مدونة تبكي الراحل ولد محمد يوسف
الزمان انفو – كتبت المدونة والناشطة الجمعوية فاطمة انجيان في تأبين أستاذها الراحل يحفظو ولد محمد يوسف :
لطفك يا الله ورحمتك
أستاذي وقدوتي ترجل إلى دار البقاء مخلفا من الأسى والحزن ما تنوء بحمله القلوب والحروف…
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
يحدث أن نحاول الهروب إلى الكتابة لتخفيف وطأة الألم والفاجعة لفقد عزيز رحل عنا فجأة دون وداع ودون أن يمهلنا الحظ ولا الزمن أن نوفيه بعض ما يستحقه علينا أو يطلع على ما نكنه له من ود وتقدير…
ليت الحروف تمتص بعض لوعة الفقد و مواضع الألم كلما لاحت صورة من الذكريات؟.
كم هي صعبة وموجعة محاولاتنا تلخيص شريط حياة وصل أحد أبطالنا فيها لنهاية الظهور في مشاهدنا اليومية…
كم هي فانية هذه الحياة وقاسية!
ما أقرب الدنيا من الآخرة !
لم أتأثر بعمق في مساري الدراسي في جامعة نواكشوط وربما في خارجها بمثل أستاذين كان أحدهما الأستاذ يحفظ ولد محمد يوسف تغمده الله بواسع رحمته والآخر أستاذي يعقوب ولد السيف أطال الله بقاءه ولا أرانا ولا أحبابه فيه إلا كل خير وهناء وعافية.
رمتني الصدفة والأقدار لدراسة القانون بعد أن تخليت عن رغبتي في دراسة تخصص آخر زهدت فيه بعد جلسة مع بعض أدعيائه…
دخلت الجامعة بروح ربة منزل تجاهد للتوفيق بين البيت والدراسة فكنت أتغيب عن الحصص التي يخصص أغلب وقتها للإملاء أو تلك التي لا أجد فرقا فيها بين إلقاء الأستاذ وشرحه وبين كتيبه الذي وضع نسخا منه للبيع عند رئيس الفصل أو عند إحدى وراقات الجامعة…
وكنت أحضر ترشيدا للوقت فقط لقلة قليلة لا تتعدى ال أستاذين تقريبا عند كل فصل.
ومع مرور السنة الأولى والثانية كنت رفقة بعض الزملاء والزميلات بدأنا نصنف الأساتذة تصنيفات خاصة تبعا لما كنا نلمس من درجة التمكن من المادة أو حفظها… ودرجة الاستعداد البعض للنقاش وربط الدرس بواقع وطني أو دولي بحسب المادة أو كسله ويأسه المسبق من وجود طلاب جادين في الأصل… وكنا في بعض الأحيان سامحنا الله نصنفهم بالنظر إلى طريقة لبسهم وتعاملهم فنسمح لأنفسنا بتقدير تحضرهم من قلته…
وفي ظل تلك الفوضى وبعض انعدام الثقة المتبادل لم يكن لوجود أستاذ مثل الأستاذ يحفظ أن يمر بدون ملاحظة أو دون اهتمام…
سمعت عن تميز وجدية الفقيد عند زملائي الذين كانوا يتحدثون عنه بشغف أثار فضولي للتعرف عليه دون أن ابذل جهدا لذلك بسبب نظرتي للمادة التي كنت اتصورها مجرد مصطلحات تتم ترجمتها من الفرنسية للعربية فكنت اكتفي بنسخ الدرس دون الحضور حتى وصلنا للامتحانات النهائية…
كان الامتحان شفهيا ومع العادة جرت أن يمتحن كل على حده لكن لأستاذي المحترم كانت قواعده الخاصة فكان يدخل خمسة طلاب أو ستة فيجري امتحان كل منهم على مسمع مرآى من الآخرين…
دخلت ضمن مجموعتي عليه وكان الامتحان في قاعة بها العديد من رفوف الكتب في مركز البحوث التابع للكلية…
كان يجلس بهيبة ويسأل الطلاب حسب ترتيبهم في الجلسة… سألني عن معنى عشرين مصطلحا قانونيا لم أخطأ في إجابة أي منها رفع في بصره وأمرني أن أحضر كتابا أصفر من أحد الرفوف وطلب مني أن اقرأ بعض الصفحات وسألني عن المعنى العام ومعنى بعض الكلمات وبعد انتهائه من الأسئلة قال لي “فاطمة لديك مستوى جيد مقارنة بالبقية أرجوا أن تنميه بالدراسة والمطالعة”
خرجت مطمئنة واثقة من نفسي وعندما أخبرت أحد الزملاء بما جرى قال لي هنيئا لك 15/20 فقلت منفعلة ولكني لم أخطئ في اي من الإجابات فرد بثقة قائلا لا تطمعي في خمسة نقاط خصصها الأستاذ للحضور وهو أستاذ دقيق الملاحظة … وفعلا كانت نتيجتي تصدق المتداول عنه من صرامة وعدل.
