المرأة في العهد النبوي: وقفة مع التحرر والعدالة والمساواة …!!(3حلقات)
عندما يحل شهر مارس أحس بإشفاق على قضية المرأة العربية والإسلامية، نظرا لصعوبة صقل الذهنية الثقافية العامة، المشرعة لإقصاء ها وتكريس دونيتها…!
وبما أن هذا الشهر في حقيقة أمره لا يعنينا في شيء، لأنه شهر المرأة الغربية بامتياز، ففيه نالت حريتها، فخلعت ثياب الذل والتهميش، ولبست الجديد، واحتفلت بعيدها …!!.
ونحن المجتمعات العربية و الإسلامية مجرد مقلدين، بمنهج القاعدة الخلدونية، لكن – ورغم ذلك- فإننا نحتفل بهذه المناسبة، انطلاقا من عضويتنا الأممية، مما يجعلها بالنسبة لي كباحثة عن حيثيات التحرر، مناسبة بإمكانها أن تكون مسوغا لي في تخصيص قلمي كامل أيام هذا الشهر لإثارة تساؤلات، ونقاش إشكالات، تتعلق بطبيعة مسلكنا لدرب الدعاية التحررية، الذي ينادي بحرية المرأة وحصولها على الامتيازات، لكي تستعيد عضويتها كاملة في مهمتي: حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض… وعند استعادتنا لتلك العضوية المفقودة أو المعطلة سوف نلبس الجديد ونردد النشيد ، لكن قبل تحقيق هذا الحق الإنساني المشروع ، فإن الاحتفال في نظري نوع من تبرير الواقع ، فينبغي الاستغناء عنه بتوظيف هذه المناسبة للتأمل والاستشكال ، وإثارة أشياء تتعلق بكنه القضية وأبعادها المختلفة ، بعيدا عن الاستهلاك السياسي ، والاستعراضات الخطابية …!! وبما أننا امة خطابية قد أسست لها مختبرات لصناعة الكلمة وسجعها وشعرها قبل البعثة النبوية في سوق عكاظ ودومة الجندل، فإن القضية في نظري مازالت مجرد ترويج واستهلاك سياسي لا أكثر من ذلك. وهذا ما أتذكره أكثر في غمرة استعراضات الثامن من مارس، فثقافتنا المتناقضة وقدرتنا على التكيف مع منهج المتناقضات، جعلت القضية تتيه في عتمة التخلف، وضبابية الانحطاط الثقافي والفكري، الذي عشناه واقعا منذ أكثر من ألف سنة من الزمن… وهذا ما يستدعي وقفة إجلال لعهد النبوة: فجر الحرية والانعتاق، العهد الذي أخرج المرأة من أدران التخلف والإقصاء، إن المقام هنا يقتضي إثارة أشياء من عالم مختلف، أي تسليط الضوء على فترة البعثة النبوية، ومرحلة التاريخ الإسلامي في طور نقائه، تلك الفترة التي غيب دور المرأة فيها، لأن التاريخ كتب بعقلية رجالية متعصبة، فانطلقت من مبدا تجاهل دور نساء العهد النبوي، لكونهن نساء الحريم فقط، فتم بذلك حجب تلك التجربة النسائية، التي تجلت في مختلف مظاهر الحياة، في ذلك العهد المضيء من تاريخنا. فعندما انطلقت رسالة الهدى ودين الحق بنداآت الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة، كان الإنسان الأول الذي اعتنق هذا الدين، وآزره ونصره امرأة هي : خديجة بنت خويلد، وعندما تعرض السلمون الأوائل للعذاب والمضايقة والتشريد والقتل، قدمت النساء أولى ضحايا هذا التعذيب: الشهيدة سمية أم آل ياسر… وكن النساء هن أول المهاجرات الفارات بدينهن من طغيان الكفر وظلمه، وتواصلت المسيرة النسائية مع الإيمان الصادق، حيث لم يسجل التاريخ ارتداد النساء بعد إيمانهن، وكذلك خلوهن من عادة النفاق، تلك الظاهرتان اللتان اشرأبتا في صفوف السادة الرجال، كظاهرة تزامنت مع