ولدبكار يرد على بيان ولد ودادي
الزمان انفو ـ وقعه المؤلف السيد محمد محمود ولد ودادي المحترم، على خلفية الضجة التي أثارها إصداره الأخير بعنوان “محمد المختار بن الحامد الزعيم السياسي والمجاهد”،واجه الكثير من ردات الفعل اللفظية المتشنجة تأسيا بقاعدة الإساءة المدرجة في الكتاب،وبسبب ما بدا لأصحابها من انحيازه في حصيلة عرضه وقلة كياسته في الأحكام، بالنظرإلى سنه ووزنه ومعرفته للفروق والبيئات التي ما تزال تمثل حواضن لمثل هذه النعرات.وقبل ذلك كون السيد محمد محمود مؤلفا وكاتبا، وما يترتب على ذلك من مسؤوليةأخلاقية وقيود أدبية، فهو شخصية معروفة بخلفيتها الاجتماعية والثقافية وبكامل الإدراك بمسألة الشرف وهيمنته في مجتمعات الشوكة، فهو ليس شابا مغمورا ولا غرا يبحث عن الشهرة على حساب وزنه الشخصي والعلمي ووضعه الاجتماعي، وكان بذلك يمكنه الاكتفاء بالرؤية الأحادية التركيبية التي اعتمدها الكتاب دون ركوب مركب التخوين والتخذيل والتحامل والتجريح، حتى صار الكتاب غير طيب ولا يسر الناظرين،على عيوبه المنهجية والعلمية والاستخدامات اللفظية جريا على أسلوب نموذج من الكتّاب متحلل من قيود الوشائج والروابط الاجتماعية والتاريخية من غير منطقتنا،فحتى الضابط “إفرير جان”، الذي تضمن كتابه ألفاظا وأوصافا مثل تلك التي تضمنهاكتاب السيد محمد محمود، أوصى بأن لا يتم نشر كتابه إلا بعد 70 سنة من وفاته حفاظا على مشاعر أبناء المعنيين.
ومع ذلك فإني أتضامن مع السيد محمد محمود كمؤلف لكي لا يكون هناك حرج على التأليف في بلد أحوج ما يكون إليه.
ولاشك أنني لن أجد مكانا لأنفذ منه بين محمد محمود وأهله -لأسباب عديدة- ما دام موضوع الكتاب سردا أدبيا لقضايا قبلية واجتماعية، لكنني أريد أن أناقش بعض ما وردفي الكتاب بوصفه للقراءة وللأجيال، فخلال فترة قصيرة سيكون من المراجع في مادته،وهو -بهذه الحالة ومن الناحية الموضوعية- لا يصلح لذلك، على ما سَنُبيّن لاحقا من نقاش البيان الذي أصدره تصحيحا أو تصويبا موجها للرأي العام حول آثار هذا الكتاب.
ففيما يتعلق ببيان المؤلف، فإني جد مندهش من قوله بأن منهج الكتاب “مقاربة علميةحديثة”، وأنها “تحرير الوقائع اعتمادا على تواترها الشفهي”، فهل يصلح التواتر من جهة واحدة هي بالأساس طرف في الأحداث ولها مشاعرها الخاصة اتجاهها!؟، وهل يمكن لمثل هذا التواتر أن يكون مصدرا مستقلا أو موضوعيا!؟. وقوله بأن “الوقائع يكون مرجعها الوحيد هو المصادر الأصلية”، أتساءل: إذا كانت المصادر في نفس الجهة أحاديةالرأي، هل هي صالحة لأن تكون مصادر !؟.
كما يعجبني المؤلف في عدة فقرات من البيان حين يقول إنه “تفاجأ بردة الفعل من لدن مسؤولين مجربين انتصارا من الإساءة على العشيرة ورموزها”. ألا يعد ذلك إقرارا منه بالإساءة التي ليست من التاريخ ولا من المنهجية العلمية في شيء؟.. ومن جهة أخرى نجد الكاتب وكأنه ألف كتابه في الكيمياء أو في الجبر أو عن جهاد عمر المختار لينتقده الآخرون في مضمار القبلية، ولم يركب هو مركب العصبيات القبلية في معارك وأحداث ومجاهيل النعرات والأحاسيس القبلية على نحو لا علاقة لكثير منه في الواقع بإثبات صفة الزعامة والجهاد التي التزم محمد محمود ولد ودادي بإثباتها لابن عمه مهما كلف الثمن أو كان على حساب رموز آخرين أو على حساب التاريخ نفسه.
