نساء بوكوفسكي: حب واحتقار وكتابة
الزمان انفو _
بوكوفسكي: كاتب متمرد على التقاليد الأدبية والتقاليد الاجتماعية معا
اشتهر الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 – 1994) بثيمات أساسية في حياته مثل فعل الكتابة وسباق الخيل والتشرد والوحدة والكحول والكدح في العمل، تنقّل بين وظائف عدة من غاسل صحون في مطعم، إلى سائق شاحنة، إلى ساعي بريد، إلى موظف مرآب، إلى موظف مصعد في فندق، إلى عامل في ملحمة، غير أن الثيمة الأكثر سطوعا وإثارة للاهتمام، كانت علاقته بالنساء، بقي لها وقع خاص، يظهر ذلك من خلال بعض رواياته ومقابلاته وسيرته الشخصية.
تزوج بوكوفسكي أكثر من مرة ولكن الحياة الزوجية كانت قصيرة. كما عاشر الكثير من النساء، وكانت تلك العشرة تمتد أحيانا لفترة وجيزة وأحيانا تكون عابرة لا تتجاوز ليلة أو بضع ليال. والجنس عنده هو حالة من حالات الدفاع عن النفس في وجه الموت، إذ “يركل الموت في استه ساعة الغناء”، و”الجنس لا يشكل وحده مادة للحب” بحسب الشاعرة الفلسطينية ريم غنايم في تقديمها لترجمة رواية “مكتب البريد” لبوكوفسكي، و”من يطالع قصصه ورواياته يلاحظ أنه رجل عادي في علاقاته الجنسية وأقل.فهو غير معصوم ويعاني أحيانا من انعدام الأمن الجنسي، ويظهر في أحيان كثيرة رجلا عاجزا غيورا تماما كما كان الحال في حياته الشخصية”.
ووصف أحد النقاد قصص خيال بوكوفسكي بأنها “وصف مفصل لبعض المحرمات المختصة بالذكر: أعزب غير مأهول، غير كفء، غير اجتماعي، وحر تماما”، صورة حاول أن يرقى إليها في بعض قراءاته الشعرية العامة أو سلوكه الفظ.
سيصاب بوكوفسكي بمرض حب الشباب من النوع المستعصي، ويشوه وجهه إلى الأبد ويطبعه طيلة الحياة. الأمر الذي عقّد علاقاته مع الآخرين، وضاعف من شعوره بالدونية خاصة أمام الفتيات اللواتي كن دائما ينفرن من بشاعة وجهه، ولا يترددن في مصارحته بذلك. وعلى هذا كانت علاقة بوكوفسكي بالنساء ملتبسة، ومتناقضة بين السخرية والحب والاحتقار والذكورية الأميركية والفظاظة والمزاج وحتى العنف، إذ لم يتردد في ركل خطيبته شاتما إيّاها أمام الجمهور، وذات مرة سألته إحدى القنوات البلجيكية “لماذا تسرف في الشراب”.
ينظر إلى الكاميرا وقنينة البيرة في يده قائلا “أزهار الحديقة كانت من نصيب الجميع، وكان قدري الأعشاب الضارة” (يقصد النساء)، قبل أن يردف “أشرب لأتحملهن”. وبالرغم من تناول بوكوفسكي للشخصيات النسائية بطريقة حاسمة عنيفة، وأحيانا تبعث على الإحساس بأنه كاره للنساء، لم يجد في الاتصال الجنسي بالمرأة تعويضا عن الحب. فبطله هنري تشيناسكي (بطل رواية مكتب البريد) لم يهزمه شيء بقدر الحب. وهو موضوع عالجه بوكوفسكي بكثير من الرّقة والطرافة أيضا. يقول أحد نقاده لقد كان عاشقا كبيرا، قدره أن يكتب عن الحبّ كأي خاسر كبير في حروبه. الدليل؟ خلال لقاء في إحدى جامعات كاليفورنيا، التقى مطولا شعراء آخرين، واطلع على أعمالهم لينتهي إلى “أنّني لا أرى حولي كُتّابا لأنكم يا أصدقائي، لا تعرفون ما هو الحب”.
بوكوفسكي يبذل أقصى جهده لفهم ما يجري من حوله
شرع بوكوفسكي السكير والمكبوت والفظ في إقامة علاقات مع عدد من النساء، اللواتي يتحوّلن إلى كلمات في رواياته وقصائده وقصصه القصيرة، وحتى أنه يصوّر معهن بطريقة ماجنة، لم تكن النساء اللواتي دخلن حياة بوكوفسكي يعرفن أنه كان يستخدمهن كمادة لرواياته، فهو لم يطلب الإذن للكتابة عن حياتهن الجنسية البورنوغرافية معه. أول علاقة أقامها مع “عاهرة بثلاثمئة دولار” في فيلادلفيا أثارته إلى درجة أنه كسر عمود السرير.
وفي إحدى جولاته الليلية الكحولية سيلتقي بوكوفسكي امرأة تكبره بعشر سنوات اسمها جين كوني بيكير، تعيش حياة أكثر فوضوية وتعاسة منه وسيكون ذلك اللقاء بداية عِشْرة دامت أكثر من عشر سنوات، وكان ما إن يفارقها حتى تكون في سرير رجل آخر. جين بيكر مدمنة كحول، وفتاة استعراض سابقة التقت شبهها. كانا ينتقلان معا من نُزُل إلى آخر، ودائما يطردان بسبب الشجار والسكر، وغالبا لعدم دفع الإيجار، معها خَبِر التشرّد والضياع. وقد تولى بوكوفسكي أعمالا عديدة ولكنه كان في أغلب الأوقات يعاني من آثار السكر إلى درجة أنه يعجز عن الوصول إلى مقر عمله، ولذلك نادرا ما كانت تلك الوظائف تدوم طويلا. أحيانا كانت جين تعمل طابعة على الآلة الكاتبة مع نتائج مشابهة. وعلاقة بوكوفسكي بجين والفترة التي عاش خلالها في الفنادق الرخيصة استخدمها كأساس لكتابه “زير الحانات” الذي تحوّل لاحقا إلى فيلم سينمائي.
