ثقافة الْمَذْق! لماذا يَأسِرُنا (ازْرِيگْ)
الزمان انفو _
كتب الدكتور محمد محمود أحم محمود:
المذْق: اللَّبَنُ / الحليب المخلوط بالماء.
وجذْر الكلمة مُحمَّل، تراثيًّا، بمضامينَ ودلالاتٍ لا تكاد تَخرُج عن الإطار السلبيّ، مثل: الكذب، وعدم الإخلاص في الودّ، … فجميع معانيه تَرْتَدُّ إلى أصل واحد: “خَلْط شَيْءٍ لَا عَلَى جِهَةِ #النَّصَاحَةِ(1)”. “وَمِنْ ذلك قولهم:”فُلَانٌ يَمْذُق الوُدَّ إِذَا لَمْ يُخْلِصْهُ(2)”.
وكان العرب يتهاجوْن بالمذْق يُقدَّم للضيوف، حتّى قال راجزُهم- يَصِفُ قومًا بالبُخْل واللؤم في ترْكِ إكرامِ مَن نَزَلَ بهم، ويُشبِّه المذْق الذي قدَّموه له- في لوْنه المُغْبَرِّ- بلون الذئب؛ لكثرة الماء الذي مازَجَهُ-:
حتَّى إذا جَنَّ الظَّلامُ وَاختلطْ*جَاؤوا بمَذْقٍ هل رَأَيتَ الذئبَ قَطْ؟
والسؤالُ الجديرُ بالإثارة هنا: لماذا يَتَبَوَّأُ المذْق (ازْرِيگْ)هذه المنزلةَ العاليةَ في عاداتنا الغذائية، وفي أنماط سلوكنا الاجتماعي، مع أنّهُ يَنُوءُ بمثْل هذه الهنات والنقائص؟
قبْلَ محاولة الإجابة عن السؤال يحسُن بنا أن نُعرِّج على اللفظ العاميِّ المعبِّر عن المذْق- وهو (ازْرِيگْ)- متسائلين عن مَنْشَإ التسمية؛ ربْطًا للفرع بأصله، ولَمْحًا لخصوصية الإطلاق، في المحيط الثقافي المحلّيّ.
يُرشِد ظاهر لفظ (ازْرِيگْ)- بزاي وراء مرققتين- إلى أنه مشتق من (ازْرَاگْ) بتفخيم الزاي والراء معا. و(ازْرَاگْ)- في أحد معانيه المشهورة-: دخولُ لون الحُمْرَةِ، أو السواد، على البياض، في جسم ما. نقول: “هَذَا آوْدَاشْ أَزْرگْ”، أي: هذا الثور مخلوط بياضُه بحمرة (أو سواد).
فكأنَّ مَلْمَحَ التسمية، في (ازْرِيگْ)، هو: اجتماع #بياضاللبن مع #سوادالماء. ويُزكِّي هذا أن: البياض يكافئ، عند العرب، اللبنَ، والسواد يُعادل، عندهم، الماءَ.
تَرسَّخَ المَذق وتَجَذَّرَ، في أعرافنا، سفرا وحضرا، وفي طقوسنا الاجتماعية؛ فلا تكاد تَخْلو منه دار، ولا يَسْتَنْكِفُ عن تناوله ثَرِيٌّ ولا وجيه…
وقد تجاوز، في معناه، الحليبَ الممزوجَ بالماء – بجميع مشتقاته كالمخيض، والمجفَّف – إلى كل عنصر مُزِجَ بالماء بغرض الشُّرْب؛ إذ تجِدُنا نتحدث عن (ازْرِيگَه) من: (العِلْكْ)، وثانية من (أَبَكاكْ)، وثالثة من (تَجْمخْتْ)، إلخ.
(والباحث يلحظ أننا طوّعنا مفهوم (ازْرَاگْ) وطوَّرْناه، من المدخل البلاغي، فوظفناه توظيفا استعاريا ارتقى بموجبه من المجال الحسي إلى المجال المعنوي، تَرانا نقول: ” ازْرَيْگةْ – بتفخيم الزاي والراء- ولْ أحمدْ يُورَه، زَيْنَه”. و”فلانْ أَزْرَكْ” تعبيرًا عن حالةٍ مِنْ عدَم إحكامِ التصرُّف لدى الفرْد، تُظْهِرُ امتزاجَ صريحَ عقلِهِ ببَعْضِ مُتَدَنِّي سُلوكِه)!
ومِنْ مَظاهرِ تجَذُّر المذق في الاستعمال، لدينا، تعدُّد مستويات (ازريگْ) (فالحليب – حين “يࣿزَرَّٖگُ”: “يُبعج، أو “يُنْقَرُ”، وقد “يُمَوْطَنُ”، وربما “بُرْقِلَ” حتى يكاد يصلح للوضوء به، رقَّةً(3)!
