الضرير
الزمان أنفو _ كتب محمدالأمين محمودي:
بعد سنوات من الرتابة والاستسلام للعاهة الطارئة،قررت أن أخرج من القبو الذي حشرت نفسي فيه،ففي النهاية لن يعيد البقاء في الظلام والاستماع لنفس الأصوات بصري الذي فقدته ذات ليلة في رحلة الخطوط الفرنسية القادمة الى انواكشوط،صحيح لم أتمكن من رؤية أطفالي في المطار،لكنني تظاهرت بأنني أراهم،أخبرت زوجتي همسا بأنني سأتوكأ عليها حتى نركب السيارة،لم تفهم لكنني وخزتها في الذراع فظنت انني مصاب بالدوار وانني أخفي الأمر عن الأطفال،في البيت دخلت وسألتها الاتصال بكل الأقارب من الأطباء..بدون مقدمات فقدت بصري،وأعلن رسميا في انواكشوط أنني أصبحت أعمى وعمري لم يتجاوز الأربعين،تطلب تقبل الأمر أياما بل سنوات، كنت أتخيل خلال الأيام الأولى أن مسحة من غسول الشاي ” التشليلة” تكفي وان القذى سيزول، وبالتالي سأرى، لم يحصل ذلك فقد كبرت وأبواي لم يظلا قادرين على منحي ذلك البصر..أنا الآن في الخمسين من عمري وتقريبا تعودت على التعرف على الأشياء بالحواس الأخرى،آلمني خلال هذه السنوات اكتشافي بأن اهتمام الكثيرين بي تراجع..في بعض الأحيان تخرجني زوجتي في جولات لزيارة الأقارب او لنتنسم بعض الهواء،،لكنني صرت أميل الى الانزواء والبقاء في غرفتي والاستماع للقرآن الكريم او لبعض الترانيم الصوفية،حتى أطفالي وهم يكبرون صرت أعاملهم بمايعتقدون هم أنه جفاء،والحقيقة انه نوع من ابعاد الحزن عنهم،لا أريدهم أن يحزنوا كل ثانية وهم يرونني عاجزا عن التصرف بمفردي ودون الاستعانة بأمهم.لم أكذب على نفسي وأطلب من “ديمي مور “ان تقرأ لي وترتب لي أفكاري وتصبح عيني التي أرى بها،لكنني قررت أن لا أستسلم.
قررت اليوم أن أخرج وحيدا،لسبب لم أعرفه بعد،حمام دافئ،بعده طلبت منها اخراج بدلة داكنة اللون وربطة عنق سوداء
– جميعها مغبرة والحقيقة ان وزنك زاد قليلا
– انفضيها وقدميها لي من فضلك،اما عن وزني فأعرفه،ولهذا طلبت الداكنة.
– لابد انهاتزم شفتيها و تتبرم الآن وتشكو حظها العاثر،لايهم فأنا سأخرج،ولابد ان أفعل ذلك.
– طلبت منها ايصالي الى مقهى يكون في زاوية شارعين او زقاقين.
– لبست، تعطرت ، قليل من مثبت الشعر لايضر،وحين خرجت من البيت اكتشفت ان الجو بارد جدا عكس الحال في القبو او غرفة النوم،جلبت لي المعطف الأسود.