أتساع رقعة الإسلام. فكان تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع النساء غاية في السمو والرقي، مما أعطى للمرأة دفعا وحضورا، متجاوزة بذلك الحدود الجاهلية بكليتها، لكن بمنهجية ربانية لا ظلم فيها ولا حيف… وكان القرآن الكريم يتنزل من أجل تجسيد العدل والمساواة بين المرأة والرجل من جهة، وبين البشرية جمعا من جهة أخرى، أي القضاء على الطبقية، وإقصاء المرأة، فهذان المبدآن كانا أهم أساسيات الإسلام، وقد قال عمر بن الخطاب فيما يتعلق بالمرأة: “كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا فلما جاء الإسلام وذكرهن القرآن فيما ذكر رأينا لهن علينا بذلك حق”. فشاركت سيدات عهد النبوة في القتال، والهجرة والبيعة، كما كان لهن حضورهن في الشورى، مما أدى بعبد الحليم أبو شقة(معاصر) تأليف كتابه: “تحرير المرأة في عصر الرسالة” أراد من خلاله أن يصحح المفاهيم التي شابت النظرة للمرأة، ولكن ترسيخ الظلم الذي يستمد مناعته من التراث والتاريخ عندما تحولت مسيرة الإصلاح إلى مادة غير مفعلة، مع أتساع الحضارة الإسلامية ، وانتقال عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى دمشق في عهد الدولة الأموية، وإشاعة الأقوال الإقصائية للمرأة، بفعل إحياء التراث الجاهلي، ودور الترجمة في التأثر بالثقافات الوافدة، التي كانت في معظمها تهين المرأة وتكرس دونيتها، إضافة إلى الابتعاد عن عهد النبوة ، فترة التأسيس الحضاري العادل. فدخلت المرأة حظيرة الحريم واختفت معالمها الإنسانية، ودورها من حمل الأمانة ومهمة الاستخلاف…!
الحلقة 2
إن الكتابة عن دور سيدات عهد النبوة تستدعي الاعتماد على مراجع للسيرة النبوية الشريفة الصحيحة، لكي يتسنى للكاتب تقديم مادة علمية ذات قيمة….
وذلك ما نسعى له هنا في هذه السلسلة التي نقوم من خلالها بحفريات من اجل إزاحة الستار عن قيمة المرأة الإنسانية ،ومساهمتها في عملية البناء والتأسيس ، تلك القيمة التي اختفت إبان التحول الذي شهده التاريخ الإسلامي بعد الفتنة الكبرى ، وسيطرة الذهنية الذكورية على التدوين والتشريع …
وانطلاقا من هذا فإن محاولة الغوص في عمق إشكال كهذا تقتضي الرجوع للمصادر الأساسية المتمثلة في القرآن والحديث ، ومؤ للفات بعض العلماء والمفكرين المعاصرين الذين حاولوا استدراك وتوضيح بعض الأخطاء التي شابت التعامل مع المادة التاريخية التي اعتمد عليها فكر الإقصاء والتهميش، وتلك النظرة الدونية التي قلصت الدور الإنساني للمرأة ….!!
وبهذا فإن ضرورة تقديم مادة علمية تستطيع الصمود أمام موجة التشكيك التي تعترض طريق إبراز قدرات المرأة لكي لا تجتاز عتبة الحريم- كما أراد لها المجتمع الذكوري الذي أحكم قبضته على زمام التدوين منذ نهاية العهد النبوي والراشدي ، ودخول النظام الإسلامي للتوريث واستبداد السلاطين ، لتأخذ المرأة وظيفتها في المطبخ وداخل أسوار الحريم ، فتتحول من فاعلة ومشاركة في عهد النبوة ،إلى ضحية خانعة مستكينة في العصور الموالية – أمر في غاية الضرورة والصعوبة معا …!!
وبما أن تلك التغيرات الجوهرية جاءت نتيجة للتحولات التي عرفها التاريخ الإسلامي فإننا سوف نحاول عرض نماذج من تلك التحولات .
