الشاعر أحمدو ولد عبدالقادر يروي قصة من الزمن الجميل
الزمان انفو _
كيف كانت مشاركة الوفد الموريتاني في مهرجان المتنبي في بغداد سنة 1979 كما رواها الشاعر أحمدو ولد عبد القادر ؟!
حُظيت عشية هذا اليوم الأحد 18 نوفمبر 2018 على هامش دعوة طيبة من الأستاذ محمد ماء العينين ولد الخليفة في منزله في تفرغ زينه بمجلس ماتع مع الشاعر الكبير أحمدو بن عبد القادر.
انتهزت الفرصة فأعاد علي رواية مشاركته في مهرجان المتنبي سنة 1979 في بغداد.
قال الاستاذ أحمدو: كنا ثلاثة أنا و العلامة محمد سالم بن عدود رحمه الله و الأستاذ الخليل النحوي حفظه الله.
كان عدد المشاركين في المؤتمر 3000 شخص منهم ألف من الباحثين و رجال الادب و الفكر من الاجانب .
بعد وصولنا بغداد لاحظنا أن كل وفد من الوفود العربية المشاركة يصطحب معه كمية معتبرة من المطبوعات الوطنية تتعلق بالمتنبي يود عَرضها في المعرض الكبير المنظم بهذه المناسبة.
كان أمامنا يوم واحد لاتخاذ الترتيبات الكفيلة بأن تضمن لنا مشاركة نعوض بها عن قلة عددنا و انعدام عدَّتنا..فتقاسمنا بيننا الأدوار في النشاطات الرئيسية الثلاثة على النحو التالي:
كان علي الأستاذ الخليل أن ينسج قصيدة تناسب المقام يلقيها في حفل علمي كبير حضره الرئيس صدام حسين رحمه الله و قد اضطلع بالمهمة الموكلة إليه على الوجه المطلوب إذ أن الرئيس نفسه أومأ إليه أَنْ قد تابع الإلقاءَ عندما صافحه أثناء حفل عشاء أقامه لاحقا على شرف المشاركين.و لم يعد الاستاذ الخليل يتذكر من شأن هذه القصيدة إلا كونها لامية.
يقول الراوي : أما أنا فقد تكفلت بإنشاء قصيدة تمثل مشاركتنا في الجلسة الافتتاحية التي يقتصر الالقاء فيها على تسعة شعراء يتقدمهم الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري،و أما الأستاذ عدود فقد نصبناه مراقبا لرصد الأخطاء اللغوية في المهرجان و التنبيه عليها كلما تهيأت الفرصة لذلك.
و على ذلك النحو كنا نستعد بكل ثقة لنخوض بنجاح تلك المعركة الحاسمة مع إصرار قوي على أن تتميز مشاركاتنا بما يلفت إلينا نظر المؤتمرين حتى تتبوَّأ بلادنا بلد المليون شاعر
مكانتها المرجوة في أكبر ملتقى دولي للشعر و الشعراء.
و في اليوم الموالي كان يوم الافتتاح
و كان أول الملقين فيه هو الجواهري الذي ألقى قصيدته الشهيرة في مدح المتنبي وعنوانها ” فتى الفتيان” و التي يقول في مطلعها:
تحدى الموت و اختزل الزمانا = فتى لوَّى من الزمن العنانا
و يقول في آخرها :
حلَفْتُ أبا المحسَّد بالمثنّى=من الجبروتِ والغضَبِ المعانى
وبالسُّلَعِ النوافرِ في عُروقٍ=كأنّ بكلّ واحدةٍ سنانا
وبالوجهِ الذي صبَغَ الرزايا=ببسمةِ ساخر فقسا ولانا
بأنّك مُوقدُ الجمراتِ فينا=وإنْ كُسِيَتْ على رغم دخانا
وأنّك سوف تُبعَثُ من جديدٍ=تُنفِّضُ ما تلبَّد من كرانا
وأنّا أمةٌ خُلِقَتْ لتبقى=وأنتَ دليلُ بُقياها عَيانا!
و نالت تلك القصيدة من التصفيق قدرا كبيرا كاد أن لا يتوقف.. وجاء دوري بعد ذلك فألقيت قصيدة أرتأينا أن تكون من شعر التفعيلة من باب ” خالف تُعرف ” و عنوانها : أمير الخالدين..
و كان الجواهري من كبار المعارضين لهذا اللون من الأدب..
