السموم والنفايات القذرة.. والصمت المريب..

altلا ينبغي في عهد وزيره الجديد أن يواصل إعلامنا الرسمي صمته المريب إن لم نقل المتواطئ رغم أن النفايات القذرة والسامة تزكم الأنوف في ربوع هذه البلاد. وللذكرى ففي عام 1994 من القرن الماضي…

وأثناء وجودي ضمن ما يمكننا أن نطلق عليه مصطلح وافدة نواكشوط، وهي من الوفادة، بإينشيري وباكجوجت حصرا، ربما وفاء لعادة زبونية شبه سياسية غير حميدة ومصطنعة، ما برحت تكسب الأرض والجمهور عبر العهود المتتايعة وأنظمتها، من ذوي البزة والنياشين والحذاء الثقيل.

 

والمناسبة يومئذ إعادة الانارة الكهربية من جديد إلى المدينة المهجورة ولو في أدنى الحدود في ذلك الوقت. ولأن الحدث أريد له رسميا كما نعرف اليوم وكما جرت العادة والعرف أن يأخذ ما أمكن من الزخم والدعاية الديماغوجيتين الرخيصتين، فقد أوفد الرئيس في ذلك الوقت وزيره الأول لتدشين المنشأة الجديدة، وهي بالمناسبة المنشأة المتواضعة، وذلك بعد أن أوحى حزب السلطة المفرخ حديثا في ذلك الحين من رحم السلطة العسكرية الفاسدة (الحزب الجمهوري) إلى فروع ودكاكين زبونيته ومريديها ما أوحى، والأيام أيام معاوية الرئيس الاسبق الذي أطيح به 2005 ومن اقرب مقربيه في انقلاب ابيض، فيما يصدق عليه المثل العربي “احبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون عدوك يوما ما”

.

ولأنني كنت في ذلك الحين ما زلت موظفا وإن كنت في الحقيقة موظفا متواضعا ضمن احدى قطاعات وزارة المال التي كان وزيرها في ذلك الوقت احد من اشترك معهم في الانتماء العائلي بالمعنى الأوسع للكلمة، ولأن الوزير نفسه كان ضمن الحضور. وحزب السلطة يبقى هو هو رغم تداول الكراسي وحركتها، والناس وقبل أن يكونوا من اتحاد من أجل الجمهورية كما هو حالهم اليوم كانوا جمهوريون و”ديمراطيون” حتى النخاع.

 

وأذكر في ذلك الوقت أن السيارة رباعية الدفع التي أقلتني من انواكشوط إلى اكجوجت بصحبة ابن عمي دنية محمد يوسف ولد محمدو المهندس والتاجر اليوم والمورد، والطريق ليلة إذن مزال وعرا ولم يعبد بعد، كانت حسنة ومكرمة من مدير سابق لشركة اسكان سوكوجيم الحكومية، وهو أخي الاعز وصديقي الوفي محمد ولد ديداه والاداري السابق في الادارة الاقليمية، وهي سيارة مؤجرة من احدى وكالات السفر بالعاصمة ونزولا عند طلبي. ولأن السلطة أيا كانت عندما تفتقر للمشروع الواعي والواضح المنهج تبادر في أغلب الاحيان مع الأسف إلى تحويل مجتمعها إلى عوائل متصارعة وطوائف متناحرة وإلى عصبيات تبغي الغوائل بعضها، ليسهل لها عندئذ ما تريده من سيطرة وتغلب من دون وجه حق مؤسسة بذلك وعليه مشروعية تفتقدها، ولذا فقد صار الحزب الحاكم أو حزب السلطة كما يعرف عندنا وفي ذلك الوقت، وكما هو الحال في كل وقت، حزبا للقبلية المقيتة وللشرائحيات النتنة والفئويات البغيضة، فصار حزبا مفرقا غير جامع وضارا غير نافع، تتحكم فيه النزوات الفردية بدل الرؤى وتؤطره مراكز قوى وإثراء غير مشروع استولى في لحظة ما على مصادر الدخل المتاحة وبأذرع أخطبوطية، وترعى كل ذلك وتستثمره أبالسة النخب بشهية منقطعة النظير امتلكتها وحدها، لهذا المال الحرام وللمناصب المدرة له، بعد أن صار الحكم غنيمة باردة ومباشرة بعد سقوط الدولة المدنية الأولى يوليو 1978. نخب الطمع والخيبة والجشع إياها، الممسكة بتلابيب سلطة عساكرة بلاد السيبة ما بعد رحيل رجل الدولة الفريد من نوعه الرئيس المختار ولد محمذن ولد داداه من سكن بمعية والدينا وأئمتنا الفردوس الأعلى وجنانه وبإذن الله.