فنحن مادمنا في شهر مارس العيد الدولي للمرأة فإن الظرف يقتضي جولة في تاريخنا الخاص لكي يتسنى للقارء الكريم لإلمام بجذورنا الحضارية ومميزاتنا الذاتية ، الشيء الذي يستدعي طرح فكرة المساواة كمبدإ أساسي رسخه الإسلام بنصوص القرآن الكريم ، وفي هذا السياق ذهب المفكر الإسلام المعاصر د.محمد عمارة بعدما أكد أن قضية المرأة في جوهرها قد ذهبت بين التطرف والجمود ، وإن الإسلام في تعاليمه كان سباقا للعدل والمساواة حيث قال : ” العدل هو الذي ينطلق من نصوص ومنطق وفقه القرآن الكريم في تحرير المرأة وإنصافها والمساواة بين النساء والرجال الذين سوى الله سبحانه وتعالى بينهم عندما خلقهم جميعا من نفس واحدة ، وسوى بينهم جميعا في حمل أمانة استعمار الأرض وعمرانها عندما استخلفهم جميعا في حمل هذه الأمانة . كما سوى بينهم في الكرامة عندما كرم كل بني آدم ، وفي الأهلية والتكاليف والحساب والجزاء مع الحفاظ على فطرة التمايز بين الأنوثة و الذكورة لتستمر نعمة السعادة الإنسانية …”.
فهذه المرجعية التي قدمها محمد عمارة- وكان حريصا على استعمال كلمة جميعا – هي الركن الأساسي الذي أسس عليه الإسلام مبادئه في المساواة، لكن التأويلات والتفسيرات بعد ذلك هجمت على هذه المبادء بشراسة لتجعل أصل الخلق من النفس الواحدة فيه تفاوت وتميز، من اجل أن يكون نصيب المرأة من الخلق الضلع الأعوج ، ومن هنا بدأ القضاء على مبدأ التساوي …!!
فكانت النتيجة حرمان المرأة من أخذ العلوم والمعارف والاستفادة من التجارب وتولي المناصب السياسية والقيادية، وفي هذا السياق تقول د. فاطمة المرنيسي : ” يتوفر الإسلام على صفاء شفاف فيما يتعلق بالمبادء ، وإذا قلنا الفكرة المسبقة التي تقول بأن النساء لا يتوفرن فعليا على أية سلطة ، وبالتالي لا يمكن تسليمهن مهاما دينية بطريقة مباشرة ، خاصة منها مؤسسة أساسية كالخلافة فإن ذلك لا يدع مجالا للشك بشأن هذا الإلغاء للنساء من السياسة “.
إن تحوير مبدأ المساواة الذي جاء نتيجة لاجتهادات بشرية ، أرتكز أساسا على توظيف الفوارق بين المرأة والرجل، لتتجسد وضعية المرأة التي استمرت منذ نهاية العهد النبوي وهذا ما ذهبت إليه د. فريال مهنا، عندما استعرضت ارتكاز العمل بمدإ المساواة الذي عامل به الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة في عهده ، وما شهده ذلك المبدأ من تحريفات انطلقت من منطق فكر الإقصاء ، وذلك ما تعرضت له في كتابها : ” إسلام … أم ملك يمين ؟” حين ما قالت : ” لقد انطلق إقصاء المرأة لاستخدامه لإرساء أنساق فكرية وثقافية متكاملة تكرس التفوق الذكوري في كل ما يتعلق بالحياة الإسلامية الخاصة والعامة “.
ويحدد تاريخ الانتكاسة للمرأة بالعصر الأموي والعباسي وانتشار ثقافة الجواري …
الحلقة 3
انطلاقا مما سبق في الحلقتين الماضيتين أصبح بإمكاننا أن نقدم نماذج من الانقلاب الذي أصاب مسيرة الإصلاح التي أبانت عن مشاركة فعالة للمرأة في العهد النبوي ، تلك المرأة التي هاجرت بدينها والتي شاركت الصحابة في مختلف مظاهر الحياة السياسية والعسكرية ….
وكان الرسول المعظم يؤطر تلك المسيرة ويباركها من أجل تأسيس قاعدة دينية مبدأها المساواة ، خالية من الظلم والحيف ، لكي لا تتعطل القدرات البشرية بدخولها في غياهب الأنوثة والذكورة والتفاوت على حساب الجنس وليس على حساب العمل …!!.
لكن الشلل الذي أصاب الأمة كان نتيجة للانقلاب الذي تحايل على مبدإ التساوي بتعطيله لتلك الازدواجية التي كانت العلاقة فيها بين الرجل والمرأة علاقة تكامل، وليست علاقة ندية تنافسية فيها طرف رابح وآخر خاسر ، فتم نتيجة لذلك تكسير جوهر الإنسانية بفعل الضغط الذي اتخذ مناعته من الاجتهادات البشرية والتفسيرات الإسرائيلية …!!
