إلى والِدي/عباس ابراهام
الزمان انفو _
بعد يوميْن سيحلّ عيد ميلادي. أوّد بهذه المناسبة أن أوجّه إليك كلمة، كلمة حاولت قدرَ ما أستطيع أنْ أفْتكّها من براثِن كافكا والمنفلوطي وإيليا أبو ماضي. كنتُ أودُّ أنْ أناجِيَ بعضِ الأنبياء. ولكنّني وجدتُ أنّ ذلك كان ليكون دناسة. ففي فنائي ودُنيوتي ما كُنتُ لأسمَح لنفسي بالاعتلاء على السماء. ولكنّ حياتي كانت، بعدّة طُرقٌ، تلك المطاردة المستحيلة للمعنى وللعلياء. وكانت دوماً طلباً للهمس في حضرة أولاد الجبلاوي.
أعتقِدُ أنّ حياتي بدأت عندما كُنتُ في أوخِر الخامِسة أو بداية السادِسة. كنتُ معك وأنتَ تنظِّم مكتبتك الكبيرة. سوف لن أسمَح لنفسي أنّنا، والزمان، سمحنا بضياع مكتبتِك. فأنا نفسي- كناقة مكلومة- سأشعُر بذلك الألم القارص مِراراً، عندما تخطّفت النسور مكتباتي. الزمن كان مغولياً وأنتَ كنتَ دوماً أيوبياً وإبراهيمياً وحنيفاً. وفوقَ كلِّ ذلك كنتَ محمّدِيّاً سمحتَ للطلقاء أنْ يُغادِروا حتّى دون وخزِ ضمير. كنتَ دوماً قانتاً، وكنتُ، أنا الولد “المرموح” الذي عدَا طول النهار، أستيقِظُ إليك في بهيم الليل طالباً جُرعة ماء. كانت كتُبك في مختلف الأشياء: ابن هشام والطبري والسيوطي وابن كثير والشوكاني وطه حسين وعلم النفس وابن شُهيد وابن بَلهيد وجواهر لال نهرو. كنتُ أعتقِد أنّك كنت تُبالغ في الإتقان والاعتناء بالتفاصِيل؛ ولكنّني كنتُ أنظُرِ إليك مشدوهاً. كنتَ على جبل الأولومب، وأنا كنتُ أتمشّى في الباثنيون، عائماً في لاهوتِه. ثمّ فجأة حدَثت ولادتي الثانيّة. فتماماً كما في لوحةِ “خلق آدم” لمايكل أنجلو مدَدت إليَ يدك. وما هو أسحَر أنّها كانت تحوي كِتاباً. كنتَ واقِفاً في عليائك على مسندة وأنا كنتُ متقزّماً في صِغري المتناهي في أدنى الأسفل. فامتدّت يدي، مرتعِشة، لأخذِ الكتاب، الذي ملّكتنيه، كِتابٌ ما زال ماثلاً، بكلّ نقائه وربّانيتِه في ذاكرتي. كان كتاباً في قَصَصِ الأنبياء. لعّلك عرضت كتابَك على مكتبتِك فلم تحمِله، أوْ لعلّ اليمَّ لفِظَه، فأعطيتنيه. أعتقد أن هذه أعظم مسؤولية حملتنيها إلى اليوم.
أنا هبةُ مزاجيْن: والِدتي العظيمة علّمتني النِّظام والذوق والمجالسة. وأنتَ أعطيْتني المعرِفة. كان الكِتاب أمانة عُرِضت على الجبال فلم تحملِها، والآن يتعيّن على هذا الصغير أنْ يحمِلها. كانت بالنسبة لي تلك بداية مسؤولية فكّ الرموز. ما زلتُ أحاوِل أنّ أتحمّل هذه المسؤوليّة وأنْ أحملَها كأطلَسٍ يرفِدُ العالم فوقَ كتِفيه. على مدى السنين واصَلت وحيَك إلي بتنميّة الحدوس فيَ؛ تحصّل لي السِرّْ الأكبر: الإدمان بالكاغط والتحشيش بالحروف. وكنتُ أعودُ إليك باكياً من انتهاء الكُتب وعدم وجود شيء أقرأه. تنقّلتُ كالمحموم بين قصص الأطفال إلى عالم الكِبار: الأدب الجاهِلي فالتاريخ الإسلامي والعالَمي. كان ساعِدي يشتدُّ وكنتُ بوهيمياً أبني مكتبتي الصغيرة كُتيِّباً كُتيِّباً إلى جانب مكتبتِك، أطاوِل مكتبتَك وسورَك. ولاحِقاً سأغضَب من فرويد وكافكا عندما تحدّثا عن الأب والإبن. علاقة الأبناء بالآباء ليست أوديبية أو مستحيلة، بل هي علاقة اقتفائية. إنها أنشودة الرّعاة.