 

وعود على بدء، ولأن الوزير القادم ولد حرمه، كان في ذلك الوقت أحد وافدي القوم المذكورين، وإذ أذكر هنا أنه وبمنزل أحد وجهاء الجماعة والمدينة أكجوجت السيد سيدي احمد ولد يرك وكان الوقت مساء، تسعينات القرن المنصرم، وكما اسلفت استدعى وجوه القوم اجتماعا عاجلا محدود الحضور، وكان من بين من شهدوه محمد ولد الناني الوزير في ذلك الوقت محمد يحي ولد حرمه الوزير الحالي ضمن آخرين كنت أحدهم، وكان موضوع الاجتماع والبند الوحيد على طاولة الخيمة هو واجب التحفظ في التعاطي مع ملتقى للوالي بمقر إقامته، بمناسبة زيارة الوزير الأول لنظام ولد الطايع لعاصمة ولاية اينشيري، لكي يزداد الاخير رضى على رضى على جلة القوم من وزراء وخفراء. وأفخر أنني كنت واحدا فيما أثرته وصدقا مع نفسي في ذلك الاجتماع الجهوي والسياسي العائلي من قضايا وطنية لا تشوبها شائبة من تعصب أو نفاق، لتتجاوز حدود العائلة والقبيلة الضيقة، وتسمو إلى الحيز الأرحب ألا وهو الوطن والضمير وقضاياهما. إذ كان تدخلي الواضح والمقتضب محصورا في سؤال وجيه وهو كيف نضع وزير ولد الطايع الأول والثاني والحادي عشر أمام المسؤوليات الاخلاقية والوطنية في ضوء تدفق السموم المرعب والجارف إلى اكجوجت في ام اكرين وما حولها، وما اقترفته وتقترفه شركة “موراك” من جرائر وجرائم لا تقع تحت حصر في حق البيئة والوسط الطبيعي والسكان مدنا وقرى وديعة.

 

إذ أنها وهي في ذلك مثل وريثاتها اليوم “ام سى ام” و”تازيارت” اعتمدوا ومثلها تماما أقذر الوسائط والوسائل لاستغلال الثروة المعدنية هناك، من ذهب ونحاس وخلافه. تلك هي القضية، وكانت المداخلة في موضوعها مفاجأة غير سارة فيما يبدو للبعض، فسيطرت لحظات من الصمت الرهيب، وكأن جلة القوم على رؤوسهم الطير. وفي تلك الأثناء بادر أحد “لحلاحي” وجوه القوم البارزين والمتمرسين برد لا يخلو من فجور، مما أعاد البشرة إلى تلك الوجوه الواجمة، التي كادت تفارقها الحياة، إذ بادر بالقول “تلك ليست سموما وليست امونياكا واسيانير كما ذكرت، وإنما هو لبن وعسل..” انتهى الاستشهاد..

 

وليحظى صاحبنا وفورا بنظرة رضى لا تخطئها العين، وربما بأكثر بكثير من ذلك، خصوصا من وزيرنا الجديد وسلفه الآنف الذكر. وموضوع النفايات والسموم والذي نثيره اليوم موضوع قديم جديد، كان كاتب هذه السطور أثاره في الصحافة الخاصة أو المستقلة، ولأول مرة صيف 1992 تسعينات القرن المنصرم، مثيرا الضجة المعروفة في حينه.

وبالطبع لم ينته أمر النفايات القذرة والسموم بأفول حكم ولد الطايع بل ازدادت ورش السموم وأحافيره مع الأيام بازداد تدفق لصوص الكنوز والثروة، وبازدياد المنتفعين والسماسرة في تازيازت وأم سى أم وغيرهما محليا ودوليا، وليبقى الوطن ومواطنوه الضحية لكل أولئك. وكلما تضاعفت وتيرة تدفق السموم وساخ في ثنايا اينشيري الطاهرة، جنوبا وشمالا إلى حد أن حفائر دفرسوارات سموم ام سى ام تمددت سرطانيا إلى الكلم10 على خط بنشاب، لتستولي على دار “أهل سيدي هيبه” مقابل تعويض مادي ذكروه، وباتجاه فتحة الكلم20 على نفس الخط، وظل التعتيم الرسمي المطبق سيدا للموقف وكأن الأمر يحدث في جزر الواقواق، وليس على مشارف “حسيان العرقوب”.