ويظلّ السؤالُ الوجيهُ المثارُ، سابقا، يُلاحقُنا: لماذا أُشْرِبَ سكانُ الصحراء حُبَّ المذق ( ازْرِيگْ) مع ما يلاحقه من المعايب؟
هل:
1)لأنّ البيئة الصحراويةَ شحيحةٌ شُحًّا دَفَعَ أبناءها إلى تعويض النقص المحتمَل في الحليب – وهو أحد أهم مقوِّمات حياتهم- إلى مزْج الحليب بالماء، اعتدادًا، منهم، بالكَمِّ على حساب الكيْفِ، على عادة أهل البادية في قصور التفكير؟ (يَدْفَع هذا الاحتمالَ شيوعُ (ازْرِيگْ) في بيئات يَكثر فيها اللبنُ حتّى يَفيضَ).
2) أم أنّ حبَّ الكرم- مُمَثَّلًا في تكثير اللبن بالماء -عندما يُقدَّم- أحيانا- إلى الضيوف- هو السبب؟ (يُبْعِد هذا الاحتمالَ أنَّ مجرد مزج اللبن بالماء مُنافٍ للمُروءة، ولأعراف الضّيافة، ومُعَرِّضٌ فاعلَه للذّمِّ والهجاء).
3) أم يعود الأمر إلى أنّ مزاج ساكِن هذه الأرض- مِنَ العامّة- سيماه: التّلوُّن، والكذب، والادّعاء، والخديعة ..:؛ فوَجَدَ، في المذق، ما يُلَبِّي شَرَهَهُ إلى هذه المفاهيم، فطَفِقَ يقدِّم لنفسه، ولضيفه، ما ظاهرُه لبَنٌ محْض، وباطنه ماءٌ “ممَوَّه”؟!
4) أم السبب أنّ أهل هذا الإقليم يُلاحقون الحليبَ مهْما بدا رقيقا، لا يُسمِن ولا يُغني من جوع (زريگا) واضعِين في الاعتبار حديث: “فاخترتُ اللبنَ”؛ فيوهِمون أنفسَهم- حين يَشربون (ازْرِيگْ)- أنهم إنما يَشربون الحليب، وأنهم، بذلك، قد “أحسنوا الاختيار”؟
5) أم أنّ لِحُلْكَة الحياة وشظَفها دوْرًا في التّعلق بالحليب، بوصْفه بياضًا يضيء دروبَها، ولو كان ذلك الحليب مجرد “ماء أغبرَ”؟ ولذا نجِدُ، من المتواتر لديهم، استعارةَ البياض والضوء للحليب مثل: (الْمَا يَحْلَبْ بَيْدُ مَا يبْياظْ اخْدَيْدُ)! و(أهْلْ افْلانْ ما يدْخلْ اعْلِيهمْ يَكُونْ ظَوْ القَمَرْ)!
6) أم في رقة المذق ما يلائم بساطة ابن البادية: تفكيرا وسلوكا؟
7) أم لأنّ تناولَ الماءِ “المُطْلَقِ” مؤذٍ للبصر كما كان يعتقد أسلافنا الملثمون؟ وحينئذ يكون المذقُ البديلَ السهلَ.
8) أم الحقيقةُ أنّ اللبنَ، وحده، لا يَشْفِي الغَلِيلَ، ولا يروي الصَّدْيانَ، في بيئةٍ تتلاعب بها أمواجُ رياحِ السَّموم، وتشتَدُّ فيها الحرارةُ (صيفا) حتى تصل إلى معدلاتٍ قياسية؛ فيتعيَّنُ على الباحث عن ريِّ ظمئه فيها أن يُهْرَعَ إلى الماء لِيَفْثَأَ به حرارةَ الحليب؟ نلمس ذلك في عبارات من قبيل: “أَرَانِي لَكْ فَاصِلْ فِي ازْيِقه بَارْدَه تَنْصَلْ اعْلَ القَلْبْ”!
وبذلك يكون (ازْرِيگْ) مرتبطا بالعطش، وبحرارة الأرض! وهو- حسب ظني- أقرب الاحتمالات.
إن تشبُّثَنا، اليومَ، بالمذْق (ازريگ) على رغْم:
– تَنامي الوَعْي الصّحي بضرره،
– بيانِ الأطبّاء أنّ مزْجَ الحليبِ بالماء يَذهب بالقيمة الغذائية للّبن،
– وجودِ البدائل الحديثة عنه،
مدعاة إلى دراسة ذلك التشبُّث.
فهل هو:
– تمسُّكٌ قَسْرِيٌّ بعادةٍ فَقَدَتْ مُسَوِّغَ وجودها؟
– أمْ وفاءٌ لسنن الأجداد؟
– أمْ وَعْيٌ ببعض موروثِنا الثّقافيّ، تخليدًا له؟
– أم رمْزٌ عاكسٌ لسلوكِنا الهَجِين (في الحياةِ؟
*
ربما يحتاج الموضوع إلى مزيد من التأمل لتقديم تفسيرات أكثر وجاهة؛ فَهْمًا لذواتنا!
————-
1 مقاييس اللغة لابن فارس.
2 نفسه
3 مِن اللطيف أن (بَرْقَلَ)- في الكلام الفصيح- معناها: كذبَ! والدلالة الخفية لذلك أن مقدم “أَبرْقال/ أَبرْقالَه – بالقاف، وبعضنا ينطق القاف غينا- إنما يُقَدِّم كذبة!