القاضي بين مطرقة واجب التحفظ وسندان الواجب الوطني/ ق.ر. أميرة العمري(*)
الزمان انفو ـ كتبت القاضية التونسية أميرة العمري:
من أبرز مبادئ دولة القانون ، مبدأ إستقلال السلطة القضائية عن غيرها من السلطات ، سواء استقلالها ماليا أو إداريا أو رقابيا.. و الأهم من هذا المبدأ ، حسب تقديري ، هو مبدأ استقلال القضاة في أدائهم لوظيفهم المتمثل في الفصل في المنازعات القانونية أو البت في الخصومات القضائية..
و ممّا لا شك فيه أن ” الوظيفة ” القضائية ، و لنقل هنا الرسالة القضائية ، تتطلب هذا الاستقلال و ذلك لتحقيق الاستقرار القانوني و الاقتصادي و الاجتماعي في البلاد ، فضلا عن حماية الحقوق و الحريات الفردية و العامّة من الانتهاكات أيا كان مصدرها أو أطرافها.
و من المعلوم أن تاريخ المطالبات القضائية باُستقلال القضاء طويل و ممتد ، خاصة في ظل هيمنة نظام سياسي تسلطي يسعى إلى فرض و إحكام قبضته على القضاء ، إن لم نقل القضاة.
و هذه المطالبة مردها الإيمان العميق بدور القضاء ، كركن متين و دعامة أساسية ، في قيام الدولة و استمراريتها.
لكن هل أن القول باُستقلالية القضاء يعني عزوف القضاة عن الإهتمام بالشأن الوطني ؟
قطعا الإجابة ستكون بالنفي ، فالقضاة أولا و أخيرا مواطنون ، و لو كانوا ” غير عاديين ” بحكم وظيفهم، لذا فهم بالضرورة منخرطون في مسار بناء الدولة و ضمان سيادة القانون و الحق و العدل فيها و في هذا السياق أقرت الأمم المتحدة عدة معايير مرتبطة باُستقلال السلطة القضائية فنجد أن البند رقم 8 ينص على أنه ” وفقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير و الاعتقاد و تكوين الجمعيات و التجمع و مع ذلك يشترط أن يسلك القضاة دائما لدى ممارستهم حقوقهم مسلكا يحفظ هيبة منصبهم و نزاهة و استقلال القضاء.”
من هذا المنظور يتضح أن القضاة ليسوا بمعزل عن الشأن الوطني و لهم ، أكثر من ذلك ، حق التعبير عن مواقفهم الأخلاقية دون تلك السياسية ، و البون شاسع بين الأمرين.
فمن المعلوم أنه يحظر على القضاة الاشتغال بالعمل السياسي فلا يجوز لهم البتة الانتساب للأحزاب أو حتى الحصول على مجرد انخراط كما يحظر عليهم بمناسبة إصدار أحكامهم إبداء آرائهم أو توجهاتهم السياسية.
من هذا المنطلق لا يجوز للقاضي إبداء رأيه السياسي أثناء جلسات التقاضي أو بمناسبة الأحكام الصادرة عنه كما يمنع عليه إبداء توجهه السياسي ، ولو تلميحا ، صلب تعليله لحكمه .
فالقاضي لا يرجع مواطنا ” عاديا ” إلا بعد التقاعد أو الاستقالة ، حينها فقط يتمتع بكافة حقوقه و حرياته المكفولة له دستوريا بما في ذلك حقه في تكوين الأحزاب و التجمعات السياسية و المشاركة فيها كالترشح للانتخابات التشريعية و الرئاسية و غيرها من الأنشطة السياسية المكفولة للمواطن العادي.
و يبرّر هذا الحظر بأن العمل السياسي قد يجعل أحكام القاضي عرضة للتشكيك و المزايدة السياسية التي هو قطعا في منأى عنها ، فضرب القاضي من خلال توجيه ” تهمة التحزب ” له ضرب للقضاء ككل و زعزعة لثقة الرأي العام فيه.