ثم إني لأتساءل أيضا كيف تنتابه الحسرة من ردة فعل من رجل بنفس مواصفاته (من بناة الدولة، وفي سنه…)، وهو يأخذ فقط بزمام المبادرة للرد على ما اعتبره تحاملا منه ـأي من المؤلف ـ على أجداده وأعمامه وعشيرته في مشاهد فجة على نحو يسلبهم الكثيرمن حقوقهم ومواصفاتهم الحقيقية بهدف اجتراح صورة مزينة بقلب الحقائق والتجني أعدت مسبقا ضمن إصرار الكاتب على التزامه الإيديولوجي، ولا يكون الحديث فيهامشروعا لأصحاب وجهة النظر التي غابت من الكتاب!؟ وهل يكون النظر النقدي عادةبعين واحدة؟.. كما يدهشني إقرار المؤلف بالإساءة في ما يعتبره عملا علميا، وكأنه يتعمدها، في حين لا يعتذر عنها!. ويعجبني المؤلف حين تدفعه ميولاته الطافحة بمسألةالقبلية ليؤلف عدة كتب عن قبيلته (كنته الشرقيون، الرشيد، محمد المختار ولد الحامد) ثم يتبرأ بعد ذلك من القبلية!!، فكيف يتملص من ذلك بعدما ألف مكتبته القبلية ووضع فيها ما يحلو له من قصص وروايات شفهية من أجل تكريس أمجاده وتحطيم أطراف أخرى على نحو لا تؤيده التآليف التي استشهد بها خارجا عن الأحداث والشواهد على أرض الواقع، وعلى نحو يثير النعرات والأحاسيس البدائية، لينعت رأي الآخرين في نفس المضمار بالشحن القبلي البغيض. فمتى كانت القبلية بغيضة لدى المؤلف وهي مصب اهتمامه وانهماكه على نحو تعصبي جعلته يتبنى مشروع توكيد وتخليد مكانة بطل كتابه وقبيلته في تاريخ البلد الذي يتم الاهتمام بإعادة كتابته في إطار ” الكزرة ” (الفوضى) التي أطلقها موضوع المقاومة . كما لم أستوعب قوله بأن الذين حضروا الندوةلم ينفوا رواية ولم يثبتوا أخرى جديدة، وهو عكس ما وقع بالفعل، فلم يتم نفي الوقائع بحد ذاتها، لكن تم الإعتراض ونفي ما فرشت به من روايات غير صحيحة في بعض الأحيان وغير دقيقة في الغالب الأعم، بشكل صريح ودقيق وواضح، وتمكن العودة إلى كلمة المختار ولد بوسيف، ومحمد ولد الدي، وإبراهيم ولد بكار، ومتدخلين آخرين في ندوةنقاش الكتاب.