كنتُ في الزوال أجلس قربك، تماماً كما في التصريف: أنا تقرأ وأنت أقرأ؛ ونحنُ نقرأ. متخاطِريْن. وكنتُ أسرُد لك في الليل من الذاكِرة ما قرأته في النهار. لم تكن يوماً ملولاً من بداهات الأطفال. بعد قراءة القرآن، كنتُ وأخواتي نقرأ معك في الصباح المنفلوطي والمازِني وإيليا أبو ماضي ونضحكُ على “نوادِر جحا الكُبرى” وأشعَب بن جبيْر.
تعلّمتُ أن أسرَح وحيداً وفي القطيع. فكان لي دونكَم روبن هود وعنترة بن شدّاد وغرندايزر ومارك تواين والفرسان الثلاثة ورجل المستحيل. وكان لي معكم الصعاليك، يعدون في البراري أسرَع من الخيول، والحريري والهمذاني، بسيمفونياتِهم الرواقيّة، والمنفلوطي، مكتئبًا في جلال، والمازني، ساخرِاً من جَدّتِه، وطه حسين رتيباً في هامش السيرة. كان حزن المنفلوطي آسِراً. فرنسِيتُه، إنْ صحّت أصلاً، كانت في الثنايا. وكان يقمعُها بقدر ما كان يستظهِرُ بها، فتعلّمنا منه الإظهار والإبطان. وفوق كلّ ذلك التحكّم. في الصباّح كنا أيضاً نقرأ عليك جبران وإيليا أبو ماضي. ربّما كانت صورةُ أبي ماضي وقُبعّته ونوعية ورق الكِتاب القديم ما جعلَه حزيناً، رغم دعوتِه للبسمة. تعلّمتُ أنّ كلّ كلِمة تفتَحٌ معنىً ومقاماً في العالم. وستصبِحُ القراءة منظاري للأشياء. كان هذا مرَضاً، لأنّي سأهرُع إلى القراءة كلّما انهزمت وكلّما اكتأبت وكلمّا توحّدتُ. فكلّ قروح الحياة تُلحَسُ بالحروف. ذلك هو سرّ الحرف. أصبح الحرف وطناً. وتعلّمتُ حبّ هذا التعالي في “وطن النجوم”:
زَعَمُوا سلَوتَكَ، ليتهُم *** نَسبُوا إليّ الممكنا
فالمرء قد ينسى المسيء ** المفترى، والمحسنا
و الخَمْرَ والحَسْناءَ *** والوَتر المرنّح والغنا
و مَرارةَ الفقر المذلّ *** بَلْ ، و لذّات الغِنَى
لكنّه مهْمَا سَلاَ *** هيهات يسلو الموْطِنا
والِدي، وأنتَ مستمِعٌ لم يوجد له مثيل وقارئٌ بين السطور، أوّد أنْ أقول لك وأنا أكبُر، مستعيناً على الحياة والاغتراب بوطني الذي أهديتَنيه وحملتُه معي أنّني:
أنا ذلكَ الولَدُ الذِّي *** دُنْياهُ كانَتْ ها هُنا
أنا مِنْ مِيَاهِكَ قَطرةٌ *** فاضَتْ جَداولَ من سَنا
أنا من ترابك ذرة *** مَاجَتْ مواكب مِنْ مُنى
أنا مِنْ طُيورِك بُلبُلٌ *** غَنّى بِمَجْدِكَ فاغْتِــنى
أبو العباس
توسون
22 سبتمبَر 2019