و هذا القيد يجد أساسه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يتيح الحق ” لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير و الاعتقاد و تكوين الجمعيات و التجمع و مع ذلك يشترط أن يسلك القضاة دائما لدى ممارسة حقوقهم مسلكا يحفظ هيبة منصبهم و نزاهة و استقلال القضاء.”
و الملاحظ أن هذه المادة تحدثت عن هيبة القضاء لا القاضي باعتبار أن هذا الأخير جزء من المنظومة القضائية التي يجب أن تكون محايدة نزيهة بما يضمن إحترام الكل لها و اُطمئنانهم لأحكامها.
و التصريح بأن القاضي مواطن ، بغض النظر عن القيود المفروضة عليه و التي تجد أساسها في واجب التحفظ المطالب بها ضمانا لحياده و تكريسا لاُستقلال القضاء ،لا تعني البتة إجتثاثه من محيطه و عزله في برج عاجي يفضي حتما إلى توحده.
فالمادة 87 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان توجب مشاركة المواطن في الحياة العامة باعتباره ” واجبا وطنيا ” و مبدئيا هذه المشاركة ، بما هي واجب وطني ، مخوّلة للقضاة لكن دون إطلاق.
و السؤال المطروح هنا يتمحور حول مفهوم و دلالة ” الواجب الوطني ” ، فما المقصود به إن كنا أعلنا بدءا أنه يمنع على القضاة المشاركة في العمل السياسي ؟
إن الواجب الوطني و الالتزام بالقضايا الوطنية و القضايا العادلة لا يعني البتة إنخراطا في العمل السياسي.
فالدولة تتكون من الأجهزة و المؤسسات التي تؤمّن مختلف الخدمات لكل المواطنين و التي تكفل حقوقهم و حرياتهم بقطع النظر عن اُنتماءاتهم الحزبية أو معتقداتهم ، فهي بهذا المفهوم تمثل الإطار الوطني للانتماء بمدلوله الأسمى البعيد عن دلالاته الضيقة المرتبطة بالعقيدة أو السياسة أو غير ذلك.
بالتالي فالنظام السياسي و التوجهات السياسية هي جزء من الدولة و وجه للحياة السياسية بها التي تقوم على رؤية معينة و أساس إيديولوجي لكيفية إدارة دواليب الدولة و مؤسساتها ، و عليه فالدولة مفهوم أشمل و أوسع من النظم السياسية .
و هنا نؤكد أن القاضي مطالب بحكم واجبه الوطني بالانتصار للدولة و حماية الحقوق و الحريات بها فقط يحرّم عليه إتيان العمل السياسي بما في الأمر من مساس بحياده و استقلاليته.
ففي مصر مثلا أصدر مجموعة من القضاة بلغ عددهم حوالي 75 قاضيا بيانا تضمن ما يلي ” يعلن قضاة تيار استقلال القضاء رفضهم التام الاعتداء على الشرعية الدستورية و إقصاء الرئيس الشرعي المنتخب ، مطالبين بتفعيل الدستور ، ليعود ساريا ليحكم الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و القانونية في مصر بأسرها و إتمام البناء الديمقراطي وفقا لقواعده و أصوله .”
هذا البيان المذيل بإمضاء القضاة المذكورين تم إصداره في 24 جويلية 2013 و قد تم إعلانه على منصة ميدان رابعة العدوية عقب بيان الجيش المصري المؤرخ في 03 جويلية 2013 و قد تضمن علاوة على ما سبق بسطه أن ” القضاة لا يعملون بالسياسة و لا يشتغلون بها و لا ينحازون إلى أحد أيّا كانت صفته أو انتماؤه ، و أن إنحيازهم الوحيد و المشروع إنما هو للشرعية و الحق و العدل وهو عماد سلطانهم و علّة وجودهم إذ بغير هذا الإنحياز تنتفي علّة وجود القضاء من الأساس .”
