جيل التسعينات من كاتبات القصة في موريتانيا
الزمان انفو ـ
لا يغيب عن البال أن النثر الأدبي الموريتاني كان شبه معدوم في منتوج البلد الذي طغى عليه بشكل لافت عنصر الشعر دون غيره من أجناس أدبية.
كما أن التاريخ الموريتاني الذي سجل حضورا اجتماعيا وسياسيا متميزا للمرأة منذ القرون الماضية، فحفظت الذاكرة أسماء شاعرات وعالمات، لم يسجل لها إنتاجاً ثقافياً موازياً لذلك الحضور، وهو ما تبرره الدكتورة مباركة بنت البراء في مقالتها حياء معرفي.
ترى الكاتبة السالكة بنت أسنيد أنه مع تطور المجتمع الموريتاني وانتشار التعليم داخل مختلف فئاته بما فيها المرأة وجدت شاعرات وكاتبات صحافيات وقاصّات ومحاضِرات، وتناول الإنتاج النسائي مختلف أوجه الحياة الوطنية والثقافية والاجتماعية.
وفي موريتانيا ومع بداية الألفية الثالثة يتجه فن القصة القصيرة لأن يكون فنا أنثوياً، إذ يمكنك أن تعد الكثير من كاتبات ومشاريع كاتبات للقصة القصيرة في موريتانيا.
وكوتا ال20% التي تصاحب مشاركة المرأة في الحياة السياسية رفعتها بنات حواء في شنقيط إلى قرابة النصف في ميدان السرد.
أما أول عهد للمرأة الموريتانية في العصر الحديث بالأدب النثري، وخاصة القصة، فيعود إلى جيل كاتبات القصة اللواتي ظهرن في التسعينات من القرن الماضي، واللواتي تسلط الخليج الضوء عليهن في الموضوع التالي:
رغم أن تاريخ أول قصة نشرت باسم امرأة في البلد يعود إلى السبعينات مع قصة الفتاة المعذبة للكاتبة عائشة زين العابدين ،1978 إلا أن الساحة الأدبية الموريتانية لم يبدأ أو لم يتجدد عهدها بالقصص النسوي إلا مع التسعينات.
ففي التسعينات من القرن الماضي ولدت القصة الفنية المقترنة بتاء التأنيث في موريتانيا وعرفت ملامح تشكلها الحقيقي في تلك الفترة، على يد رائدات لا يصل عددهن إلى عدد أصابع اليد الواحدة، حفرن أسماءهن في الصخر، وطرقن موضوعات كان الحديث عنها يدخل في إطار التابوهات في مجتمع تقليدي ينتمي إليه هذا الرباعي النسوي: خديجة بنت عبد الحي، ومباركة بنت البراء، وأم كلثوم بنت أحمد، وحواء بنت ميلود.
خديجة بنت عبدالحي
ولدت عام 1965 في مدينة المذرذرة، التي تبعد 150 كلم من جنوب شرق نواكشوط، في الجنوب الغربي الموريتاني، وقد تخرجت في المدرسة العليا للتعليم في نواكشوط وعملت فترة في حقل التدريس، ثم عينت أمينة المكتبات في وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي، وهي شاعرة تنتمي لأسرة محافظة عرفت بالاهتمام بالمعارف الشرعية، ورغم أنها وهبت للشعر الكثير، إلا أنها لم تبخل على القصة بإبداعاتها، فكتبت قصصاً قصيرة ضمنت بعضها في كتابها نقوش على جدار الحافلة.
ولا تخلو كلمة الحافلة من رمزية، فما الحياة إلا حافلة بمعنى من المعاني، وبما أنها وسيلة مغرقة في الشعبية، فمن الطبيعي أن تحفل بشخصيات من مختلف مستويات المجتمع، وفي هذا الإطار يندرج الأسلوب القصصي للكاتبة.
وفي قصتها سياحة بين الدروب تواصل خديجة بنت عبد الحي معالجة ذات القضايا التي تشغل زميلاتها في الوطن العربي، المصطدم بالحداثة الغربية، تلك الحداثة التي تحاول أن تقتلع الآخر من جذوره.
مباركة بنت البراء
إلى جانب القصة تكتب مباركة بنت البراء (الشهيرة باسم باتة) الشعر، ولدت عام 1957 في بلدة التاكللات، التي تعتبر من قلاع الثقافة في موريتانيا، تنتمي إلى الوسط الاجتماعي نفسه الذي تنتمي له خديجة بنت عبدالحي (ويعرف بالزوايا)، تلقت تعليمها الأولي في محظرة والدها، ثم ولجت التعليم النظامي فتخرجت سنة 1982 أستاذة في الأدب، وحصلت سنة 1987 على دبلوم السلك الثالث في جامعة محمد الخامس في الرباط وعملت مستشارة في وزارة التنمية الريفية، وهي تعمل الآن أستاذة جامعية في السعودية، ولها مؤلفات شعرية ونثرية عديدة.