أما فيما يخص قياس السيد محمد محمود لنفسه ولكتابه على الكتب التي تتضمن بذاءات وتعج بها مكتباتنا من شخصيات من غير مجتمعنا وغير معنية بالحفاظ على السكينة والود بين الإخوة وبين الأهل والجيران، ولا علاقة لهم بملتنا ولا عاداتنا ولا قيمناوغير ملزمين بحدود اللياقة ومراعاة الوشائج الاجتماعية، في محاولة للدفاع عن كتابه بما يحمله من تحامل، فإني أعتقد أنه لم يوفق في المقارنة، وهي على كل حال عذر أفضل منه اقتراف الذنب، وفي أسوأ المقارنات “حيث لا يتناسب المنسوب”. مع أن ما تضمنته كتبهم كان فيه إنصاف وتخليد لدور الأشخاص والجماعة التي يريد مؤلفنا الموقر تهميشها وطمس جوانب من أدوارها. ولولا قليل من “اترزكي” لانبرى له أحد من أبنائهاليسرده وهو أيسر، لأنه مدون في كتب المستعمر والمؤرخين القدماء والكبار، لكن الاعتقادالذي ظل ساريا بين الجماعة أنه تراث وطني ومن مسؤولية الدولة وأصحاب الاختصاص وليس ملكيات فردية ـ كما تذكر المؤلف ذلك متأخراـ بعد ما وضع اللمسات الأخيرة حول مشروعه الإيديولوجي القبلي. فالمجموعة لم تجد مطلقا أي أهمية للسباق حوله ولاللاحتواء عليه، تاركة للكل مساهماتهم وتقولاتهم دون أن تعنيهم في شيء لأنها لن تؤثرعلى الحقيقة مهما طال الزمن.
أما فيما يتعلق بنقاش الكتاب، فقد كانت خلاصة الندوة خلال التوصية النهائية ـ وأعتقدأنها مسجلة ومحفوظة بحيث يمكن العودة إليها ـ تدعو المؤلف لإعادة دمج وجهة النظرالأخرى أو حذف وجهة النظر المنحازة والمشحونة بالأحاسيس والنعرات القبلية خدمةللموضوعية والأمانة العلمية التي ينتصر لها مؤلفنا دون أن يعمل بها، فلم يعرج مؤلفناالموقر على تلك التوصية في بيانه دائما في مسعاه لدعم مركزه إزاء الجدل القائم، تماماكما كان الكتاب إزاء الوقائع والأحداث يتصامم عما يعترض مسعاه في تثبيت زعامة ولدالحامد وجهاده . إن الموقف الذي يعتبره السيد محمد محمود ولد ودادي ردة فعل على كتابه ليس موقفا من كتابة التاريخ كما يريد أن يصور للرأي العام ، بقدر ما هي ضد قلب الأحداث وتناولها بانتقائية وخدمة لالتزام مؤلفنا المرموق بإعلاء شأن بطل كتابه وإثباتا للعنوان “محمد المختار ولد الحامد الشخصية السياسية والمجاهد”.
وفيما يخص الكتاب مثار الجدل، فقد غابت عنه العلمية إلا في المواطن التي تخدم فكرة أوأيديولوجية المؤلف الذي يظهر أنه وضع، سلفا، تصورا لوقائع ومعلومات كتابه ثم سعى بعد ذلك في البحث إلى ما يعضدها من المصادر الشفهية والروايات السردية والمناقبيةوالكثير من الانطباعات فاختلطت عناصره بين ما هو من التاريخ وما ليس بتاريخ، حتى غابت عنه العلمية والموضوعية وأصبح في حكم السرد الأدبي والروائي، وغابت المصادرالمتنوعة وروايات الأطراف الأخرى والمقارنة والاستنتاج والاستخلاص، والتي هي أساس أي بحث علمي رصين، بينما تناول الأحداث التاريخية بما يعرف بطريقة التجريد، وهي طريقة تخدم الانتقائية وفصل الأحداث عن بعضها دون أي تأصيل ولا التزام بمنهجيةواحدة ولا نسق واحد، فأدخل فصولا تاريخية حيث أراد وترك أخرى حيث أراد، وهكذا فعل مع الوقائع إذ سجل منها ما أراد وترك منها ما أراد، كما لم يراع ـمثل ما يتم في أي عمل بشري اليوم ـ انعكاساته على الأطراف المشاركة في صناعة نفس الأحداث وحقوقها،وحقوق ومشاعر أحفادها، والتطرق لجوانب من الأحداث بنوع من التبجيل والتبرير لدعم التزام مؤلفنا الدائم، والسكوت عن جملة الأحداث والوقائع التي تعارض أو تناقض ذلك الالتزام الإيديولوجي العميق، كما تم تجاهل شهادات ووثائق المستعمر التي كانت موجودة عبر التقارير العسكرية والإدارية والاستخباراتية بوصفها مركز الأحداث، بينماتم الاعتماد على السرد والروايات