انفعالات عدوانية / سيدي علي بلعمش
ما يجمع الناس في هذا البلد و في كل بلد آخر، ليس الدين و لا العرق و لا الثقافة و إنما هو “الدولة” بالدرجة الأولى. الدولة هي الحاضنة التي تنمو فيها كل هذه المكتسبات و الطموحات الفردية و الجماعية. و حاجة الإنسان إلى الاستقرار و العدل و المساواة و الرفاهية هي ما يعطي “الوطن” هذه الأبعاد الوجدانية اللا متناهية التي تعبث بها المافيات “الموريتانية” المتعاقبة على الحكم و لوبيات النفاق من كتاب و مثقفين و فنانين و سياسيين و تجار و طفيليين يعيشون في ظلهم و يسبحون بحمدهم و يعتلون أعلى المناصب و ينفردون بأهم الامتيازات دون وجه حق بفضل علاقاتهم السخيفة بهذه العصابات الحقيرة المستبيحة لكل شيء في “وطننا” المختطف منذ ولدت “الدولة”.
ومن رحم هذا الخليط الهجين ولدت ثقافة ديوث المنطق، أنثوية التعرض، مخنثة التسلط و السقوط: كل من يعارض أو يخالف رأي “حكام” موريتانيا خائن للوطن لأنهم هم الوطن .. و قبيلتهم هي العصب الحساس الأوحد؛ يسبونك إذا تعرضت لابنهم بغير ما يرضيهم .. يرمونك بحسدهم على ما أتاهم الله من فضله بتولي هذه الغنيمة السمينة .. يوشمونك بالحقد على القبيلة التي لولاها لما كانت موريتانيا شيئا .. و لا صارت “على ما هي عليه الآن” من تقدم و ازدهار بفضل توليهم الحكم..!؟
يصبح لهم ريش ينفضونه على الجميع.. تنبت أظافرهم و أنيابهم بين عشية و ضحاها.. يصبحون أشرافا لا يشكك في انتمائهم إلى آل البيت إلا حاقد، حاسد، خبثت نفسه إلى حد السخط.. (و لا أحد يستطيع أن يفهم إصرارهم على تلطيخ الشرف بآثامهم الساقطة..!) يتسابق الطفيليون الذين يعيشون في أحضانهم من كتاب و سياسيين و أوباش إلى سبك في كل مجالسهم إرضاء لخواطرهم المريضة.. ينهشون تارة من نسبك و أخرى من عرضك و ثالثة من مواهبك و رابعة من أفكارك التي تحركها على الدوام ـ في نفاقهم المخجل ـ أيادي خفية معادية لموريتانيا و العروبة و الشرف..!
ويتقن المنافقون فنيات العزف على نقاط ضعف العصابات بمهارات تنم عن تمرسهم و خبراتهم الواسعة في التلاعب بعقول أصنامهم في السلطة و المعارضة : فلأنها عصابات بدائية لا تفهم غير ما تعرفه في نفسها و لا تصدق أن يكون على وجه الأرض من يسلم من بعضه، ينحتون لك تمثالا من عيوبهم ليصبحوا (في نتيجة عكسية في اللاوعي) يعشقون سماع مثالبك الحقيرة : عميل، مرتزق، مرتشي، مأجور، تحركه أيادي خفية، يريد من يسكته ببعض الفتات، قبلي، جهوي، عنصري، حاقد، حاسد، منتقم، متسلط..
هذا الجيش الأعزل من الببغاوات الطفيلية (من المرتدين وطنيا)، يشكلون دائرة إزعاج من حول كل رئيس عصابة في البلد، يهاجمون كل من يقع في مرمى نيرانهم بطوفان من ساقط الكلام، ينهزم أمامه كل من لا يعرفهم : هم ثلة من متسلطي الألسنة من الجهلة و أنصاف المتعلمين و أرباع العقلاء و أخماس الأسوياء و أعشار البشر، يسخرون حياتهم لخدمة صنم لا يأتي دونهم في شيء، يحتاجهم للتغطية على جرائمه و يحتاجونه لتغطية حاجياتهم المعيشية.. يرددون أكاذيبه حتى يصدقونها و يستعذب نفاقهم حتى يكذب نفسه.
يمكن أن تطلق النار على ولد عبد العزيز أمام أحد وزرائه لكن لا توجه له كلمة سوء أمام زوجة وزير أو مدير أو أمين عام، إذا لم تكن تريد أن تطلق عليك وابلا من آخر ما أنتجته صالونات مكسري الأيادي من عبارات جاهزة تمجده بما كان ينبغي أن يكون أسوأ ما يقال فيه..
يمكن أن تنتقد سياسة أحمد ولد داداه كما تشاء أمام أي من مساعديه لكن لا تحاول أن تفعلها أمام أحد من منطقته لأنه لن يجد تفسيرا لما تقوله إلا من خلال شحنته المرضية : أنت قبلي و جهوي و حاقد و حاسد..!؟ لقد أسس هذا الرجل مدرسة خطيرة ، تعتبر موريتانيا محتلة ما لم يكن ولد داداه هو رئيسها و المشكلة الأكبر أن كل المعطيات العقلية و النقلية تؤكد أنه لن يكون رئيسا لموريتانيا حتى لو عاش ألف سنة.
