تعزية للسجين رقم 760
أعرف أنك عشت من أصناف العذاب والآلام والأحزان الشيء الكثير.. ولكني أعرف أيضا بأن حزنك بعد فاجعة الخميس لن يكون كأي حزن..
فأن تعيش لما يزيد على عقد من الزمن داخل أسوأ سجن في العالم، فذلك أمر مؤلم، ولكن فاجعة الخميس ستكون بالنسبة لك أكثر إيلاما..
أن يقتادوك من الحمام بعجرفة وأنت صائم، ذات يوم حزين من أيام نوفمبر من العام 2001، وأن يذهبوا بك إلى السجن ليذيقوك آخر ما “ابتدعوا” من أصناف العذاب، فذاك أمر مؤلم، ولكن فاجعة الخميس ستكون بالنسبة لك أكثر إيلاما..
أن يحرموك من النوم، وأن يشغلوا موسيقي صاخبة داخل غرفتك المنعزلة، وأن ينتزعوا ثيابك فيتركوك عاريا أمام جنديات بائسات وتائهات، وأن يغطوا عينيك ثم يرمونك في زورق ليوهموك بأنهم سيرمونك لكلاب البحر، وذلك لكي يجبروك على الاعتراف بفعل لم ترتكبه، فتلك كلها أمور مخيفة ومؤلمة، ولكن فاجعة الخميس ستكون بالنسبة لك أكثر إيلاما..
أن يتخلى عنك الأهل والأصدقاء، أن تتجاهلك سلطات بلدك، أن ينساك الجميع، وأن تبخل عليك الصحف والمواقع التي تكتب عن كل شيء بخبر يُذكر الناس بمعاناتك فذلك أمر مؤلم، ولكن فاجعة الخميس ستكون بالنسبة لك أكثر إيلاما..
حتى فاجعة الخميس بخلنا عليها بخبر نعي من سطر واجد في أغلب صحفنا ومواقعنا !!
فلتعذرنا أيها السجين رقم 760 فما نحن إلا نحن، فالذي مات يوم الخميس لم يكن وجيها في قبيلة، ولم يكن ناشطا سياسيا، ولم يكن رجل أعمال حتى تنعاه صحفنا ومواقعنا، وحتى يتسابق الكتاب والشعراء في نعيه..
فيا أيها السجين رقم 760 سامحنا إن نسيناك لما يزيد من عقد من الزمن، فما نحن إلا نحن..
وسامح أولياء أمورنا الذين سلموك للظلمة، وسامح أولياء أمورنا الذي جاؤوا من بعد ذلك وتجاهلوا معاناتك، وبخلوا حتى بكتابة طلب خطي يطالبوا فيه بتسليمك كما تسلمت دول أخرى أبناءها الذين سُجنوا ظلما وعدوانا..
وسامحنا نحن عامة الناس إذا لم نذرف أية دمعة حزن ذات خميس حزين..
وسامحنا إن بخلنا عليك في زنزانتك ببرقية تعزية..
سامحنا أيها السجين رقم 760، سامحنا لأنه ليس أمامك إلا أن تسامحنا، فأنت تعودت دائما على أن تسامح، ونحن تعودنا دائما على أن نقصر في حق من كان علينا أن لا نقصر في حقه، وأن نسارع في مواساة من لا يتوقع منا أن نواسيه.
سامحنا أيها السجين رقم 760 فما نحن إلا نحن..
وسامحنا فنحن لن نكون إلا نحن..
سامحنا… أرجوك أن تسامحنا..
ومن قبل أن تسامحنا فعليك أن تعلم بأني ما كتبت هذه التعزية لأعزيك أصلا، فلا أعتقد بأنك وأنت في زنزانتك البعيدة تنتظر منا شيئا لكثرة ما خذلناك.
أحسبك وأنت الحافظ لكتاب الله، بأنك قد فوضت أمرك لله، وبأنك تُكثر في زنزانتك من ترديد الآية 44 من غافر ” وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ”.
لم أكتب لك هذه التعزية لأعزيك أنت، وإنما كتبتها لأعزي نفسي، ولأعزي قومي، في موت كل القيم الفاضلة في أنفسنا، فموت تلك القيم هو الذي جعلنا ننساك في زنزانتك، وهو الذي جعلنا أيضا نبخل بدمعة حزن ذات خميس حزين رحلت فيه والدتك الفاضلة الصابرة تلك الوالدة التي تحبها كثيرا، والتي رحلت من قبل أن تحتضنها بعد ما يزيد على عقد من الزمن من الفراق الإجباري.
لم تتصل بها منذ أن اقتادوك إلى سجنهم السيئ الصيت إلا بعد سنوات طويلة وكئيبة، ومن خلال مكالمة قصيرة نظمها الصليب الأحمر، ولم تستمر إلا لدقائق.
أعرف بأنك تحب والدتك حبا عظيما، فلذلك فإن حزنك وألمك لفاجعة الخميس لن يكون كأي حزن أو كأي ألم رغم أنك ومنذ العام 2001 قد ذقت كل أصناف الأحزان وشتى أنواع الألم، فلم تكن لتتركك الآلام خلال كل هذه المدة الطويلة إلا لتفسح مكانها لآلام أشد وأقسى، ولم تكن لتهجرك الأحزان في زنزانتك إلا لتترك مستقرها لحزن أفظع.
أعرف بأنك تحب والدتك حبا عظيما، ألست أنت الذي كدت أن تلغي منحتك الدراسية، وأن تلغي سفرك إلى ألمانيا في العام 1988، لأن والدتك في ذلك اليوم كانت قد ذرفت دمعا لحظة وداعك.
كم هو مؤلم للابن أن تموت والدته وهي بعيدة عنه، ويزداد الألم قسوة وفظاعة عندما يكون الابن هو أنت بالذات، وعندما تكون الوالدة هي والدتك أنت بالذات.
رحم الله السيدة الفاضلة والصابرة مريم بنت الوديعة وأسكنها فسيح جناته، وفرج الله عن السجين رقم 760 في سجن “غونتانامو” المهندس محمدو ولد صلاحي، وحفظ الله موريتانيا.
محمد الأمين ولد الفاضل