الشفهية المأخوذة من الأهل أو من الحلفاء في تلك الأحداث ومن بعض الترجمات “الشعوبية” بالنسبة للحروب الداخلية، كما تم التركيزعلى حرب واحدة ضمن الحروب القبلية خاصة تلك التي حققت فيها إمارة آدرارالانتصار، فيما تم منح النصر لبطل الكتاب في مشاهد بطولية وردية، واختزلت أحداث وتفاصيل المعركة الفاصلة الأخيرة (فرع الكتان) التي هُزم فيها المنتصر السابق ،بقيادة بطل الكتاب ،الذي قال المؤلف إنه لم يشارك فيها، وكانت تلك الهزيمة سببا في وقف الاقتتال القبلي الداخلي المديد إلى طلوع المستعمر، وكانت سببا في نفي بطل الكتاب محمد المختار ولدالحامد إلى الحوض الشرقي، ففي مقتطفات كولونيالية صادرة 15 فبراير 1906 نجد: “في الوقت الذي كان فيه كبولاني يستعد لمغادرة “مال” متوجها إلى تكانت، كانت إدوعيش أسيادا لهذه البلاد وكانوا قبل 25 سنة قد طردوا منها كنته الذين تخلوا فيها عن عاصمتهم القديمة قصر البركة ولجأوا إلى الحوض ونواحي تيمبكتو، مع زعيمهم الحالي محمد المختار ولد الحامد. إن إدوعيش وكنته أعداء غير قابلين للتصالح، بينمابقي من كنته في تكانت أولاد سيدي حيبللّ فزعيم هذا الفخذ لديه رابطة قرابة بزعيم إدوعيش”.. انتهى الاستشهاد. الأمر الذي يؤكد مشاركة محمد المختار في المعركة ونفيه الذي لم يتطرق له السيد المؤلف رغم أنه من المتواتر من التاريخ وباعتراف محمد المختارنفسه الذي كانت عودته إلى ولايته تحت غطاء المستعمر، ففي مقابلته مع كبولاني التي نشرها كاتبه الخاص روبرت راندو في كتابه “كبولاني” يقول محمد الختار ولد الحامد(…كنت أعرف منذ أمد بعيد أن نهب إدوعيش على الضفة سيكون سببا، عاجلا أو آجلا،في عمليات انتقامية تقوم بها فرنسا، ومن ثم احتلال الضفة اليمنى لنهر السينغال. إذن لقد أتيتم وقمتم باحتلال “تكانت” التي طردت حسان منها قبيلتي”.. ألا يمثل هذا المقطع اعترافا صريحا من بطل الكتاب نفسه بأنه تم طرده من تكانت الأمر الذي يتجاهله دائماالمؤلف الذي يلوذ بالأمانة العلمية…” فالقول إنه لم يشارك في الحرب ليس فقط نشازا، بل يتنافى أيضا مع تبعاتها.
أما قضية الجهاد، فقد تم الحديث فيها بما يشبه صناعة الأحداث عن معركتين منفردتين باجتثاث تام ومثير لهما من جذورهما، وبعيدا من التسلسل الزمني والواقعي، ودون التعرض لتفاصيلهما الموضوعية كجزء من مسار طويل للمقاومة، ودون التطرق للخلفيةالحقيقية لعودة بطل الكتاب مع المستعمر وسبب انقلابه على المقاومين، فقد تم الحديث عنهما من أجل منح وسام الجهاد لمحمد المختار مع أنه لم يأت إلى تكانت بنية ذلك، بل بطموح “الإمارة” على تكانت تحت وصاية ودعم المستعمر، كما يظهر جليا في الحديث الذي دار بينه وبين كبولاني.. يقول محمد المختار في تلك المقابلة المنشورة في الأرشيفات الاستعمارية مخاطبا كبولاني: “أريد أن أضع تحت تصرفك التأثير الذي أحوزه في تكانت”، يرد عليه كبولاني: “حسنا، ماذا تريد مقابل ذلك؟”، فيجيب محمد المختار: “أريد أن أكون زعيم تكانت تحت قيادة الفرنسيين”، فيقول كبلاني: “المكانة التي تطلبها تتطلب واجبات عسكرية أولها أن تكون على الدوام على ظهر فرس لتضمن السلم في كل أنحاء تكانت”،فيرد محمد المختار: “أنا مستعد للقيام بهذه الوجبات”، فيقول كبولاني: “هذا ليس كل شيء، عندما تكون أميرا على تكانت ستظل خاضعا لفرنسا وعليك أن تأتمر بأوامرممثلها هنا”، فيقول محمد المختار: “هذا أعرفه. إنكم أسياد هذه البلاد، وسأكون خادمالكم، ماهي مكافأتي إذن؟”، فيرد كبولاني: “أنت لا تتكلم إلا عن المكافأة، وأنا أتكلم عن مصلحة تكانت”… انتهى الاستشهاد. ولنا أن نتساءل هل تضمن هذا الحديث أي نوع من الاعتراض على الاستعمار قبل الحديث عن المقاومة؟.