– ترجلت من السيارة امام المقهى فطلبت منها ترك العصا معها لحين عودتها
– – لاتعودي الا بعد ان أتصل
– لاحظت ان المكان هادئ اكثر من اللازم،كيف لم يستيقظ الناس بعد والساعة تجاوزت السابعة بدقائق
– لايهم،فلي عالمي وسأعيشه،افترضت ان “ماتيلد” النادلة استقبلتني بعطرها الزكي وابتسامتها العذبة وبسؤالها التقليدي
– الم تتعبك المسافة،هل لديك طقوس دينية تفرض عليك المرور من امام اللوفر والسير لنصف ساعة حتى تصل الينا
– لا لا ماتيلد رؤية اللوفر يفتح عينيه، والباريسين وهم يشترون الخبز والصحف مناظر لاتمنحها الطبيعة الا للقليلين خاصة في هذا البرد الدافئ
– هههه البرد الدافئ،تعابيرك عجيبة..،طلبك المعتاد؟
– طبعا،قهوة بلاحليب ومطفأة وقنية ماء صغيرة
– تحسست الأغراض،وتناهى الى اذني صوت “الزا واكلين ميديروس” وهما يحبان بعضهما بلغتين مختلفتين، وحدهما انزال النورماندي بعد ان فرقتهما الجغرافيا والرطانة..أرشف من قهوتي بهدوء وأنفث الدخان ثم ارى الدوائر تزاحم بعضها حين تشق الطريق الى السماء،والعجوز صاحبة المعطف الذي لم تغيره لعشرين سنة مازالت تبتسم من بعيد،وشفتاها تتحركان بسرعة اقل،بونجووووور.. فتيات يسلكن طريقهن الى الجامعة،وعازفة الفيولا تكنس الأرض بفستان مكشكش لتبرز ثناياه كحلق الزمن الغجري.ينساب القماش خلفها ويتخطى الكاحل..ترتب خشبتها هكذا كل يوم.أكمام الفستان طويلة،اما الألوان فكثيرة لكن مع طغيان الأحمر الذي يدخل جميع الرسوم والأشكال ليتصرف في ماهيتها.
– ماتيلد،أوقفي المذياع فقد جاء الفيولا،
– منذ سنتين تقريبا وهذه الغجرية المبدعة تنتبذ مكانا يمنحنا وحدنا الرؤية والسماع وكأنها خلقت لتغني لرواد “لويس كافى” او المارين من ” ري دي ابيتي شامب” فقط،لو أنهم ادركوا كيف تصل هذه المرأة الى أماكن في القلب ماوصلها فن قبلها،لو أنهم يستمعون معنا الآن لصنفوها تحفة فنية ولاتخذوا لها مكانا في اللوفر،لكنهم لم يشاهدوا منكسة الشعر الغجرية وهي تتحرك جيئة وذهابا ويداها تصنعان المستحيل لتسعدنا..حاولت مرات ان أجعلها تلحن ” تاجوبون” ل ” اسماعيل لو”،أردت دمج الجوين والايحاءين في لحن غجري افريقي لكنها لم تتمكن بعد.فالسنغالي يخنق أنفاس الساكسفون ببراعة لم يستطع المستعمرون استخلاصها منه.
– ماتيلد تدرك انها ستتناصف اكراميتي مع الغجرية لكنني لست مستعجلا..بعدالمعطف خلعت السترة وفتحت ربطة العنق قليلا ومددت ساقي الى الأمام واسترخيت،كانت الألحان تحملني الى حيث أريد.
– نبهتني تلك اليد الى ان الشمس استوت في كبد السماء،قلت لها وانا استند عليها ولكنني لم أدفع لماتيلد والغجرية،قالت سأدفع الحساب للنادل المغربي،انه يعرفني تماما كما سمع بك ويعرفك كل سكان انواكشوط.
– في السيارة،فكرت في الذين مروا من أمامي،لابد ان ابنة السفير التي احببتها في الطفولة وفرق بيننا تعيين والدها سفيرا في الجزائر،لابد انها مرت وزوجها،لابد انها نبهته الى الأعمى الخمسيني الذي يرتدي معطفا في انواكشوط،ثم ختمت له الحديث عن شهاداتي ونجاحاتي بأنني ضرير..لابد أن اصدقاء لي مروا ولم يكلفوا أنفسهم عناء التحية فأنا ببساطة لا أراهم،ثم لابد ان واحدا حاول سرقة هاتفي،ولابد ان الكراسي كانت عامرة وقت مجيئي وان الناس استيقظوا مبكرا وانهم كانوا يتحدثون قريبا مني ويصرخون ويبيع بعضهم لبعض،لأنني لا اراهم قررت ان لااسمعهم،لايهم أن فاتني ماقاموا به فذلك عالمهم،اما انا فخلقت عالمي، اذ الذكريات تعيش ومنها نقتات حين نتوقف عن انتاجها او تنميتها..
– كنت قبل ثوان في باريس في جادة احبها وركن بديع خصني الله به..كنت شيئا مهما لذا لن أقبل بقتل نفسي ودفنها فقط لأن الله اغلق عيني عن مشاهد الموت والحروب والنفاق والرياء..سأعيش لكن بطريقتي..فقط حافظي لي على اشيائي التي امتلكتها وعرفتها حين كنت أرى.