توالت الأيام ليدرسني في السنة المتبقية دون أن أفوت رفقة زملائي متعة وإفادة دروسه المتميزة…
كما كان لي الشرف والحظ في أن أكون بين الطلاب الذين أشرف على تأطيرهم أثناء التخرج..
كانت رحلة البحث والتأطير فرصة للتعرف أكثر على جوانب أخرى مثل إتقانه وانفتاحه على عدة لغات أجنبية و ثقافات متعدد كما كان مطلعا بشكل مريح على مسارات النقاشات والجدل والتطور الإقليمي والدولي في مجاله مما يجعلنا نبذل جهدا مضاعفا للبحث عن المعلومة الحديث والابتعاد قدر الإمكان عن المتجاوز.
ناقشنا بشكل أكاديمي وإنساني بحكم الموضوع والتخصص أهم القضايا الحقوقية من إرث وواقع فكان دائما أمينا في المعلومة وصاحب رأي علمي وإنساني يجبرك على احترامه أكثر…
شاءت الأقدار أن أزوره بعد التخرج والعمل وهو رئيسا للمحكمة العليا في زيارة عمل في إطار زيارة مقرر الأمم المتحدة الخاص المعنى بالتعذيب فكان اللقاء جميلا أنيقا مفيدا بيض وجهي ووجه البلاد بأساتذتها وقضاتها وخلف حضوره المتحضر وتعاطيه المشرف صدى طيبا في نفس كافة أعضاء الوفد خصوصا وأن كل ذلك بدى غير متكلفا.
لم يكن أستاذي وقدوتي أستاذا متمكنا فقط بل كان مدرسة إنسانية متعددة المعارف والثقافات وقمة في الأخلاق والرقي عند الكلمة والتعامل والسلوك …
رحل الأستاذ والقاضي والإنسان يحفظ ولد محمد يوسف بجسده وغادر إلى رحمة الله تعالى لكنه سيبقى بذكره الطيب وسيرته الزكية ومسيرته العامرة بالكفاءة والوطنية والأخلاق في نفوسنا ونفوس كل من مر بهم الفقيد.
بحروف وقلب ملؤه الأسى والألم أعزي نفسي وأستاذي الأستاذ يعقوب ولد السيف وكل زملائي وزميلاتي في هذا المصاب الجلل كما أتقدم بالتعازي الحارة إلى كافة أفراد ذوي الفقيد وأصدقائه وتلامذته وإلى كافة أسرة التعليم العالي والمؤسسة القضائية وكل الشعب الموريتاني.
اللهم ارحمه واغفر له وتجاوز عنه واعف وارحم جميع موتى المسلمين والمؤمنين وارحمنا اللهم إذا صرنا مثلهم
هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله وإنا لله وإنا إليه راجعون
فاطمة محمد الأمين انجيان