في رحيل فقيد الإذاعة “حباب”
الزمان انفو ـ كتب محمد فال ولد سدي ميله في تأبين “الزميل حباب”: شمعة أضاءت دُجُنّة ليالي المتخلفين، المتقوقعين، المشلولين داخل شبابيك نُسجت من رؤى الحمير المستنفرة والدلاء الخاوية والبئر الخربة والعمامة البالية.
شمعة علّمت الأجيال أن الانسان ليس مجرد بطن يصرخ، وأمعاء تتثاءب، ومراحيض نزورها ألف مرة كل يوم لنعيد إلى الدود ما سرقناه من فضلات وفتات..
شمعة عرفت كيف تتوهج في جنح الليل الدامس البهيم.. عرفت كيف تحترق لتضيء الدرب الخافت لألف رفيق ممّن، بعد الردة، “جمع مالاً وعدّده”، وكنَزه، وبخل به، وتباهى، وتبجح.
لم يكن المرحوم حباب إلا حجرا كريما رمانا به القدر، ولما لم نتلقفه، رفعه إلى سماء الصديقين حيث تعيش الأرواح الطاهرة: تلك التي لم تقتل، لم تسرق، لم تتجبر، لم تتجسس، لم تنافق، لم تخن أمانة ولم تعط لقيصر ما لله.
مجبول من طينة أخرى، نعم.. أعماه التعفف حتى تخثرت، واحْمَرّت، فاسْوَدّت قدماه من فرط المشي راجلا.. أعماه التعفف حتى لبس المُرَقعات وافترش الحصى واليتوع وشوك السفا.. رغم ذلك عاش سعيدا، ومات سعيدا، لأنه وُلد بضمير غير أجوف وبعقل غير معتوه.
أجمل ما في أفكاره أنه مقتنع بها، كلها، حتى “الغريبة” منها كدفاعه المستمر عن مساندة الرفاق للحجاج. ليس لأنه صعلوك أو مصاص دماء، بل فقط لأنه عندما يشرب فكرة يستحيل عليه أن يتقيّأها، ولأنه تعوّد على الانضباط فكان به سكّيرا. كنت كلما خالفته الرأي، في هذا الصدد، أرخى العنان لغضبه “المسالم”، فأعود لأهدّئه لأنني أعرف أنه لا يدخل عراكا لفظيا إلا وهو مسلح بقناعات راسخة تجعله حساسا تجاه أي محاولة للمساس بها. إنه النموذج الفعلي للانسجام الشخصي بين تفكيره وقوله وتصرفه، حتى ولو لم يكن معه الحق تارة.
لم يكن حباب في خانة بدر الدين، ذلك الرجل الذي خُلق لتهييج الجماهير وتعبئة وحشد الجموع. كما لم يكن في خانة ولد مولود، ذلك الرجل الذي خلق لمحاورة النخب وإقناع الخواص. بل كان في خانة أخرى خُلقت للقيام بالمهمات الصعبة: من تحسيس سري عبر سفر مُضن، إلى نقاش انفرادي لإبلاغ فكرة شديدة الحساسية، إلى تشكيل خلية في غور بعيد، إلى تنسيق مهرجان سياسي، إلى غير ذلك من المطبات الميدانية. رفاق الفقيد حباب، كما فهمتُ منه ومنهم، يتوزعون على ثلاث خانات. كان المرحوم متربعا على عرش الخانة الثالثة دون منازع.
قد أجد الفرصة سانحة، في قابل الأيام، لتناول أحداث ومواضيع حدثني عنها الفقيد، بعضها يتعلق بمساره النضالي، وبعضها يتعلق بفكره التقدمي: بدءًا بيوم ذي مسغبة اكترى فيه، مع رفيقه الراحل سميدع، بيتا قصديريا، في حي بائس بمدينة بانجول الغامبية هربا من بطش السلطان، مرورا بمحاولة الإلتحاق بالفدائيين في سوريا، وانتهاء بموقفه من آخر فصل في مسرحية “الحمار ومجرى النهر الهزيل”.
يمينًا، لنِعْمَ الشهمُ كان.
كانت له الفراديس موطناً، والرحمات حضناً، “ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”.