قصاصات ابروكسل4
الزمان انفو _ كتب محمدالأمين محمودي:
الرابعة
…يبدو ان الشرطي ختم على الجواز وانا في طريقي الى الطائرة فعلا، اسير كالنائم على طريقة الأستاذ مختار الاسكندراني…ربما لايعرف الرجل الا امثالي من سكان الشاشة الصغيرة غير الملونة..خطوت خطواتي الأخيرة في افريقيا ووجدتني في الطائرة بين وجوه افريقية واوروبية،للمرة الثانية اسافر جوا بعد رحلة الطفولة الى الجزائر،خرجت من الطائرة في مطار “اورلي” فجر الأول من مايو فتلقفني نسيم بارد اتذكره جيدا،اذ كنت احسه بعد يوم من العدو والركض حين ادخل رأسي في ثلاجة تبرد الهواء فقط، ابحث في رفوفها عن بندورة منسية او لحسة من بقية شيئ..،منعش هو ذلك النسيم، انهم يعيشون هنا في الجانب السفلي من ثلاجة طيبة،حملت حقيبتي التي ملأنها بالبالي او “افوكوجاي” اشتريته من سوق “كولوبان” وانا اسير في المطار لاحظت ان لبسي بدأ يفقد القه وكأنهم يقولون: لم نرسله اليكم الا لشعورنا بأنه بات مختلفا في الوانه عن اثوابنا..حقا كنت انظر الى الجاكيت فألاحظ ان لونه اختفى كأنه اصيب بأنيميا في الجو.مرت الاجراءات طبيعية وخرجت، لكن لا أثر لصديقي الذي وعد باستقبالي..خرجت على عجل حتى ادخن اول سيجارة خارج السمراء وانا انفث الدخان قررت ان استخدم سيارة اجرة للوصول الى مدينة صديقي خاصة ان لدي العنوان.
ركبت مع شاب جزائري اعطيته الورقة وجلست في المقاعد الخلفية كما يفعلون في الأفلام،تحرك قليلا وقطع الجسر الدوار فطلبته هاتفه لأتصل على صديقي فقبل مسرورا..وحين اتصلت بالأستاذ احمدسالم وأخبرته امرني بالاستدارة قائلا: لابد انك مجنون!!!
لم افهم لكنني طلبت منه الرجوع لاصطحاب صديقي..وجدته واقفا حيث محطة التاكسيات وصب جام غضبه على الرجل متهما اياه باستغلال غبائي فليس من المعقول مثلا ان تسافر من باريس الى اورليان في اجرة بحاسبة الا اذا كنت مختلا…وفعلا كنت لأدفع مليون اوقبة على الأقل في حين ان في جيبي ورقتين من فائة مائة اورو العملة الجديدة يومها..ويحسبونها بالفرنك بالتقدير..عوضه صديقي عن الخرجة والمهاتفة وركبنا القطار الى محطة بباريس، وهناك ونحن ننتظر القطار اذا بمجموعة من الأفارقة والمغاربيين يجرون باتجاهنا فصرخت على صديقي:اران افرغن،حيث ان فرنسا شهدت اعمال عنف خلال الدور الأول من الانتخابات..ضحك:يامرابط لكور والعرب هم اهلك هنا وكلكم اجانب وعدوكم هم عناصر الجبهة الوطنية..يبدو انهم خرجوا من قطار لركوب آخر متجهين الى مدينة سينظمون فيها نشاطا مناهضا لجماعة “لوبين”..قال احدهم وهو يتأمل هندامي وسحنتي والحقيبة: اياك ان تنزل في محطة كذا فثمة اكبر تجمع منهم وانت قادم من “لبلاد” لتوك..شكرته.
في القطار الوجوه نضرة مستبشرة رغم صراخ المجموعة المتظاهرة ورغم جو فرنسا الملبد بغيوم من الكراهية واللؤم والضغائن..شاب ابيض وفتاة شقراء يقفان ملتصقين منذ محطة باريس كأنهما وهما يهمسان لبعضهما يمارسان طقسا دينيا او شعيرة لاتحتمل الفوات..بعد المحطة الثانية او الثالثة بقيت وصديقي لوحدنا في المقصورة،نظرت عن يميني فرأيت المروج الخضراء وعن شمالي نفس المشهد وبألوان عجيبة اما النوافذ فتمنحك رؤية رائعة لم تستطع منعها زخات المطر والقطر التي تتحول بالتدفئة الى رذاذ ممتع لايحجب الرؤية.قلت لصديقي:حقا انتم تعيشون في الجنة..قال:يخي ذ نسبي كامل..