و على إثر ذلك البيان تمت إحالة القضاة إلى التحقيق من قبل لجنة التفتيش القضائي لتكون هذه الواقعة أبرز مثال لمعاقبة القضاة بتهمة ” الإشتغال بالسياسة ” منذ أحداث 25 جانفي 2011 و التي آلت إلى إصدار مجلس التأديب و الصلاحية بتاريخ 14 مارس 2015 حكمه بإحالة 32 قاضيا على المعاش و قد جاء في حيثيات القرار أن ما صدر من القضاة في ذلك البيان يعتبر من ” صميم السياسة المحظور على القضاة الإشتغال بها أو الإقتراب منها أو حتى الإدلاء برأي فيها ، و فيه خروج بالغ فادح و فاضح عن نطاق العمل القضائي ، و شذوذ جسيم عن التقاليد القضائية الراسخة التي تلزم القاضي بحدود لا يتجاوزها، فهو قاض و ليس شخصية عامة ، و من ثم فعليه أن يلزم محرابه عاكفا على عمله القضائي ، ينأى بنفسه السياسة بما لها و ما عليها ، و لا يجهر برأي في الشؤون العامة للبلاد ، أو يشارك في مجلس يناقشها علنا أو في إلقاء بيان بشأنها ، لما في ذلك من تأثير في السياسة و تأثر بها .”
و كان من المتوقع أن يثير هذا القرار إنتقادات حقوقية إذ رأت المنظمات الحقوقية أن السبب الحقيقي لإحالة هؤلاء القضاة للمعاش ليس إشتغالهم بالسياسة كما يروج لذلك بل أن القرار المتخذ يمثل محاكمة رأي معلن يتعارض مع الإدارة الحاكمة أنذاك خاصة في ظل غياب معايير محددة للأفعال التي تستوجب إحالة القاضي للتأديب أو فقدانه صلاحية ولاية القضاء ، فقد كان للمجلس السلطة الواسعة في تكييف الأفعال و إخضاع الوقائع لرؤيته.
وحسب تقديري فقد تضمن قرار مجلس التأديب تعريفا للعمل السياسي يمكن الإستئناس به في ضبط هذا المدلول بغض النظر عن مدى صحة تكييف الأفعال و الوقائع من عدم ذلك .
فالمقصود بحظر الإشتغال بالسياسة هو العمل الفعلي بها أي الممارسة السياسية التي من شأنها أن تجعل القاضي ذو لون سياسي مكشوف و تجعل له رأيا ظاهريا في الخلافات الحزبية وهو ما يتعين على القاضي الإمتناع عنه ، أيضا فقد تضمن تعليل مجلس التأديب مفهوما آخرا تجاوز حتى معيار العمل الفعلي في السياسة و تعلق حتى بمجرد التأثر بها ، وهنا أيضا يطرح إشكال يتعلق بإثبات مدى تأثر القاضي بلون سياسي معين إبّان إصداره لحكم قد يكون طرفاه خصمان سياسيان.
و التعريف المتقدم ، رغم أهميته ، يثير الجدل باعتبار أن الحظر المسلّط على القضاة أساسه العلانية و الظاهر و المكشوف أي الجهر بموقف سياسي ، أي بقراءة عكسية لا يحجر على القاضي أن يكون ذو إنتماء سياسي معين لكن شريطة أن لا يجاهر به و يحتفظ به لنفسه.
و مثل هذا الأمر قد يفرغ ” ظاهريا ” التحجير من محتواه إذ قد يجابه المنع بأن القاضي و لو لم ينبس برأي سياسي فهو مؤكدا و يقينا ليس براءً منه وهو ما يجعل الحكم ، و لو في ظل صمت القاضي و إحجامه عن إبداء مواقفه السياسية ، غير نقيّ من شوائب التوجهات السياسية الرائجة في البلاد.
و في هذا الإطار علينا التفريق بين مصطلحين جوهريين ألا وهما الحياد و التجرد.
فالحياد مفهوم علائقي أي أنه يشير إلى علاقة مع شيء آخر أي أن القول بأن القاضي محايد يفترض طرفا مقابل و قضايا معروضة أمامه.