لقد اعتمد الكاتب نمطا من الحضور الذهني واللغوي والفروسي حينما يتحدث عن محمدالمختار وقبيلته، بينما اعتمد الاختصار واللغة “الأقل أناقة” عندما يتحدث عن الآخرين(كما في معركتي كصر البركة وفرع الكتان)، هل يدخل ذلك في إطار الموضوعية و”الأمانةالأدبية”؟. والأغرب من كل ذلك هو قلب حادثة الرشيد على نحو “مثير للشفقة”. وهنا لامندوحة من استخدام هذا التعبير في هذا الموقع بالذات حين يسرد المؤلف قصته ذات المصدر المجهول، ويذهب إلى أنها أشهر من أن يُطعن في صدقيتها، وأنها مدونة في المراجع التي لم يعرفها غيره، ومشهود لها بصدقية لم يشهد بها غيره.
ومع أنه لا مجال للقياس والمضاهاة بين الجهاد النابع من القناعة والجهاد النابع من ردةفعل على عدم الحصول على الإمارة، ومع أن الفارق واسع، فلم يمنع ذلك المؤلف من الجسارة بالقول أن الأمير المجاهد عثمان ولد بكار متآمر على بطل الكتاب من أجل الحصول على الإمارة، وهو الذي ولد أميرا، في حين ظل طموح بطل الكتاب منحصرا في”الإمارة”، فلم يسجل أي حديث ولا تفاوض ولا التقاء بين عثمان والمستعمر في الوثائق الفرنسية سواء الرسمية منها أو الشخصية، ولم يأت به أي باحث، كما لم يُسمع خارج مصادر مؤلفنا.
وتصحيحا لأي تصور خطإ، فلم يوجد في أرشيف المستعمر المكون من 100 ألف صفحةصورة لأي زعيم من زعماء المقاومة؛ لا بكار الذي احتك بهم منذ 1858 ولا أحمد ولد المختارولا سيدي أحمد لبات ولا عثمان ولد بكار ولا أحمد محمود ولد بكار. وكانت الصورةالوحيدة لعثمان ولد بكار في أرشيف الفرنسيين بعد 15 سنة من الجهاد تمثل الانطباع المفعم بالتقدير والاحترام الذي جاء في تقرير حاكم المجرية سنة 1910 على النحوالتالي: ففي كتاب موريتانيا 1843ـ 1933 ” يقول رئيس المركز: “رأيت في المركز وجها لاكالوجوه: إنه وجه المسن عثمان الابن البكر لبكار، الذي حضر قبل أشهر لإعلان خضوعه حين وصولي إلى المجرية. لقد تمكن من الوقوف في وجهنا إلى غاية هذه السنة 1910،عندما أرغمته سنه المتقدمة وانهزام ذويه على أن يأتي بدوره ليطلب منا الأمان”. وفي الصفحة 13 من العدد 1 من كشف مؤسسة الجغرافيا يقول غورو: “….مغادرة التلاميذوخضوع آدرار أديا إلى خضوع متمردي الجنوب اللاجئين في هذه البلاد منذ زمن كبولاني. ألم يكتب لي واحد من قادتهم (عثمان ولد بكار ) سنة 1908 : “لا تطلب مني أيشيء ما دمت لم تحتل آدرار، أي عندما لم يبق لي ملجأ. اعلم أنني لا أملك من المال سوى الأسلحة التي أعطاني مولاي احفيظ نصره الله”، ليعود بذلك إلى تكانت ويشكل جماعةالكدية. ويقول افرير جان بعد استشهاد بكار: “لقد طرحنا أرضا أقوى أمراء البيظان على الإطلاق وطردنا من تكانت القبيلة التي قاومتنا بكل ما أوتيت من قوة وكادت أن تهزمنافي معركتي ألاك 1903 ومعركة دركل 1905 “. وعثمان كان هو القائد في معركة ألاك صحبةأحمدو ولد سيدي اعلي.