و لما فرغت من الالقاء مررت بجانبه على الصف الامامي فقال لي : ضيعتَ لغتك و كررها مراتٍ ، فقلت له: لعلكم لا تحبون الشعر الحر ؟! فقال بداهة : و متى استُعبد الشعرُ ؟!
و لما انتهت الجلسة الافتتاحية صادف أن سأل بعض المشاركين الاستاذ محمد سالم عن تقييمه لقصيدة الجواهري فقال: هي قصيدة عصماء حقا و لكنَّ بها خطأً لغويا ما كان له أن يجري على لسان شاعر مجيد في مستوى صاحبها!
و هنا تفاجأ القوم و بادروا فاستفسروه عن الخطأ المزعوم فقال : إنه في البيت الاخير من القصيدة عند قول الشاعر :
و أنا أمة خُلقتْ لتبقى = و أنتَ دليلُ بُقياها عيانا
فقد استخدم الشاعر كلمة البُقيا بمعنى البقاء على أنها مصدر من فعل بقي و ليس الأمر كذلك إذ البُقيا مصدر من فعل أبقى عليه التي هي بمعنى مغاير و هو سامحه و عفى عنه.
صحيح أنه قد يستساغ مثل هذا الاستخدام و لكن ليس لمثل الشاعر الجواهري و لا في رحاب مهرجان كمهرجان المتنبي!!
و لا يزالون يتداولون بينهم في الموضوع و يستوقفون بعضهم البعض و يتعجبون من شأن هذا الشيخ الشنقيطي ذي الدراعة الفضفاضة الذي يتجاسر فيُخطئ الشاعر الجواهري على جلالة قدره و في عُقر داره !
هذا و لم ترفع الجلسة الافتتاحية إلا و قد أجمع الحاضرون على تنصيب الشيخ محمد سالم بن عدود رئيس الوفدِ الموريتاني قليلِ العدد ، ضئيلِ المدد ، حكَمًا لغويا للمؤتمر!
و زيادة على ذلك فقد أتيح للشيخ عدود أن يَرتجل كلمة أمام الحاضرين ، فخاطب كل وفد من وفود الأقطار العربية المشاركة على لسان أبي الطيب المتنبِّي ببيت من صميم شعره يتنزل بصفة صريحة على حال الدولة التي يمثلها و خاصه موقفها في التعامل مع الكيان الصهيوني آنذاك.
قال لي الأستاذ الخليل النحوي في ما بعدُ قُبيل نشر هذه التدوينة : و لم يكن الاستاذ عدود في أحكامه تلك مجاملا و لا متحاملا.
قال الشاعر أحمدو : و ابتداءً من ذلك الوقت أصبح الوفد الموريتاني محط أنظار الجميع تتدافع الوفود نحوه للاستفسار عن أي شيءٍ بدا لهم و لو كان خارج نطاق الأدب..
من ذلك مثلا أن أحد الباحثين أتانا مرة يسأل عن اسم وَلَد الظليم في لهجتنا الحسانية فقلنا له : نطلق عليه لفظ ” لِهزيمْ ” فقال : إن صوت الرعد يسمَّى كذلك الهَزيم باللغة العربية الفصحى فلعلهما متطابقان!
المهم أننا استطعنا أن نفرض لبلادنا مستوى من التمثيل ليس على قدر الامكانيات و إنما على مستوى التطلعات!
و من طريف ما حصل ابان ذلك المؤتمر أن أحد المحاضرين قال إن اللغة الدانمركية مليئة بصيغ أفعل التفضيل كما هو الشأن بالنسبة لشعر المتنبي و هي لغة حديثة النشأة ، نسبيا و تساءل في نهاية بحثه قائلا : فهلا تكون صادفت نشأتها الأولى صدور ديوان المتنبي فاقتبست منه شيئا من ذلك ؟!
و اعتبر الأستاذ محمد سالم ذلك البحث فيه نوع من التعسف و أنشد يقول على لسان المتنبي:
بغاني ناقدي في كل وادٍ = أهيم به و عزَّ
عليه ترْكي
بغاني في عُكاظَ فلم يجدني = فغرَّب باحثًا في الدانمرك!!
