتاب.. :فبينما القطار يغوص في الرمل.. رويدا..رويدا.. وبينما كبار الحراس اللصوص منهكون من الشجار والسباب.. وبينما الرعية السليبة تتسول الأمل.. وتتجرع كؤوس الصبر المر؛ قفزت ثلة من الحراس اللصوص الصغار على طغمة اللصوص الكبار، وأخرجتهم من قاطرة القيادة.. لتزج بهم في غياهب زنازن النسيان. فقد مل الصغار من مؤخرة القطار.. ولم يبق في الخلف غيرهم. أعلنوا حالة الطوارئ.. تجددت الدماء في القيادة.. وتجددت الوعود.. ولأن صغار الأمس كبار اليوم منهكون جدا.. وجائعون جدا.. وشرهون جدا.. فقد أكلوا كل شيء على متن القطار صالح للأكل.. وشربوا كل شيء صالح للشرب.. و.. حجتهم كانت مقنعة جدا.. :فلابُدّ للقادة الجدد من تصحيح وضعهم. وظل القطار المتهالك .. يتهالك. والرمال الزاحفة.. زاحفة. وحدها تلك الفتاة الجميلة.. ودونا عن جميع الركاب.. لم تعد جميلة. وجهها الأبيض الفَتِيُّ اسْمَرَّ حتى أُشْرِبَ بِسُحْنَةٍ سوداء.. وشعرها الأسود الطويل اشتعل شيبا وتَجِعَّدَ.. ومقلتاها النجلاوان عَشَّشَ فيها العَمَشُ وحفّ بهما النَّمَشُ.. وحدهم علماء الآثار وخبراء الحفريات.. من يستطيعون قراءة تجاعيد وجهها المتناقض التضاريس. .. وازداد انحراف القطار عن مساره بمترين.. بالبضبط :متران وخمس وعشرون سانتي تحت الأرض. السكة الحديدية مازالت شاهدة تروي للأجيال بصدق :أنه كان هناك قطار.. انطلق ذات يوم خريفي قائظ ..من بلاد السيبة.. محملا ببضائع كثيرة وفتاة جميلة جدا.. وبعض التعساء.. تقودهم أطماعهم إلى بلاد الأحلام. وصل السائق العتيد من سنين.. لكن القطار لم يصل. وفي المحطة المهجورة.. عُلّقت صور كثيرة، لفتاة جميلة جدا..وفاتنة جدا.. وساحرة جدا.. وبريئة جدا.. كتب تحت الصورة بالبند العريض :فتاة.. ضائعة. غامبيا 02|03 |2013