بعد ليلة في “اورليان” في بيت صديقي احمد سالم نبأت الى ابروكسيل، كان الرفيق الشريف ولد الشيخ قد اتصل مرات يستعجل مقدمي..ركبت القطار السريع اجر حقيبة البالي السنغالي وافكر في مستقبل لم يتضح منه الا انني احس الأمان وابحث عن رزق يجنبني البحث عن موطئ قدم في الطبقة الظالمة التي تحكم بلدي منذ الأزل.
استقبلني الشريف في محطة “ميدي” ببروكسيل ومن هناك ركبنا القطار الى “لالوفيير” وهي بلدة من بلدات بلجيكا الفرنسية، واغلب سكانها من الايطاليين مع المغاربة بنسبة اقل..مسكن صديقي في الطابق الأرضي ويطل مباشرة على “ري هاموار “الشارع الذي يمر به كل “الذئاب” (اسم سكان البلدة)،دخلت وبعد شرب شاي سريع قلت له:حقيقة بلجيكا ليست بالبرودة التي يتحدثون عنها..ربما لم انتبه للتدفئة لكن بعد ساعات قلت له ان اعطني غطاء، قال: عندنا الملاءات فقط اما الأغطية الصوفية فلانستخدمها..فعلا احسست بمفاصلي ترتعد وكأنني متكئ على كومة جليد او ثلج..يبدو انه ضبط التدفئة مع معاناتي وذهبت في اغفاءة اتضح انها نوم عميق…استيقظت صباحا فلم اجد اثرا لصديقي،اعددت لنفسي كأس قهوة وتناولت بعض الدونات وخرجت لأدخن والقي نظرة على الشارع،ابنية متراصة باحكام وبجمال..الناس يسيرون بنظام وهدوء وبعد دقيقتين من مراقبتهم ستكتشف ان عليك الابتسام متى التقت عيناك بعيني اي مار..لاحظت وجود ثلاجة كتب عليها “الثلاجة في حالة جيدة يمكنكم اخذها الى بيتكم”..طلبت من احد المارة مساعدتي لادخالها في البيت..كنت منتشيا فقد حصلت على ثلاجة في اول يوم من اقامتي البلجيكية..ثلاجة جديدة لم يخرج من احشائها ذلك القطن الذي كنا نحكه اطفالا على رقاب بعضنا..سأرسلها في حاوية..كم هي رائعة هذه البلاد التي تمنح الأجنبي ثلاجة في اول خرجة له.
عاد صديقي في المساء فوجد انني اعددت الأرز باللحم ونظفت المطبخ وطال انتظاري فتناولت منه ثم شربت شايا قبل ان امنح نفسي حماما ساخنا وغيرت ثيابي تماما كما تفعل الشغالة قبل ان تطلب اجرة التاكسي..
ماهذا البلاء؟ قال صديقي وهو ينظر الى الثلاجة الطويلة..حكيت له قصتي فرد وكأنني اخطأت: هذه الثلاجة ستبقى هنا لشهر قبل ان يسمح لنا باخراجها ثانية..
قلت انا اتحمل وسأنقلها ذلك اليوم
قال:اقصد باخراجها اي اعادتها الى مكانها فبعد مدة ستصادف غرف نوم وصالونات وثلاجات وتلفزيونات الى آخره ولن تأخذ اي غرض من هذه الأغراض رغم انها هبة لعابري السبيل..فقط انتظر..اذكر انني حين خرجت من بلجيكا كانت الثلاجة قابعة في مكانها اذ اتخذتها دولابا اضع فيه الأحذية وبعض الأغراض الأخرى فبعد مدة سيرحل صديقي لأحل محله كمؤجر للشقة الصغيرة..
كان التحدي الأكبر هو التحضير الجيد للمقابلة التي سأجريها في وزارة الداخلية والتي يفترض ان تغير حياتي او ان تتركها كما كانت.
-يتواصل
*الصورة من بلدة لالوفيير
*ليعذرني من لاحظوا اختفاءهم من قائمة اصدقائي ففي الانتظار طيبون راسلوني على الخاص ويرغبون في التفاعل عكس من سأحذفهم.