ورغم اهتمامها بالإبداع الشعري، وكونها صاحبة أول ديوان ينشر باسم امرأة في موريتانيا (ترانيم لوطن واحد)، إلا أن القصة أخذت بعضاً من وقتها، فكتبت قصصاً منها تكستم أحمد، والميني بيس، والأظافر الحمراء والأخيرة تدور حول مشاكل الخيانة الزوجية، بطلة القصة يخامرها الشك حول إخلاص ووفاء زوجها، وتنصب له مكيدة أنثوية، ويسقط المسكين في الفخ، ومعه ينهار الهرم الأخلاقي الذي يظلل الزوجين، كما أن مجموعتها حكايات الجدة (ثلاثة أجزاء) للأطفال تسبح في إطار تنشئة الأطفال على الموروث التقليدي وعلى محاربة أو قل مقاومة الواقع الجديد.
أم كلثوم بنت أحمد
ثالثة الرباعي الكاتبة أم كلثوم بنت أحمد، من مواليد 1969 في واد الناقة 50 كلم شرق نواكشوط، وهي معلمة خريجة مدرسة تكوين المعلمين سنة ،1987 ومارست التدريس إلى نحو 4 سنوات حيث عينت في منصب إطار ملحق في ديوان وزير التعليم في موريتانيا.
وأم كلثوم هي الأغزر إنتاجا للقصة، فهي لم تطرق ميدان الشعر، ويعتبرها العديد من النقاد الموريتانيين المؤسسة الرئيسية لفن السرد النسائي في موريتانيا، وتشكل مجموعتها القصصية مارية نقلة نوعية في الأدب النسائي الموريتاني، وتتناول العديد من الهموم المجتمعية والفكرية والسياسية في قوالب واقعية ورمزية وسريالية من خلال شخوصها وبيئتها اللغوية وباقي معدات ترسانتها القصصية التي تحكي عن جوانب متعددة من تمظهرات الحياة الموريتانية.
وتعتبر أم كلثوم أن فترة التسعينات هي فترة استحداث فن القصة في موريتانيا وخلق متلق لها، وهي الفترة نفسها التي شهدت ميلاد كاتبات القصة في البلد.
ومن بين القصص الرمزية في مجموعتها الأولى، قصة تلك المشية، التي توحي بانهزام القديم أمام الجديد وهي تدور حول حياة قرية كان أهلها يمشون بشكل طبيعي، قبل أن يباغتهم مرض عجيب قلب عاليهم سافلهم، فأصبحوا يمشون على رؤوسهم، وأقدامهم تعلو متخذة وضعية الرؤوس.
القراءة الأولية للقصة تستدعي في أول مستوياتها أن ما كان عجيبا ومنبوذا صار طبيعيا وعاديا، فالدنيا قلبت، غير أن الهم السياسي والاجتماعي يحضر أحيانا في المجموعة، التي كتبتها قاصة مخلصة للسرد، ولا يفوتنا أن نذكر أنها تنتمي إلى المحيط الاجتماعي نفسه الذي تنتمي له زميلتاها.
وفي قصتها حريق، التي كتبت على لسان راوية أنثى، تهرب من عيون جاحظة، تحاصرها في كل مكان، ما يدفعها للعيش على حافة الجنون، لكن العيون التي تتراءى لها عيون بوم أو خفافيش، ما انفكت تحكم الخناق عليها، فلجأت وهي الراشدة، إلى مسكن لتخفيف الآلام، وليس هذا المسكن إلا اللعب.
وتواصل تذكرت بداية هذا العذاب عذاب العيون الجاحظة.. فمنذ مدة ليست باليسيرة ومعاول تضرب قلبي بلا رحمة ودمار شامل يعصف بي.. أحياناً أقوم بترميمات لقلبي.. وأحيانا كثيرة أتركه للمعاول وأتناساه في خضم الحياة.. وكلما اشتدت ضربات المعاول على قلبي كل ما اتسعت رقعة الدمار في داخلي.. كل ذلك وأنا أرسم قناعا سميكا على وجهي.
ثم أصبحت تتلهى بتخيل أنها تقتل إنسانا شيخ قبيلتي مثلاً أو نائب قريتي أو سر عذابي ودماري، شخوص مختارة بعناية يتبدى فيها الضيق بالمجتمع المحنط، إرادة هدم القديم السيئ يدعمها طموح لبناء الجديد الجيد ومرة أجدني ربة بيت أو أما لأطفال يتامى أو أحفر بئرا وسط الصحراء، وفي النهاية تفشل ترميمات القلب، ويحترق القناع، والآلام تتنامى، والمعاول تواصل ضرباتها في عناد صبور، لترى أشلاءها تناثرت وبقايا دمائها قد نزفت، حينها تفقد الإحساس بالألم.