وفي هذا السياق ولكي نواكب ظرفية العيد الدولي للمرأة بإبراز قيمة الإسلام في جوهره وفي طور نقاء رعيله الأول ، يقتضي السياق توضيح الآلية التي تم بها التأسيس المنهجي الذي أسس الإقصاء النساء وإبعادهن من تلك الوظائف التي قمن بها في عهد النبوة ، وقد اتخذ الإبعاد منطق لا ديني ، لكنه كان قويا حتى لبس لبوس الدين عند مرحلة التدوين الأولى . فأصبحت المرأة بذلك دون الرجل وتابعة له ، بعدما كانت في عهد النبوة مشاركة حرة ومستقلة ، وذات حضور قوي …!!
لقد أنطلق التأسيس للثقافة الإ قصائية مع مرحلة التدوين في القرنيين الهجريين الثالث والرابع ، لتترسخ دونية المرأة في بنية اللا معقول في الثقافة العامة عند المسلمين ….!!.
كنا في الحلقة الماضية قد تعرضنا لأصل التساوي أما الآن فإننا سوف نعالج قضية خروج البشرية من الجنة ، من أجل أن نلاحظ معا بشكل واضح عملية التحايل على المرأة وجعلها سبب شقاء البشرية …!!.
فرغم أن القرآن الكريم كان واضحا في نقله لنا خبر خروج آدم وحواء من الجنة على مرحلتين: الأولى جاءت في سورة طه الآية 121 حينما خصص القرآن الكريم وقفة خاصة لآدم عليه السلام في تجاوزه الأوامر الله في منع الأكل من الشجرة المحرمة ، والمرحلة الثانية جاءت في سورة البقرة الآية 36 تخبرنا عن زلتهما التي بسببها خرجا من الجنة ، وتاب الله عليهما ، وهبطا إلى الدنيا .
هذا هو المبدأ الذي ثبت في القرآن الكريم وتوفي الرسول (ص) عن المسلمين على هذا لأساس في قصة خروجنا من الجنة إلى الدنيا ، لكن الثقافة التفسيرية ذات المنهج التحليلي قدمت لنا شيئا مختلفا ، حينما تجاوزت النص القرآني الواضح نحو سفر التكوين الجزء الأول من التوراة ، الذي أعتبره د/ محمد المهدي ولد محمد البشير:” أهم مصدر اعتمده المفسرون في مرجعيتهم الخرافية القصصية التي أدخلت على تفسير النص القرآني” عندما قدموا لنا مسرحية تراجيدية ذات الأبعاد الثلاثة ، تتقاسم الأدوار فيها أمنا حواء مع الشيطان والحية ، من أجل إقناع آدم عليه السلام بالأكل من الشجرة المحرمة ، وعصيان أوامر الله تعالى ، وهنا نستوضح التحايل الذي وقع على المرأة ، وكان مرجعيتنا فيه أحبار اليهود الذين دخلوا الإسلام وحملوا معهم الأقوال والقصص الواردة في العهد القديم من كتبهم التي حرفوها …!!.
( أنظر الطبري في “جامع البيان في تأويل القرآن ” م ، 01 ،ص:526،ط مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 2000)
وهنا نقف عند إشكال كبير يتمثل في التحايل على مبدإ العدالة ، الذي أسس دعائمه القرآن الكريم وعمل الرسول العظيم ، لكن المفسرين الإسلاميين – رغم حرصهم على نقاء الإسلام – قد مالوا في قضية المرأة بالذات نحو التفسير الإسرائيلي ، ليعتمدوا قصصا غامضة ، تحمل حيفا للمرأة ، مثل هذا النموذج الذي تأسس عليه الكثير من بنود الظلم والإقصاء والتشاؤم ذهبت النساء ضحية له .
وانطلاقا من هذه الحملة التفسيرية التعليلية التي تتخذ من ثقافة الشعوب مادتها الأساسية ، أكثر مما تعتمد من المرجعية القرآنية ، التي سارت بخطوات مأثرة وعميقة ، اتخذت عبر التاريخ مناعتها ، لتصاحبها موجة أدبية مترعة بلأمثال والأشعار ، فتترك النساء الحلبة في وجه هذه الجيوش الثقافية القوية الممزوجة بالتراث اليهودي والروماني واليوناني …
وتتغيب النساء عن المسجد المؤسسة الدينية الأهم لمشاركة المسلمين في تعمير الأرض والاستخلاف وحمل لأمانة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ….
يتواصل
تربة بنت عمار