لبنان: الثورة الأجمل والحلم العنيد
الزمان انفو _ كتب عبدالحليم قنديل: هي الثورة الأجمل عربيا بامتياز، لكنها تهيم شغفا بحلم عنيد، لا يبدو قابلا للتحقق في يسر، ولا تبدو الطرق سالكة إليه، فقد تدفق اللبنانيون واللبنانيات إلى الشوارع والميادين، في المدن الكبرى، كما في القرى البعيدة، في الساحل كما في الجبل، وفي مظاهرات كرنفالية عفية عارمة، شارك فيها أكثر من مليون لبناني، من أربعة ملايين هم جملة السكان، وبمطالب تدرجت صعودا، من إسقاط الحكومة إلى إسقاط النظام الطائفي برمته.
وفي ثورة لبنان العظمى، الجارية حتى ساعة كتابة هذه السطور، بدا الفرح اللبناني في ذروة البهاء، رغم أن الأسباب المباشرة للثورة، تنطوى على وجع عظيم، لكن الشعب اللبناني المحب العاشق للحرية والحياة، أضفى روحه الجميلة الرائقة على حالة الغضب، وازدانت الميادين بناسها، من طرابلس في الشمال، إلى بيروت في الوسط، إلى صيدا في الجنوب، وفى البقاع وبعلبك والهرمل وعكار، وفى كل زاوية وناحية من البلد الصغير الفاتن، في كل المناطق، بدا الشعب اللبناني موحد الوجدان على نحو لم يسبق له نظير، فلا مسلم ولا مسيحي، ولا ماروني ولا أرثوذكسي، ولا سني ولا شيعي ولا درزي، بدت كل هذه التصنيفات المعتادة بلا معنى وبلا أثر، وبدا التعريف الوحيد المقبول، هو أنه لبناني، أو أنها لبنانية وكفى، وكأن لبنان خلق خلقا جديدا، تدافعت فيه مواكب السعادة الغامرة بالتوحيد الذي بدا مستحيلا، وتحولت «طرابلس»، المدينة ذات الغالبية السنية، التي وصفت ظلما بأنها «قندهار» لبنان، في إشارة خبيثة إلى «قندهار» عاصمة حركة طالبان الأفغانية، بدت طرابلس كأنها تولد من جديد، وتنتصر على آلام التهميش والإفقار والإهمال والوصمة الإرهابية، وتتهيأ لمواسم بهجة، لم تعرفها من زمن طويل، نافست بها «بيروت» عاصمة الفرح، وبدت الرقصات و»الدي جي» والأغاني وجمال اللبنانيات والمرح الساحر، كأنها العناوين الفضلى لثورة بديعة، جرفت في طريقها كل التنازلات الحكومية التي قدمت لإرضائها، ومضت في سبيل التصميم النهائي على استعادة الحق كاملا، ليس فقط باستعادة المال المسروق بعشرات المليارات من الدولارات، بل باستعادة لبنان المسروقة هويته منذ تاريخ تأسيسه الأحدث قبل أكثر من سبعين سنة.
وفي ثورة لبنان المتألقة، ما هو عربي عام، وما هو لبنانى خاص، فهي حلقة جديدة من دراما صحوة الشعوب العربية، التي تدافعت إلى الآن على موجتين، موجة 2011، التي دخلت بعض أقطارها في مآس مهلكة، ثم موجة 2019، التي بدا أنها استوعبت دروسا غابت عن الموجة الأولى، فليس فيها أي مظاهر لضباب اليمين الديني، أو المنسوب زورا للدين والتدين، وجاءت موجة 2019، في السودان والجزائر والعراق، ولبنان أخيرا وليس آخرا، وقد بدت مدنية تماما، صلبها حق المواطنة المتساوية، وحق العيش بكرامة، ومحو التسلط على الثروات والمصائر، وكانت شراراتها الأولى متشابهة، فقد بلغ النهب والفساد والإفقار ذروته، وفي لبنان، ظهرت ملامح إضافية وخصوصية، تجاوزت دواعي استبداد وفساد حاكم بعينه، وعصابة تحيطه، بل كانت الطبقة الحاكمة كلها هي المتهم الأول، وهي طبقة واسعة النطاق نسبيا، شملت كل الأحزاب وأمراء الطوائف، وقد ظهر هزالها السياسي أمام ثورة الشعب اللبناني، الذي صبر على الناهبين المتسلطين طويلا، ثم نفد صبره مع جفاف الموارد وعسر المعايش، فقد بلغت نسبة البطالة في لبنان نحو 35%، زادت إلى ما يقارب الأربعين في المئة بين خريجي الجامعات والمدارس، وتدافعت أزمات الوقود وانهيار سعر الليرة اللبنانية، بعد أن ظلت الليرة صامدة عبر ثلاثة عقود مضت، وثابتة عند سعر 1500 ليرة مقابل الدولارالواحد، إضافة لأزمات غياب الكهرباء وندرة المياه النقية وحرائق الغابات والنفايات، وكلها متاعب مميتة متصلة، زادها بؤسا تراكم ديون لبنان الخارجية، ووصولها إلى ما يزيد على 86 مليار دولار، وتراجع تصنيف اقتصاد لبنان الريعي الهش إلى CCC، مع مضاعفات التأثير السلبي للحرب السورية، وتوقف المعونات الخليجية، السعودية بالذات، على سبيل تكثيف الضغوط، ومعاقبة شعب لبنان كله، ثأرا من مقاومة حزب الله، وضغط العقوبات الأمريكية على النظام المصرفي، بدعوى مواجهة «حزب الله» المعروف بصلاته العضوية مع النظام الإيراني.