و خلال جلستنا الخاطفة تلك تطرق الشاعر كذلك إلى الحديث عن العبقري الراحل صديقنا المشترك الاستاذ جمال بن الحسن رحمه الله و قال : ذلك رجل دولة تماما كما كان محمد ولد مولود و المختار ولد داداه . و أردف يقول: أتدرون الفرق بين رجل الدولة و رجل السياسة ؟ ذلك ما عبر عنه الرئيس روزفلت مرة حين قاطع الصحفي الذي مهد لسؤاله إياه بقوله : بوصفكم رجل سياسة فقال له بانفعال: اسحبْ عبارتك هذه من فضلك ! ما أنا رجل سياسة إنما أنا رجل دولة. فرجل السياسة ينحصر تفكيره في دائرة اهتماماته الخاصة كحزبه مثلا أما رجل الدولة فإنه أوسع أفقا و أرحب تفكيرا و أبعد أمدً!
و تحدث الشاعر كذلك عن مهرجان المدن القديمة فقال : حُظيت تلك المدن بقرارين تاريخيين في غاية الأهمية هما: قرار إدراجها في تراث الانسانية من قبل منظمة اليونسكو و قرار تنظيم مهرجان المدن القديمة بصورة دورية بين هذه المدن.أما القرار الاول فهو في كفة الرئيس المختار ولد داداه و بجهود جبارة بذلها الاستاذ عبد الله ولد بوبكر حتى بعد خروجهما من دائرة الحكم سنة 1978 إذ ألح عبد الله على الرئيس المختار أيام مقامه في تونس أن يتصل بصديقه امبوْ المدير العام لليونسكو ابان انعقاد مؤتمر للمنظمة الأممية في بلغراد لحسم الموضوع لصالح موريتانيا ففعل و استُجيب له.
أما مهرجان المدن القديمة فيدخل ضمن إنجازات الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز.
و عرج الشاعر خلال حديثنا على مصطلح الديمين فقال ما رأيت تعبيرا عنه أدق من قول العلامة محنض باب بن امين :
و قد يشيرون لأمر بكنا = ياتٍ لهمْ لا تعدم القرائنا
و ربما عن القرائن نبا = فهم امرئ ٍ ليس بها مُخاطبَا !!
و تحدث الشاعر أيضا عن مشاركته في مهرجان الشباب الثالث في بغداد سنة 1977 الى جانب فتية منهم الاستاذ جمال بن الحسن رحمه الله.
و قال لم أكن أنوي الالقاء في ذلك المهرجان الا أن جمال ألحَّ علي في ذلك و لما اتخذت له من “آدواخ ” ذريعة ذهب على غرة مني الى منزل السفير عبد القادر ولد ديدي و جاء بلوازم الشاي و تولى صناعته هو نفسه و أخذ يحمله الي و أنا مضجع ليلا فوق سطح جامعة بغداد في فصل الصيف. و من طرافة جمال رحمه الله أنه حمل إلي دفترا و قلما و وضعهما إلى جانبي و فوجئتُ به يحمل إلي كاسين من الشاي من البراد الأول دفعة واحدة فقلت له : و لمن الكأس الثاني ؟ فقال مداعبا : لعل طارقا يطرق عليكم من جهة وادي عبقرَ فينال حظه منه ! يعني شيطان الشعر !
و في تلك الليلة كان ميلاد قصيدتي التي بعنوان ” موكب النور” و فيها أقول .
موكب النور هل ترى من بعيد = وجه مشتاقك الحزين العنيد
أنا طيف وخاطري عربي = لم يصافحك بعد موت الجدود
أنا شنقيط هل سمعت بوحي = من رمالي أو درة من عقودي ؟
جئتك اليوم زائرا و شعوري = باقة الفخر والوفا للعهود!
و قال الشاعر أحمدو بن عبد القادر في حق جمال: لو لم يعاجله الموتُ لكان لنا منه خليفة للشيخ محمد سالم بن عدود !!
و ختاما أشفع هذه القصة بقصيدة الشاعر الجواهري كاملة .
المتنبي: فتى الفتيان…
تحدى الموتَ واختزلَ الزمانا=فتىً لوّى من الزمنِ العِنانا
فتىً خبطَ الدُنى والناسَ طُراً=وآلى أن يكونَهما فكانا
أرابَ الجنَّ إنسٌ عبقريٌ=بوادي عَبقَرَ افترش الجنانا
تطوفُ الحورُ زِدْنَ بما تغنّى=وهنّ الفاتناتُ به افتتانا
دماً صاغَ الحروفَ مجنَّحاتٍ=رهافاً مشرئباتٍ حسانا
فُوَيقَ الشمسِ كنَّ له مداراً=وتحت الشمس كنَّ له مكانا
وآبَ كما اشتهى يشتطُّ آناً=فيعصفُ قاصفاً ويرِقُّ آنا
وفي حاليه يَسحَرنا هواهُ=فننسى عبر غمرتهِ هوانا
فتىً دوّى مع الفلكِ المدوّي=فقال كلاهما: إنّا كلانا!