أما التجرد فيعني بالأساس الخلو من الأهواء و العواطف و الإنتماءات الفكرية و السياسية إذا فهو بهذا المنظور حالة نفسية مرتبطة بذات القاضي و بتركيبته في كلّيتها.
و المقارنة بين المفهومين يجعلنا نعلن أنه على القاضي أن يكون محايدا فنحن لا نملك سلطة و لا آلية تجريده من أفكاره و مواقفه و اُنتماءاته بأنواعها شريطة عدم التصريح بها .
فالقاضي مبدئيا غير مجرد من كل ذلك بل هو مطالب بالحياد أي بعدم إعلاء عواطفه و أهوائه و مدعوّ للتحكم في انفعالاته و محظور عليه كشف توجهاته السياسية و إنتماءاته الإيديولوجية وهو ما قرره إعلان المبادئ الأساسية في شأن إستقلال القضاة التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقراريها الصادرين في 29 / 11 / 1985 تحت عدد 32-40 و في 13 / 12 / 1985 تحت عدد 146-40 اللذين تضمنا أن القضاة يفصلون في إطار من الحياد فيما يعرض عليهم من منازعات على ضوء وقائعها و وفقا للقانون غير مدفوعين بتحريض أو معرضين لتدخل بلا حق أو محملين بقيود أو ضغوط أو تهديد مباشرا كان أم غير مباشر أيا كان مصدرها أو سببها.
و من هنا يبرز المفهوم الأشمل لهاذين المصطلحين ألا وهو الموضوعية.
فالقاضي و لئن كان غير مجرّد من كل ما تقدم فإن حياده يقتضي تخليه عن عواطفه و انفعالاته و انتماءاته السياسية و الفكرية و العقائدية و بالتالي فتناوله للقضايا المرفوعة أمامه و تعامله مع الخصوم و بحثه في المسائل القضائية و بته للنزاعات يقتضي عدم خضوعه لا للتأثير الخارجي ، وهنا يبرز حياده ، و لا للتأثير الداخلي ، و هنا يتجلى تجرده من مشاعره و انتماءاته المتنوعة ، ليكون في الأخير مجرد بوق للقانون وهنا فقط تتحقق إستقلالية القاضي التي هي ركيزة من ركائز إستقلالية السلطة القضائية.
فحتى لو كان القضاء مستقلا فإن شروط المحاكمة العادلة لا تكون مستوفاة إن إنتفت حيادية المحكمة.
فإذا كانت الإستقلالية تعني عدم خضوع القاضي أو المؤسسة القضائية لأي ضغط مصدره خارجي من سلطة أو مؤسسة قضائية أخرى أو من قبل فرد آخر ، فالتجرد مصدره داخلي وهو متعلق لا محالة بعقلية القاضي و آرائه و أفكاره و إيديولوجياته ( التي شئنا ام أبينا تتوجّد فيه ).
فالنصوص مهما بلغت قوتها و بلغ كمالها لا يمكن أن تُكرّس إلا بالممارسة الفردية و الجماعية.
لذا فإن ممارسة الإستقلالية مرتبط وجوبا بشخصية القاضي الذي يتوجب عليه فرض إستقلاليته الذاتية عن الكل لتحقيق إستقلالية السلطة التي يمثلها.
و في تونس مثلا صدر بيان عن الهيئة الوقتية للقضاء العدلي ، اتسم بلهجته الحادة ، و ذلك بتاريخ 15 / 06 / 2016 تضمن تحذير القضاة من المشاركة في جميع الأنشطة الحزبية و السياسية باعتبار أن ظهورهم في اجتماعات و مؤتمرات حزبية و تبنيهم لمواقف سياسية و الإعلان عنها من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة ثقة المتقاضي في القضاء و في استقلاله.
و السؤال المطروح هنا هل أن القاضي المباشر هو فقط المعني بمثل هذا الحظر أم أن الأمر يسري عليه و لو كان ملحقا أو غير مباشر ضرورة أن القضاة عينوا في مناصب وزارية كما أنهم عينوا ولاة في العديد من المناسبات ؟
هذا السؤال جوابه رهين سلوك القاضي و سياسته المتبعة إبّان تعيينه في منصب ما في الدولة.