وفي مقتطفات كولونيالية صادرة 15 فبراير1906 : “…. إدوعيش، خاصة أبكاك بقيادةعثمان ولد بكار، كانوا موالين للمقاومة …… كان سير قافلتنا سريعا لدرجة أن وصولنالتكانت فاجأ إدوعيش الذين أمرهم عثمان بن بكار بالرحيل فور مقدمنا”.
كما لا يمكن إلا أن يشوب مسعى كاتبنا التحيز وعدم الموضوعية عندما يحول عثمان إلى باحث جديد عن الإمارة متمالئ مع النصارى لقتل محمد المختار لأجلها. إننا في الحقيقةأمام عملية مريعة لتشويه التاريخ والأحداث ليست من المستساغ عقلا ولا نقلا.
ومع أن الحديث يتقاصر عن سرد كل الوثائق والمصادر بشأن توضيح الأغلاط الكبيرةبخصوص المقاومة، فإن المعارك على تكانت امتداد للمعارك في آفطوط، لكن قبل 1905 كانت إدوعيش لوحدها في الغالب، ومنذ 1906 كانت مع مجموعة من الحلفاء، كما أن معركة الرشيد ردة فعل من المستعمر على محمد المختار ولد الحامد الذي التحق بالمقاومةفي “اقلنبيت” يوم 16 اكتوبر 1906 بعدما ذهب من عند حاكم تجكجه على أنه سيفاوض المقاومة، وكانت بحوزته مدافع وذخيرة أعطتها له الإدارة الفرنسية التي لم تعطه الإمارة،وشارك في معركة انيملان وتجكجة ولكل منهما وقائعه وحقائقه، بينما كان عثمان في إطار الإعداد لتلك المعارك قد تلقى رسالة من الشيخ ماء العينين بتاريخ 22 مايو 1905 باسم ملك المغرب مولاي احفيظ يستقدمهم ليدعمهم بالسلاح.
وفيما يخص كون إمارة تكانت، بقرار من الفرنسيين، تولاها عبد الرحمن ولد بكار، فذلك صحيح مثل جميع الإمارات في البلاد بعد طلوع المستعمر، لكن إمارة إدوعيش قبل ذلك كانت تضم ثلث الأراضي الموريتانية على امتداد 4 ولايات وثلث الخامسة أي منطقة أفلّي،وفي تجديد الاتفاق بشأن الإتاوات مع بكار سنة 1894 اشتملت منطقة نفوذها على الضفة اليمنى من كيهدي إلى خاي في مالي، كما أن جميع الاتفاقيات تثبت أن الضفةاليمني من باكل إلى أفلي كانت تحت النفوذ المباشر لإدوعيش. وقد حاول الفرنسيون تغيير تلك الوضعية بعدما شطبوا على الإكراميات بسبب إعطاء بكار اللجوء، ما بين1889ـ 1891 ، للمجاهدين من الضفة اليسرى (عبدول بوكار، وآلمامي من بوسيا وعاليبورو ، وبوريبا من جولف) الذين عارضوا الغزو الفرنسي لمنطقة فوتا بكل ما أوتوا من قوة وبسبب رسائله التي يوجهها بطرد الفرنسيين من الضفة اليمنى، مما يعني أن الفرنسيين قزموا إمارة إدوعيش في منطقة تكانت.