 

فهو إذن مشروع اغتيال بلد مع سبق الإصرار والترصد الكيدي، فحاويات الموت مازالت تعرف طريقها ويوميا إلى اكجوجت وإلى تازيازت وحاويات الموت هذه هي حاويات اسيناير والامونياك الشديدي الخطورة والسمية، وفي الغالب من دونما مرافقة أو حراسة من أي نوع. وهكذا تأخذ السموم موقعها الأبدي على خط بنشاب، البحيرة التي منها شرب مدينة اكجوجت وروي الولاية العطشى ومنطقتها أصلا.

 

وليت أمر النفايات والسموم الخطرة يقتصر على شركات الذهب الحالية في موريتانيا،مظ بل تجاوز شجع بعض رجال الاعمال المحليين مداه، فقادهم إلى جعل مشارف مدننا الكبرى ومتنفسها الطبيعي وكذا طرقنا الوطنية مدافن ومكبات لأخطر صنوف النفايات الصناعية المستوردة، كمدفن “تفلِّ” الخاص برجل الأعمال أحمد سالك ولد ابوه، صاحب مصانع الاسمنت والحجارة وشركات المقاولة وعمارة الخيمة ومطاري نواكشوط وتفرغ زينة الصكوك..إلخ والذي سبقه آخرون في نفس المنهج اللا أخلاقي والمجرم شرعا و قانونا، أمثال العقيد السابق في الجيش ولد عالي انجاي، ووالي العاصمة السابق والموشح مؤخرا ويا للغرابة وعلى خدمات جلى، ولد “مولاي الزين” والذي كان مذكورا في احدى القضايا المشابهة صحبة المصرفي الراحل ولد العباس، ثمانينيات القرن الفارط.

 

وهؤلاء وأولئك يصدق فيهم الحديث الشريف (لو أعطي ابن آدم واديان من ذهب وفضة لتمنى ثالثا، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) علما أن ابن عالي انجاي المذكور كان من أوكلت له سبعينات القرن الماضي ابان الحرب، مهمة نجدة المرحوم اسويدات ولد وداد النقيب والقائد المحاصر بعين بنتيلي، في اقصى الشمال من العدو، النجدة التي لم تأت قط.

 

والحديث ذو شجون، وأغلب الظن أن الصمت الرسمي الذي يلف هذه المواضيع والملفات العالقة يرقى إلى درجة الصمت المتواطئ، وهي جريمة منكرة في حد ذاتها، ويتأتى، ربما لأن القوم فاضت أفواههم بماء الذهب، وليته القاتل فصمتوا تواطؤا وربما لأن ما خفي أعظم، وربما وربما… والله أعلم.

 

وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام إذا لم تستح فاصنع ما شئت.

 

وما نعلمه علم اليقين ويعلمه الذيب “الل تل” نواكشوط وحيث مدافن النفايات القذرة والخطرة، وليس فقط “اذويب الل ساحل ولاته” أن وزيرا يحترم نفسه أول ما يجب عليه خصوصا إذا كان وزيرا للإعلام أن يضع مواطنيه في الصورة الحقيقية لما يجري، وأثناء ذلك يعرّف وجوبا بمن أجرموا في حق البلد أمنا وبيئة وثروة، ليتسنى جلبهم إلى العدالة كي ينالوا الجزاء المستحق، جراء ما اقترفوه وجنته أيديهم وإذا لم يتسن له القيام بذلك الواجب المقدس وعلى الوجه المطلوب، فلا خيار أمامه سوى المغادرة والاستقالة، لا لحفظ ماء الوجه فحسب وإنما برا لضميره إن كان صاحب ضمير، وليعطي المثل الاعلى ولله المثل الأعلى. ولا اظن أن قادم الوزارة الجديد يفعل..

 

والله تعلى أعلم والموفق لما فيه الخير والصواب.

 

محمد ولد اماه

 

آرنه لميلحه- جمادى الأولى- 1434هـ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى