أم مشاكلنا اليوم / سيدي علي بلعمش
الژمان انفو _
تعيش موريتانيا اليوم حالة تخبط مفزع ، في تصاعد مستمر مخيف، لأنه مؤشر انفلات يتحدى كل وسائل سيطرة النظام ، المرتبك أكثر من الجمهور:
ـ أن تقبض الشرطة على مجموعة أشرار، تم تزويدهم ببضعة أسئلة تنم طريقة طرحها عن مدى اضمحلال مستوى إدراك أصحابها، لركوب موجة الإساءة (مدفوعة الثمن ) إلى دين أصبح انتشاره يرعب دوائر القرار الغربية، هذا يحدث كل يوم في كل بلد عربي و مسلم..
ـ أن تتطاول مجموعة من المعتوهين ، ألقى بها الجهل المركب و الطمع بسبب ترهل الشأن العام في البلد، لتطالب بإعادة تأسيس الدولة على طريقة تسخين وجبة باردة في الثلاجة، بالتعاون مع مجموعة من القاصرين و غير قاصرات الطرف ، يريدون “موريتانيا علمانية” أي “ملحدة بعداء الغرب و وقاحة الجهل” ، لا يعرفون هل العلمانية مذهب ديني أو نظام حكم أو علاج بالكي ينفي نجاعة كل الاكتشافات العلمية ، فتقبض عليهم الشرطة ، لا لتطرف أفكارهم لأنهم لا يحملون أي أفكار و إنما لضبط إيقاع الحياة على ما يخدم سكينة المجتمع ، كما يفعل العالم أجمع، فهذا لا ينبغي أن يختلف في شيء عن القبض على لصوص يحاولون كسر باب محل.
لكن موريتانيا هي وحدها من لم تفهم بعد، أن هذه الهزات العنيفة ، المتتالية و غير المتوقعة، التي تجتاح البلد و ترعب أهله ، لا تعود إلى جنون المجتمع و لا إلى ضعف أمنه و لا إلى طفرة الملتيميديا؛ كل العالم اليوم يتعايش بأمان، مع سرعة إيقاع الحياة الحديثة و مع نزق وسائل التواصل اللا اجتماعي (لأنك فعلا تهرب من المجتمع حين تدخل العالم الافتراضي و هي بهذا المعنى لا اجتماعية بامتياز).
الوسيلة الوحيدة التي استطاع العالم من خلالها التعايش بأمان مع سرعة الزمن و تقدم التكنولوجيا و تطور الحياة و غرائب أطوارها، هي وسائل الإعلام المهنية ، المحترمة ، المحترفة ، الموجهة للجمهور و الحامية للذوق العام و الفكر و الوجدان . أما نحن فقد خلقنا له (بالضبط و على المقاس) الإعلام الذي يحوله إلى جنون جماعي بلا ضوابط و لا معايير و لا نواهي و لا ممنوعات و لا شيء يمكن فهمه. تلك هي مشكلتنا ؛ فبدل أن تحول وسائل إعلامنا هذه الممارسات السخيفة إلى أضحوكة (كما هي في عبثيتها) و قضيتهم إلى مواضيع كاريكاتير كما يحدث في العالم أجمع، تحاور صحافتنا ولد امخيطير كمنظر سياسي و بنت المخطار كمفكرة يسارية و ولد بومباي كمعارض نخبوي و هلم جرا و كرا “(…) كجلمود صخر(…) ”
على الحكومة أن تتحمل مسؤولياتها و تسكت كل هذا الإعلام الغوغائي المزور بكل معاني الكلمة و المسيء إلى السلطة و إلى المجتمع و إلى البلد و إلى نفسه . و المسيء أكثر إلى الإعلام في كل جوانبه و أوله الإذاعة الوطنية و التلفزة الوطنية و وكالة الأنباء الوطنية ..
أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الإعلام هو أن يفقد ثقة الجمهور. و لا يمكن لوسائل إعلام مهمتها الوحيدة الثناء على النظام و تغطية أخطائه ، أن تكسب ثقة الجمهور (هذا ما يجب أن تبدؤوا به).
و لا يمكن لنظام محترم أن يظل يبرر ديمقراطيته الكاذبة بالسماح لكل جاهل و كل من هب و دب بفتح صحيفة و قناة فضائية و أخرى إذاعية. و لا يمكن لمؤسسة سياسية، دعائية مثل الكلبة هابا ، أن تظل الإطار المهني الموجه لمثل هذه الدكاكين الإعلامية التجارية ، غير الملتزمة حتى بأخلاقيات التربح المشروع.
على الدولة أن تغلق كل هذه الأبواق السخيفة، المجنونة ؛ من صحف و قنوات و مواقع ، لا باجترارها أمام المفوضيات و القضاء و إنما بإلزامها (فقط) بأدنى حد مما يلزم به العالم صحافته:
ـ أن يكون الصحفي صحفيا (كما تلزمون سائق السيارة برخصة قيادة من جهة مخولة) : هل من المعقول ـ حين تطالع خبرا ـ أن تجده رديء السبك، مليء بالأخطاء من كل نوع ، ثلثه خبر و ثلثه تقرير و ثلثه تحليل؟
ـ أن تكون هذه المؤسسة التجارية (و ليس عيبا أن تكون وسيلة إعلام مؤسسة تجارية) لها رأسمال معلوم ، يحميها من إلزامية التسول و يحمي عمالها من نصب إدارتها و التلاعب بمصالحهم بسبب عجزها عن القيام بالتزاماتها .
ـ مؤسسة تنصب على عمالها لا يمكن أن تحمي مجتمعها: يجب إلزام هذه المؤسسات بمسطرة تحمي حقوق عمالها و تضعهم في ظروف تعزز استقلاليتهم الفكرية (الجائع محكوم عليه بظروف جوعه لا بقناعته مهما تشبث بالمثل)
ـ أن لا يظل الطابع التجاري (المشروع جدا) هو الواجهة الوحيدة المعلنة لوسيلة الإعلام ؛ هذا المظهر لا يليق ببعض المؤسسات مهما كانت تجاريتها ، مثل التعليم و الطب و الإعلام (…)
ـ أن يكون طاقم وسيلة الإعلام من صحافة و إعلاميين و كتاب ، على وعي كامل بإشكاليات العالم و تابوهات المهنة و خصوصيات بلدهم ..
هذه الصحافة الشاذة ، القاصرة، المتسولة، الجائعة، الجاهلة ، الفوضوية هي مكمن كل المخاطر في بلدنا و ما لم يتم تدارك انفلاتها المجنون لن يكون هناك استقرار من أي نوع على أرضنا : تلك هي أم مشاكلنا اليوم .