وبالنسبة للمقاومة بصفة عامة فقد أخذت مقاومة إدوعيش اتجاهين ومنحيين وخلفيةواحدة ثابتة: اتجاه التصدي لدخول الاستعمار من 1894 إلى 1905 واتجاه مقاومته من1905 إلى 1910. أما المنحى الأول فهو تعبئة القبائل للجهاد، فقد تم التأثير على أحمدُوولد سيدي اعلي وإجيجبه ولقلال، فكان الجهاد في منطقة الجنوب من النهر إلى تكانت،وكانت أول معركة سنة 1903 في ألاك حيث كان عثمان ولد بكار يقود جيش إدوعيش في المعركة، وكان مرجعية هذا المنحى بكار ولد اسويد أحمد. أما المنحى الثاني فكان في تكانت بقيادة مشتركة مع إدوعيش مثل انيملان وفي تجكجة والمينان باتجاه الشمال، وكان مرجعيتها الشيخ ماء العينين. وتميز دخول إدوعيش في تحالفات من أجل المقاومةبدءا بانيملان. أما الخلفية فتمثلت في الفتوى بوجوب الجهاد ذودا عن أرض المسلمين وقد ضمت الكثير من العلماء مثل صالح ولد عبد الوهاب وأهل مايابي قبل 1905 والشيخ ماء العينين من 1905 كما ورد تكرار أرض المسلمين في رسائل بكار إلى المستعمر، وليس بهدف الدفاع عن الإمارة أو أي شيء من حطام الدنيا، وكل كتب المستعمر تشهد بأنه لم يتم أي تفاوض بين القادة السالفي الذكر على أي مزايا أو تنازلات مقابل دخول الفرنسيين الأرض – لا بكار الذي إستشهد في معركة بوگادوم ولا أحمد المختار وأحمد محمود اللذين هاجرا إلى البلاد المقدسة ولا عثمان الذي عاد على الطريقة التي ذكرنا آنفا -بأي شكل من الأشكال،ولا في أي لحظة من اللحظات، ومع ذلك لم يحاول مؤلفنا الموقر التأصيل لتلك المقاومة ولاتلك الأحداث ولا تحمل عناء التفسير الموضوعي.
وبهذا يكون كتاب “محمد المختار ولد الحامد القائد السياسي والمجاهد” ليس كتابا من كتب التاريخ، لكن يمكن تصنيفه في مجال الأدبيات التاريخية نتيجة للأسلوب واللغةالأدبية الطاغية بتشبيهاتها واستعاراتها، والسردية الأدبية التي لا تراعي التسلسل،محل السردية التاريخية المتسلسلة، كما لم يأخذ الكتاب طبيعة البحث التي يجب أن تحتفظ بالصورة التاريخية الحقيقية وتعطي صورة عن المنطقة (مسرح الأحداث) من جوانب عديدة، فمن يقرأ الكتاب لا يخرج بصورة صحيحة عن جغرافيا المنطقة البشريةوالسياسية والعسكرية وميزان القوى بين المجموعات فيها. وهذا خلل منهجي كبير،إضافة إلى ما ذكرنا آنفا من عيوب منهجية وعلمية وموضوعية. وبهذا يكون الكتاب في خلاصة القول “ألّا شِي واخلاصْ” (مجرد وجهة نظر) حسب تعليق أحد الباحثين والمؤرخين الكبار عليه بعد قراءته له.
ومع كل ذلك يبقى السيد محمد محمود ولد ودادي مؤلفا ومترجما لكتب تاريخية وكاتباكبيرا، غير أنه لكل جواد كبوة ولكل سيف نبوة. ونرجو أن يصحح من تلقاء نفسه تلك الأخطاء والأغلاط الكبيرة التي حملت ضررا بليغا في الجانب الآخر من الرواية التاريخيةإذا كان الهدف بالحق هو التاريخ لا غير، وله منا دائم الود والاحترام.