فالقاضي الوزير أو القاضي الوالي لم يخرج نهائيا عن جلباب القضاء فصفته كقاضي لم تمحى أو ترفع عنه فهو ، إلى حين ، معين في منصب ما وهنا يطرح الإشكال .
فالقاضي ، في هذه المرحلة ، عليه أن يكون رجل دولة لا رجل سياسة وهو ما يتوجب معه التمييز بين هاذين المفهومين.
فقد عرف رئيس الجمهورية الفرنسية رينيه كوتي التسميتين و ميز بينهما قائلا ” الفرق بسيط جدا بينهما ، فرجل الدولة يريد أن يعمل شيئا من أجل بلاده و رجل السياسة يريد من بلاده أن تفعل شيئا من أجله .”
بالتالي فعلى القاضي الوزير مثلا أن يكون فوق الأحزاب و فوق الرهانات و خاصة المراهنات السياسية
فهو مطالب و مدعو للعمل لصالح وطن و دولة يمثلها و ذلك وفق مبادئ و أسس شبيهة بتلك التي كان مدعوا لاتباعها لما كان مباشرا لعمله في القضاء.
فالأدوات هي نفسها غير أن الحلبة إتسعت من البت و الحسم في خصومة قائمة بين بضع أطراف إلى معركة لا انتصار فيها إلا لشعب و دولة ، فالإصطفاف يجب أن يكون للحق و العدل الذي ينشده الشعب و يزدهر به الوطن لا لحزب سياسي معين أو تيار إيديولوجي ما.
فالمفترض أن القاضي أٌختير و سُمّي لخصال موضوعية عرف و تميّز بها لا لاُنتماء سياسي نُسب له و مثل هذا القول لا يعني البتّة تجريم رجل السياسة بل نحن نطمح إلى أن يكون الأخير في الذكر بمنأى عما يعرف بالسياسة القذرة ، فلا جدال أن رجل السياسة قد يملك رؤية واسعة و نظرة إستشرافية يرتفع بها عن المصالح الضيقة ليعمل لصالح الوطن و لفائدة الشعب لينهض بأحواله و يرقى بمؤسسات بلاده و يرفع مكانتها بين الدول غير أن الوصول لهذا المرحلة تعفيه من التسمية الأولى و تؤهله بأن يطلق عليه مسمى رجل الدولة.
لذا رجل السياسة ليس بالضرورة رجل دولة و رجل الدولة ليس بالضرورة رجل سياسة بما يعني أنه سليل إنتماء حزبي معين، و في هذه الخانة الأخيرة على القضاة أن يكونوا و يتوجّدوا ولو أنهم تحرروا ، إلى حين ، من واجب التحفظ .
و السؤال المطروح هنا هل أنه على خلاف القضاة الواقع تعيينهم في مناصب بالدولة فإن القضاة المباشرين يرزحون تحت أغلال ” حريرية ” حتّمها الدستور و القانون تعرف بواجب التحفظ ؟
الإجابة عن هذا التساؤل لن تتحقق إلا بعد إماطة اللثام عن مفهوم اُعتبر زئبقيا ألا وهو مفهوم واجب التحفظ .
حقيقة لا نجد تعريفا دقيقا لهذا المفهوم سواء في الدساتير أو القوانين التي لم تحدد واجب التحفظ فنحن للأسف أمام فراغ تشريعي في هذا الخصوص.
و من هنا كان الإحتكام للمواثيق الدولية ذات الصلة و المبادئ الشاملة المتعلقة باستقلال السلطة القضائية و استقلال القضاة ، فنجد أن البند 6-4 من مبادئ بنغالور للسلوك القضائي الصادرة عن لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة ينص على أنه ” يحق للقاضي ، كأي مواطن آخر ، حرية التعبير و العقيدة و الإرتباط و التجمع و لكن يتعين عليه دائما عند ممارسة تلك الحقوق أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي و حياد السلطة القضائية و استقلالها .”
