من قصاصات بروكسل
الزمان انفو _ كتب محمد الأمين محمودي
السابعة
يوشك الدفء على الانتهاء..أوراق الخريف تساقط لتبث على ارضية الساحة الكبيرة كزراب فارسية ملونة. ابروكسيل تستعد لتركيب دولاب الهواء الأكبر ربما في العالم..بدأت السماء ترسل اشارات البرد وهاهي المفاصل تستجيب خاصة حين نلهث وراء المكنسة كمتثلج مبتدئ..بعد ايام اصبح المسار واضحا متكررا يكاد يكون مملا..نفدت النقود بسبب مهاتفة انواكشوط اذ لامعنى لأن تسافر الى اوروبا دون ان تتحدث الى البلدة التي تعرف التلفون لأول مرة او الى اخلائك في االمراهقة للحديث عن روعة المكان وعن مغامرات متخيلة مع شقراوات اوروبيات في ملاه ليلية وعن سيارتك الفارهة وكيف يشرب الناس الخمور بحضرتك.والنقود الكثيرة التي حولتها الى ذويك.ستحرك خواطرهم بهذه الحكايا وسيطمحون للذهاب وستعود انت بعد المكالمة مهيض الجناح منكسر الخاطر الى سريرك في العنبر كأنك سجين..تعلمت من المركز ان اكنس طابقا كاملا او ارضية شاسعة لأحصل على ثمن علبة تدخين ثم عرفت لاحقا ان التبغ ارخص فكنت اقضي يومي في لف اللفافة ونفخها بالتبغ حتى تلتبس في العملية والمنتوج مع لفافة المخدرات..انه التباس ممتع لأن المغاربي المار من امامك قد يهبك احتراما ظنا منه انها لفافة “كانابيس”،اجعل عينيك تغيمان قليلا ثم رد التحية بلسان واه ثقيل وسيحترمك الغريب الذي ركب البحر ذات ليال ونُهُر، تاركا مشاعره وعواطفه على شاطئ مهجور.
جميع من يتحركون في الرواق الطويل او الساحة المفتوحة على السماء يعرفون بعضهم،.وروتينهم لايتغير تماما كما اصبحت بعد ايام من الاقامة، فبعد الفطور امر على البدين صاحب المكتبة..”الحياة والقدس العربي” جريدتان استلمهما ساخنتين كما يقال ثم افتح بعض الكتب والمجلات الفرتسية قبل ان ارجع الى غرفتي في انتظار الغداء..مساء كل يوم اجلس على مقاعد الساحة العامة متأملا المشاة والجلوس والعوائل وسابحا بذهني في ذكريات لم تكن مهمة يوما من الأيام كما هي الآن..اشيائي التي كنت اكرهها الكسكس والعيش وبحث الوالدة عني باستمرا في ازقة الحي..في اغلب الأحوال يجلس معي اللبناني محمد وهو الذي يفاخر بأنه دخل جميع مراكز ايواء اللاجئين في اوروبا..مرة كنت جالسا مع الفسطيني “ابو محمود” الذي يتكرم كل مساء بصب شاي عربي للجميع، وبينما ابنه محمود يلهو بدراجة طفل اتشيكي او شيشاني اذ تشاجر الطفلان وانقلب الود عنفا حرم بموحبه محمود من اللعب وجلس باكيا الى جانبنا وهو يتابع قرنه يختفي بدراجته وراء غيطلة تحف سكن العوائل.كان محمد اللبناني يراقبنا باهتمام رغم انه عادة يحب الخلوة الذهنية حتى وهو بيننا..خرج على عجل ثم عاد كما خرج لكنه الآن جاء يجر دراجة جديدة لابد انه اشتراها من امام المركز..سلمها لمحمود الصغير الذي فرح بها ايما فرح..في عجلة الدراجة سلسلة حديدية طويلة تعامل معها ابو محمود بحرفية فالفلسطيني الذي لايعرف فك الأغلال والسلاسل ليس فلسطينيا بحق..خرجت أم محمود وابنتها المثيرة للمشاكل لتقديم الشكر لمحمد، اما هو فلم يزدنا على القول: ابنك موفق فلم اذهب بعيدا لسرقتها.اخذتها من محلات المغاربة وبسلسلة وليس جهاز التحذير ومقاومة السرقة.محمد سرقها في ثورة شرف وانتصار للطفل الفلسطيني.لبناني آخر من بعلبك اسمه لا أذكره لكنه يعاني معاناة خاصة فالفتى قدم طلب اللجوء على اساس انه من ميليشيات انطوان لحد ومعاناته لاتكمن هنا بل في علاقته بعلي السوري، وعلي هذا يقيم في المركز لكنه يشتغل بدوام جزئي في معامل البالي المنتشرة في ابروكسيل في صفوف الجالية السورية..فتى بعلبك يعتقد حد الايمان بعلاقة تربط صاحبنا بالمخابرات السورية والواضح ان علي يحاول تعزيز هذه القناعة لديه فمرة تأتيه مكالمة فيرد بهمس مسموع مع تغيير لارتسامات المحيا:نعم سيدي..ثم يبتعد بمحدثه الذي ربما يسأله عن ثمن الحمص او الفجل في جادة “شوسي دي مونس”..مرة همس اللبناني في اذني وهو ينظر يمنة ويسرة والهلع باد عليه:علي يرتبط بعلاقة خاصة مع طلاس
-ومن هو طلاس!
