قصة الجنرالين
الزمان انفو ـ كتب البشير ولد عبد الرزاق:
في شهر مايو من عام 1814، دك الحلفاء، (بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا)، أسوار مدينة باريس واقتحموا أبوابها، وحين اتفقوا على نفي نابليون إلى جزيرة صغيرة، قبالة السواحل الإيطالية، تدعى “ألبا”، حفظوا عليه لقب الإمبراطور وودعوه بإحدى وعشرين طلقة مدفعية، بل وجعلوا حرسه الإمبراطوري يهتف باسمه وحياته ويؤدي له التحية العسكرية وهو يغادر إلى منفاه،
لكن بونابرت، الذي عاش حياته متغطرسا ومتعطشا للسلطة والدماء، لن يصدق أبدا بأن تلك هي النهاية، وأن أوربا التي تحملت أوزاره ردحا من الزمن، قد سئمت من نزواته وطوت صفحته للأبد، وأرسلته إلى غياهب النسيان، سيهرب الجنرال من منفاه ويعود إلى حروبه وفظاعاته، وسيكلف فرنسا مليون قتيل، لكن العبرة دائما بالنهايات، سيهزم نابليون شر هزيمة في موقعة “واترلو” الشهيرة ويقع في الأسر، هذه المرة سيكون المنفى بعيدا وقاسيا، “القديسة هيلانة”، جزيرة ضائعة وسط المحيط الأطلسي الجنوبي، في منتصف الطريق بين إفريقيا والبرازيل،
“صقر كورسيكا”، الذي أصبح جنرالا وهو في السادسة والعشرين ونزل شواطئ الإسكندرية غازيا وهو التاسعة والعشرين ثم صار إمبراطورا اهتزت له عروش أوربا بأسرها وهو في الثلاثين، سيتحول هناك إلى مجرد جنرال بائس، مكسور الجناح والخاطر، يموت ببطء على كنبة عتيقة، منسية داخل غرفة مهملة…فتشوا بين صفحات التاريخ، فهي مليئة بالحكايات المثيرة للشفقة!
…عكس نابليون، كان ديغول، جنرالا من طراز رفيع، آثر العيش في الهواء الطلق، على التعفن داخل دهاليز السلطة وبين أكوام مؤامراتها وخياناتها التي لا تنتهي،
في خريف عام 1940، حين سقطت فرنسا في يد النازيين، انحاز الجنرال لوطنه وشعبه وأدار ظهره ل”حكومة فيشي” وإغراءاتها الكثيرة، وضع ديغول المفتاح تحت الباب وعبر نحو الضفة الأخرى لبحر المانش، من هناك، سيقود الجنرال مقاومة وطنية باسلة ضد المحتل النازي، وسيدخل باريس في نهاية الحرب، دخول الفاتحين، محمولا على أكتاف الفرنسيين،
بعيد أحداث مايو 1968، عادت السلطة وأغرت الجنرال من جديد، قدمت له نفسها على طبق من ذهب، كان لدى الأب الروحي للجمهورية الخامسة، أكثر من سبب، لكي يبقى ويستمر، لكن ديغول العنيد أعاد الكرة، مرة أخرى أدار الجنرال ظهره للسلطة، وضع المفتاح تحت الباب، أخذ تقاعده ورحل إلى بيته الريفي في بلدة كولومبى الوادعة،
هناك، سيتحول الجنرال والبطل القومي وفخامة الرئيس، إلى مواطن عادي للغاية، يلقي تحية الصباح على جاره العجوز ويشتري الخبر من فرن البلدة ويمازح الناس في الطرقات، وفي المساء يدفن نفسه في حضن السيدة إيفون ديغول، يروي لها أفراحه وأتراحه،
مات نابليون على كنبته العتيقة، وحيدا داخل غرفة مظلمة ورطبة، لم يمش وراء جثمانه سوى راهب عجوز وطبيب مجهول الهوية، وحين ووري الثرى، كان ذلك داخل قبر لم يحمل أي نقش، أما ديغول فمات على ذراع السيدة إيفون، سارت فرنسا كلها في جنازته، هذا الشعب المتأفف الذي لا يعجبه العجب، لم يحب قائدا قط، كما أحب ديغول، عشق الفرنسيون جنرالهم لحد الجنون، وما زالوا حتى اليوم، يحبون حكامهم بقدر ما يشبهون ديغول،
…التاريخ دروس وعبر، إما أن تكون نابليون وإما تكون ديغول، والويل لأولئك الذين لا يحسنون الاختيار،
في “بلاد التيرانجا”، فعلها فيلسوف الزنوجة وشاعرها الكبير، مثل ديغول، أدرك سنغور أن القادة العظام لا ينبغي أن يموتوا داخل الأماكن المغلقة، نبذ السلطة وراء ظهره وارتحل بعيدا عن القصر الكبير في دكار، إلى بلدة فيرسون في منطقة النورماندي، حيث أمضى بقية أيامه يكتب أشعاره العذبة ويعتني بحديقة المنزل العائلي لزوجته، تحيطه السيدة كوليت هوبيرت سنغور بجمالها الآسر وحنانها الدافق، وحين توفي الرجل، بقيت أشعاره العذبة خالدة، يتغنى بها تلامذة المدارس في الصباحات الشاتية، فيحسون بدفء عميق،
كذلك فعل ماديبا، مانديلا الذي قضى أجمل سنين عمره يتنقل بين سجون قذرة، لم يستسلم قط لإغراءات الكرسي الوثير، خرج طواعية من السلطة، وهو في أوج عطائه السياسي والإنساني، وحين كان الرجل يعد العدة للرحيل عن هذه الدنيا، تحلق الآلاف حول منزله بجوهانسبرغ وتسمر الملايين عبر العالم أمام شاشاتهم الصغيرة، في إصرار منقطع النظير، على حضور الوداع الأخير، للأيقونة السمراء، وحد نيلسون مانديلا جنوب إفريقيا وهو حي، فجاءته موحدة تودعه حين مات،
…عكس سنغور وماديبا، حاول علي عبد الله صالح، أن يقتفي أثر ديغول حين أعلن أنه لن يترشح للرئاسة في بلاده، لكن سرعان ما صبغ عليه نابليون، فتمسك بالسلطة وعض عليها، حتى أدمت نواجذه،
كذلك فعل يحي جامى، فبعد أن اعترف بنتائج الانتخابات وهنأ خصمه، عاد وأنكر كل شيء، وغرس مؤخرته أكثر داخل الكرسي،
انتهى علي عبد الله صالح، أشلاء محمولة داخل دثار قديم، يقطر دما وأسى وحسرة، أما “أخرق بانجول”، فقد انتهى به الأمر داخل ممرات ضيقة، سيئة الإضاءة والتهوية، يحث الخطى نحو الطائرة التي ستقله إلى منفاه الإجباري، يده المرتعشة بالكاد تستطيع حمل عصاه الغليظة، ذات العصا التي أرعب بها الديكتاتور الغامبيين، خلال سنين حكمه الطويلة والثقيلة،
التاريخ دروس وعبر، والسلطة تشبه البحر لدرجة الضجر، الحيتان التي تخرج لا تعود أبدا،
والقصة باختصار شديد وممل للغاية، هي أن كل ما يجمع بين الرجلين، هو أن كليهما كان جنرالا، وأن كليهما حكم البلاد، لكن شتان ما بين الاثنين،
شتان ما بين الجنرالين…