وتقول أم كلثوم إنها تأثرت في بداية كتاباتها بنجيب محفوظ، وتواصل أسرتني واقعيته الرصينة الهادئة السهلة الممتنعة، فأتت باكورة أعمالي على منواله كقصتي الأجير وملتقى طرق وأين الكبة.. إلخ. إلا أن هذه المحطة سرعان ما تغيرت أعني مرحلة التقليد والتأثر فاجتازها قطار إبداعاتي إلى المشاغبة بالأحداث الواقعية ومزجها بالخيال والأسطورة في أسلوب سريالي ضمن قالب شعري نثري، ومثال ذلك قصصي انتحار والهزيمة والوهم.
حواء بنت ميلود
رابعة كاتبات القصة الموريتانية في التسعينات هي الكاتبة الصحافية حواء بنت ميلود، المولدة سنة 1966 في مدنية ألاق 250 كلم شرق نواكشوط، وقد تخرجت في جامعة نواكشوط قسم الفلسفة سنة ،1993 ثم عملت لفترة في وزارة شؤون المرأة، وهي تعمل حالياً رئيسة وحدة الصحافة المكتوبة في السلطة العليا للإعلام والسمعيات البصرية، وكانت قد أسست مع زميلتها باتة بنت البراء في التسعينات جمعية الكاتبات الموريتانيات التي ترأستها باتة وتولت حواء أمانتها العامة، وتشغل حواء حاليا نائبة رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، وقد عرف القراء حواء بنت ميلود من خلال صفحات يومية الشعب التي عملت فيها محررة اجتماعية في التسعينات.
على أنها سرقت من وقت مهنة المتاعب لحظات سطرت فيها سردا أدبيا لا يبتعد في المضمون عن مواضيعها الاجتماعية التي تطرقها في الكتابة الصحافية، والتي تتمحور حول مشاكل المرأة الموريتانية وإشكالية تقدمها.
في قصتها الأولى هستيريا الغضب تتحدث عن أكبر مشكلة اجتماعية تعصف بالمجتمع الموريتاني، وهي الطلاق الفوضوي لأبسط سبب.
ثم تعود حواء بالظهور في قصة أريد أن أكون امرأة التي تحوم فيها حول جدلية المساواة بين المرأة والرجل، فتتحدث القصة عن سيدة شاءت لها الأقدار أن تكون مديرة لمؤسسة اقتصادية عملاقة، فلبست قناع القسوة وغياب الروح الأنثوية في فترة كانت تلقي خلالها المحاضرات على العاملين حول التعامل الاقتصادي وأزمات السوق، وأشياء لا تمت لروح بنت حواء بقرابة، ثم وتحت ضغط الإحساس بالأمومة والأنوثة تفاجئ عمالها في اليوم الأخير بزينتها ومظهرها الأنثوي ومحاضرتها التي أعدتها تحت عنوان أريد أن أكون امرأة، وفي لحظة من اللحظات تنهار أمام الرجال من موظفيها الذين تخيلوها سيدة فولاذية. تنهار وهي تصرخ ملء فمها أريد أن أكون امرأة.
ويرى الناقد الدكتور محمد الحسن ولد المصطفى أن كتابات القصة في التسعينات تندرج في إطار الواقعية التسجيلية، وهي مدرسة تجنح إلى توثيق الواقع من دون التركيز على الرمز وجماليات السرد الثانوية، ويقول إن التماعات سريالية ورمزية تبدو أحيانا في قصص الكاتبة أم كلثوم بنت أحمد، خصوصا عندما تبتعد عن المباشرة في بعض قصصها.
ويرى الدكتور أحمد حبيب الله، أستاذ الأدب في جامعة نواكشوط والأمين العام لاتحاد الأدباء الموريتانيين، أن كاتبات القصة في موريتانيا بدأن الظهور عمليا مع جيل التسعينات وخاصة مع أم كلثوم وخديجة ومباركة.
ويشير إلى أن القصة النسائية ظهرت مع جيل الرائدات في التسعينات كعمل أدبي مكتمل البناء من الناحية الفنية مع اختلافات كبيرة في المستويات الإبداعية، ويضيف أن الكتابة النسائية في موريتانيا على العموم ضئيلة إذا ما قيست بحجم الكتابات في البلد بصفة عامة، غير أنه مع الجيل الجديد من القاصات اللواتي دخلن الساحة بعد الألفين، يمكننا الحديث عن ملامح نهضة سردية نسائية قادمة في موريتانيا. وخاصة في مجال القصة القصيرة التي لا يبدعها واو الجماعة وحده في موريتانيا، وإنما أيضاً تكتبها نون النسوة.
ملاحظة الموضوع أعده الأديب الشاعر المختار السالم ولد أحمدو سالم لصحيفة الخليج، وتم نشره بها في يونيو سنة2009