-الاتعرف طلاس؟
-لا طبعا
-لاتهتم..سيبك منو
اللبناني يفعل المستحيل في حضور علي السوري لكي لايعرف بقصة لجوئه اذ يقول أمامه إنه تقدم بطلب لمعاملته وفق المادة تسعة الخاصة باللجوء الانساني وهو لجوء لاعلاقة له بالسياسة ولابسوريا او لبنان او اطلاس( اعتقد انه العماد مصطفي طلاس وزير الدفاع السوري الراحل) والحقيقة التي نعرفها جميعنا ان الشاب اللبناني يدفع امام البلجيكيين بانتمائه لميليشيا لحد..”علي” يستفيد من هذا الوضع ويبتز الغلام المرعوب ويتقاسم معه نقوده واغراضه كما يعد له وجبات مشرقية في عنبره الذي يتقاسمه مع بعض المشارقة..
ابنة ابومحمود في العشرين او تنقص قليلا..تضع الحلق المعدنية في انفها وشفتيها واذنها وسرتها..كما تلون اسفل ظهرها بوشم لرجل من الفايكينغ سيفه يسلك السبيل نحو حزام بنطالها..جميلة وقمحية اللون لكنها ارتأت بينها ونفسها ان تصاحب الألبان ولولا لونها لما اكتشفت انها غريبة بينهم..تسهر مع مجموعة من فتيان وفتيات القومية الأشرس في المركز..يعودون من الملاهي الليلية ويتسورون المركز الذي يغلق ابوابه العاشرة ليلا..حاول والدها في البداية ثنيها وتوبيخها بطريقته الشرقية لكنه اصطدم بالقوانين البلجيكية ولم يعد بامكانه الا الصلاة حتى لاتستخدم حريتها في ايذاء نفسها..لا أذكر اسمها وان كنت اعرف بعض صويحباتها ومنهن التي دخلت مرة على مرابط موريتاتي من منطقة “ايكيدي” عارية بالكامل وتحمل قارورة خمر وتترنح تلك قصة سأذكرها في سياقها وليعذرني صاحبها، لكن ليطمئن على حقه في عدم ظهور اسمه او مايدل عليه..االفتاة لفلسطينية او القضية تلك كانت شرفا للجميع ولكن الجميع عاجزون عن الانتصار لشرفهم، عاجزون حتى عن توجيهها نحو حرية حقيقية عاجزون لأنهم يحتاجون البقاء والخبز والنقانق والتعليم والأمان والعلاج وبقية الأشياء التي تقدمها لهم بلجيكا ويعجزون عن الحصول عليها في بلادهم، وذات الأشياء تقول لهم إن تلك الفتاة قضية نفسها وهي حرة ولاوصاية لأحد عليها، وبين الرؤيتين نصح افتقدته الفتاة وربما تكون اليوم مختلفة عن الذي كانت عليه في بداياتها هناك من يدري.
بعد شهرين تقريبا من الاقامة في هذا الجو استيقظت ليلا على جلبة وضوضاء وجاري الشيشاني يوقظني صارخا
يتواصل
اهداء خاص الى
Marwa Ahmed Bezeid
Sidi Meina
منى الشيخ