وهو ما تولت تفصيله مبادئ مجلس بيرغ بشأن إستقلال السلطة القضائية و التي جاء في بندها 1-7 أن القضاة يتمتعون ” بحرية التعبير و تكوين الرابطات أثناء توليهم منصب القضاء بطريقة لا تتعارض مع مهامهم الوظيفية و القضائية أو قد تنال من حياد و نزاهة القضاء ” ، كما جاء في البند 2-7 من نفس المبادئ أنه ” يحظر على القضاة إفشاء أسرار المداولات و إبداء أي تعليقات حول الدعاوى قيد النظر”
و نص البند 3-7 على أنه ” يتعين على القضاة أن يكونوا متحفظين في التعليق على الأحكام أو على مسودة الحكم أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه من المحتمل أن ينظر فيه أمام محكمتهم “.
على ضوء هذه المبادئ يفهم أن حرية التعبير و حق الإنتساب و التجمع مقيدان بشروط تتمثل أساسا في المحافظة على هيبة القضاء و نزاهته و في ضمان إستقلال القضاة و حيادهم و عدم المس بشرف و كرامة القضاة و عدم النيل من إستقلال القضاء تجاه كل التجاذبات باختلاف أنواعها.
و حسب رأيي فإنه رغم هذا التعريف إلا أن الفراغ التشريعي المتعلق بمفهوم واجب التحفظ مقصود ، فهذا المفهوم الأخير أراه لزجا قد يتمطط أو ينكمش حسب الحاجة و وفقا للأهواء و المصالح و عليه من الضروري ضبط المفهوم و إدراج تعريف له يوازن بين حق القضاة في التعبير و التجمع و واجبهم في حفظ حيادهم و إستقلالهم.
و لا مراء أن الإعتراف بحق القضاة في التعبير يعني حقهم في إبداء مواقفهم تجاه القضايا الوطنية التي تهمهم لا كقضاة فحسب بل كمواطنين و من هنا جاء الإعتراف بحق القضاة في الإنتخاب الذي و لئن لاقى نقدا شديدا من قبل العديدين باعتبار أنه نوع من إبداء الرأي و الإنضمام لتوجه دون آخر فإنه كُرّس نظرا إلى أنه يتعلق بإبداء الرأي في خصوص مصلحة الدولة و ضمان إستمراريتها علاوة على أن إبداءه يكون بصفة سرية غير علنية.
إذا فالقاضي ليس في برج عاجي أو هو بمعزل عما يدور في محيطه بل عليه أن يتحلى بالحياد الإيجابي الذي نعني به عدم تأييد طرف سياسي على الآخر لكن في نفس الوقت مناصرة القضايا العادلة و في هذا السياق يقول مارتن لوثر كينغ ” إن أسوأ مكان في الجحيم مخصص لأولئك الذين يقفون على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى”
و عليه فإن الوقوف على الربوة و صَمَمِ الضمير الإنساني حياد في غير موضعه أي أنه كلما اُغتصب الحق يتحتم على الجميع بما فيهم القاضي نصرته و محاربة الظلم أيا كانت مصادره أو أسبابه وهو موقف أخلاقي يوصف بأنه موقف العدل و الإنصاف.
و هنا تطرح إشكالية تكييف القضايا و المواقف إذ أنه قد يبدي القاضي موقفا أخلاقيا إنسانيا ينتصر فيه للحق و المبادئ الكونية السامية لكن قد يوصف ذلك الرأي بالسياسي و يوظف لمحاربة القاضي و القضاء ككل من ورائه.
لذا فإن القاضي ، حسب تقديري ، في وضع لا يحسد عليه ، فهو بين مطرقة واجبات الرسالة و سندان الواجب الوطني فهو مطالب بضبط الخيط الرفيع القائم بين واجبات المهنة المتمثلة أساسا في واجب التحفظ و بين الواجب الوطني و نصرة الحقوق و الحريات و هي لعمري ليست بالمهمة السهلة.
- ـ القاضية الرئيسة أميرة العمري ـ الأم