وبعد وفاة جين بيكر بكى بوكوفسكي كطفل. يكتب عنها بألف طريقة، حوّل بوكوفسكي الدمار داخله إلى سلسلة من القصائد والقصص التي تنعي وفاتها. يسمّيها “بيتي” في رواية “مكتب البريد”، زلورا في “فاكتوتوم”. كتب الكثير من القصائد عنها. وبعد عقود، ظلّ يتحدّث عنها بالألم ذاته، وخصوصا في الشريط الوثائقي “شرائط بوكوفسكي” (1987). وكان قد تزوج عام 1957 الشاعرة باربرا فراي، لكنهما انفصلا عام 1959. إثرها، عاد بوكوفسكي إلى تعاطي الكحول، وواصل كتابة الشعر.
عام 1970 يلتقي بوكوفسكي ليندا كينغ، ويقضي معها فترة طويلة نسبيا مليئة بالاضطرابات والجنون وبداية الشهرة، كانت ليندا شاعرة ونحاتة، يتألق الاثنان في عمل مسرحي، عرض لليلة واحدة فقط، في لوس أنجليس، سيكتب بوكوفسكي ليندا عام 1972 “لقد كنّا في كاليفورنيا وكنت في الحب، في الحب اللازوردي، إلهي، ألهتي، أحبك وأحب ثلاجتك، وبينما نحن نتجاذب ونتصارع، يحدّق بنا ذلك الرأس المنحوت وعلى وجهه ابتسامة صغيرة، ابتسامة الحب الشعريّة الساخرة وتحترق. أريدكِ، أريدكِ، أريدكِ، أنتِ أنتِ أنتِ أنتِ أنتِ أنتِ!”
صرخة الفنان المتمرد في عالم نسوي طالما كان جاذبا له ومنجذبا فيه
رغم الغرام الشعري، يتعامل بوكوفسكي ببرودة وربما بكراهية للنساء في بعض المرات، حين تخبره ليندا كينغ بأنّها أجهضت، لا يجد سوى إجابتها بأنّه دعا باميلا إلى بيته من أجل ممارسة الحب وشرب الشمبانيا. كانت باميلا منفّذة تسجيلات، بشعر أحمر، تبلغ الثالثة والعشرين من عمرها، خصص لها الشاعر العاشق مجموعة شعرية بعنوان (Scarlet)، وهذه المجموعة شكل من الإشادة الشخصية والإعجاب بالمحبوبة. كانت صهباء، وبعدم اكتراثها بأدبه وإدمانها المخدرات شكلت عاصفة أخرى في حياته. عشق شعرها الأحمر الناري الذي ألهمه بعض النصوص. ولم تظهر له مشاعرها، وكان هذا يغضبه.
عام 1976، يلتقي بليندا لي بيغل (تصغره بـ25 عاما)، صاحبة مطعم يقدّم الغذاء الصحي، وهي ممثلة طموحة أيضا. بعد سنتين انتقل بوكوفسكي من منطقة شرق هوليوود، حيث عاش أغلب فترات حياته، إلى تجمّع جديد في مدينة سان بيدرو، إحدى المقاطعات التابعة للوس أنجليس. لحقت به بيغل إلى هناك ليقيما معا لمدة سنتين في علاقة شبه زوجية. وفي منتصف السبيعنات، انطلق في حمى كتابة روايته “نساء” التي ترجمها شارل شهوان حديثا إلى العربية. رواية بورنوغرافية شبه أوتوـ بيوغرافية تسرد علاقاته مع النساء الطيبات والغاضبات، اللواتي كن يضعنه في مواقف حرجة تارة، وينقذنه في أخرى.
يبدأ روايته “كنت في الخمسين ومضت أربع سنوات لم أتقاسم السرير مع امرأة، لم يكن لديّ صديقات، أنظر إلى النساء من دون توق أو جدوى”. إنّها علاقته العجيبة مع المرأة، لقد كان بوكوفسكي ينتمي إلى زمن مختلف، ولكن بينما يبذل أقصى جهده لفهم ما يجري من حوله، يعلم بوكوفسكي كيف يبرِز الفكاهة ويحسن استخدامها، إذ يعالج وجهة نظر الذَكَر الأميركي التقليدي من المرأة ومن الجنس بالكثير من السخرية، لكنّ ذلك لم يكن كافيا لمنع تعرّض الكتاب لانتقاد أنصار حقوق المرأة، وكذلك العديد من النساء اللاتي ذُكرن فيه، وبالتحديد ليندا كينغ التي دهشت من الصورة التي رسمها لها. وعندما انتهى بوكوفسكي من كتابته كتب إلى صديقه أ.د. وينانز يقول “قد أتعرّض للقتل بسبب هذا الكتاب. إنه مكتوب بأسلوب متذبذب بين الكوميديا الراقية والسوقية وأبدو فيها أسوأ من أيّ شخص، لكنهم لن يفكروا إلا في الطريقة التي رسمتهم بها”. إلا أنه يقول “إنه كتاب يضجّ بالمرح الفاقع”.
عن العربي