فيا ابن الرافدين ونِعمَ فخرٌ=بأنّ فتى بني الدنيا فتانا
حَبَتْكَ النفسُ أعظمَ ما تحلّتْ=به نفسٌ مع المحنِ امتحانا
وذقتَ الطعمَ من نكباتِ دهرٍ=يَمُدُّ لكل مائدةٍ خُوانا
وجهّلكَ المخافةَ فرطٌ علمٍ=بكُنهِ حياةِ من طلبَ الأمانا
وأعطَتْكَ الرجولةُ خَصْلتَيْها=مع النوب: التمرّسَ والمَرانا
فكنتَ إذا انبرى لكَ عنفوانٌ=من الغمراتِ أفظعَ عنفوانا
وكنتَ كِفاءَ معمعةٍ طحونٍ=لأنّكَ كنتَ وحدَكَ مَعْمَعانا
أسَلتَ الروحَ في كَلِمٍ مَواتٍ=فجلّى غامضٌ منها وبانا
وطاوعَكَ العَصيُّ من المعاني=وكم غاوٍ ألحّ به فخانا
فكم من لفظةٍ عَفٍّ حَصانٍ=سحَرْتَ بلطفِها العَفَّ الحصانا
وسرُّ الخَلقِ ذهنٌ عبقريٌّ=أتى حَجَراً ففجّره بيانا
ويا ذا الدّولةِ الكبرى تعالتْ=وقد سحَقَ البلى دولاً كيانا
بحَسبِكَ أن تهزّ الكونَ فيها=فتستدعي جَنانَكَ واللسانا
وأن تُطري الشجاعةَ في شُجاعٍ=فتُعجِبَ حين يُعجبُكَ الجبانا
وأن تعلو بِدانٍ لا يُعَلّى=وأن تَهوي بِعالٍ لا يُدانى
فماذا تبتغي؟ أعلوَّ شأنٍ؟!=فمن ذا كان أرفعَ منكَ شانا؟!
ولما استيأسوا من مُستَميتٍ=فلا أرضاً أراح ولا ظِعانا
ولا أبقى على صَعَداتِ رمحٍ=ولا أعفى من الفَرسِ اللَّبانا
أناروا خلف رحْلِكَ عاوياتٍ=ضباعاً تستفزُّ الدّيدَبانا
فكنتَ الحتفَ يدركهُم عبيداً=وأرباباً إذا استوفى وحانا
تَمَنَّ أبا المحسَّد تَغْلُ فينا=مطامحنا وتستشري مُنانا
وضَوِّ لنا فقد تِهنا ضَياعاً=وخِبَّ بنا فقد شلّتْ خطانا
وأدْرِكْنا فقد طالتْ علينا=مقاييسٌ قصُرْنَ على سوانا
وقد غُصْنا فلا الأعماقُ منّا=ولا نَسَمٌ يهبُّ على ذرانا
وقد شمَخَتْ ملاعبنا علينا=وقد أكلَتْ أباطحُـنا رُبانا
مضَتْ حِقَبٌ وهنّ كما تراها=فقاقيعٌ ونحنُ كما ترانا
تمزَّقْنا دُوَيلاتٍ تلاقَتْ=بها الراياتُ ضَماً واحتضانا
تُرَقَّعُ رايةٌ منها بأخرى=وتستبقي أصائلُها الهجانا
وتكذِبُ حين تصطفقُ اعتناقاً=وتصدقُ حينَ تفترقُ اضطغانا
وتفخرُ أنّها ازدادتْ عِداداً=وتعلمُ أنها ازدادتْ هَوانا
حلَفْتُ أبا المحسَّد بالمثنّى=من الجبروتِ والغضَبِ المعانى
وبالسُّلَعِ النوافرِ في عُروقٍ=كأنّ بكلّ واحدةٍ سنانا
وبالوجهِ الذي صبَغَ الرزايا=ببسمةِ ساخر فقسا ولانا
بأنّك مُوقدُ الجمراتِ فينا=وإنْ كُسِيَتْ على رغم دخانا
وأنّك سوف تُبعَثُ من جديدٍ=تُنفِّضُ ما تلبَّد من كرانا
وأنّا أمةٌ خُلِقَتْ لتبقى=وأنتَ دليلُ بُقياها عَيانا
رحم الله السلف و بارك في الخلف.
نقلا عن صفحة العميد / بدن ولد سيدي .