لكن عزاءنا في أن لا أحد يستطيع انتشال ساقط من السقوط و لا أحد يستطيع الدفاع عن عصابة تعيش على الكذب و النصب و الاحتيال مهما كانت مواهبه، لأن تبجحها بالأخطاء جزء من تربية راضعة، أكبر من دموع تماسيح كل المتزلفين ..
المنافق إذا تكلم يحتقره الجميع و إذا سكت يموت من الجوع لكنه في بلدنا سيد آمر ناهي لأن النفاق جزء من ثقافتنا الواسعة.. من تراثنا الأصيل .. من عبقريتنا الخالدة ..
نحن ندافع عن أرضنا المنهوبة.. ندافع عن كرامتنا المداسة.. عن شعبنا المستباح..
ندافع عن وجودنا بغضب، لا نعتذر عن إزعاجه .. لا نبرر زلات سقطاته.. لا نبالي بما يخلف من آلام موجعة في نفوس من لم يحسوا يوما بآلام شعب يطحنه الفقر و المرض و التخلف و التشرد بسبب تحكم عصابات في مصيره، لم يستحقوها بعبقرية و لا دهاء و لا أخلاق .. بل عصابات حقيرة حكمها المستعمر في رقابنا و رسم لها خطة الاستمرار بدقة و وفر لها مظلة حماية وارفة الظلال ليصبح نهبها بناء و تزويرها ديمقراطية و قمعها حرية تعبير و حمل لافتات منزوعة السلاح لتبرير كذبة ديمقراطيتها “معارضة”..
نحن في ورطة حقيقية، لا لأن أنظمتنا على هذا المستوى من الانحطاط و التخلف و التبعية و إنما لأننا بلد بلا نخب .. بلا قوى ضغط لا خشنة و لا ناعمة .. بلا مثقفين ..
ـ هناك سلطة دينية في البلد تتمثل في الإفتاء و القضاء و المساجد، تخجل حين ترى تطويعهم للآيات المطهرة و الأحاديث الشريفة لإرضاء خاطر زنديق جبار، يستبيح شعبا أعزلا، باسم “ولي أمر” لم يفهموا معناه في الفقه و أسقطوه في غير محله في الديمقراطية.. السلطة الدينية في هذا البلد أصبحت (مثل الحركات الإسلامية المسلحة) مأجورة للإساءة إلى الإسلام ، خدمة لـ”أولياء أمر”، ينصبهم الغرب لتدمير الإسلام و المسلمين، متظاهرين بجهل حقيقة كان أولى بمن يجهلها ان يبحث عن من يفتيه في أبسط أمور نفسه.
ـ هناك سلطة ثقافية، أصبحت فرقة تهريج مجوقلة في موكب وزيرة الثقافة المتنقل بين المدن القديمة، لإحياء أماسي شهرزادية معوضة الفرجة بكل مشتقاتها و التهريج بكل شقوقه و التبرج الثقافي و الأخلاقي بكل شقائق نعمانه.. المثقف تقال للمتعلم اليساري الشجاع و من لا تتزاحم هذه الصفات الثلاثة في صدره بغضب يمارس الدعارة الثقافية مثل أقزام لائحة دعوات وزيرة الثقافة .
هناك سلطة سياسية، يتخطفها الخوف و الطمع في دوامة لا تمل الدوران حول نفسها: الأحزاب السياسية مدارس تسول أفسدت الجمهور و أفلست الدولة ، تزور إذا زور النظام و تكذب إذا كذب النظام و محال أن لا يزور النظام و يكذب ..
ـ هناك سلطة تشريعية، البرلمان مثل رابطة الأئمة يدعو الله أن يطيل بقاء النظام في تخلفه و مخالفته ليبقى هو .. و القضاء مثل البرلمان يدعو الله أن يعم الجور و الفساد لتنتعش سوقه .. لا يكلم النظام إلا من خلف حجاب و لا تكلمه الناس إلا من خلف آخر : هذه الوسطية (مثل وسطية علمائنا) حولته إلى فأر مذعور أمام النظام و إلى عربيد جبار أمام الشعب .. و قضاؤنا مثل العسكر، لا يكون ديمقراطيا إلا ليظلم و لا دكتاتوريا إلا ليظلم و لا عادلا في حق جهة إلا ليكون ظالما في حق أخرى.. و قضاؤنا مثل أمننا إذا احترمته تحتقر نفسك و إذا لم تحترمه تسئ إليها ..
ـ هناك سلطة عسكرية تم فصلها عن الجيش كقوة موازية بميزانية خاصة، ولاؤها لرئيس الدولة لا لموريتانيا و مشكلتها الأولى مع الجيش لا مع الشعب ، تحتكر القوة و السلطة و تضع الجيش على الواجهة مثل حزب الدولة لتحمله الناس مسؤولية ما يحدث و هما آخر من يعلم..!
هناك سلطة إعلامية (الروابط الصحفية، الهابا، وزارة الإعلام، صالونات رجال الأعمال) هنا تتجلى مشكلة موريتانيا الحقيقية .. مشكلتها التي تلد كل يوم ألف مشكلة .. مشكلتها المستعصية على كل الحلول .. مشكلتها التي يتأكد من خلالها أن موريتانيا لن تخرج أبدا من مشكلتها : الروابط الصحفية تمنع عليها مادة سرية (حسب ما نفهم من شروط القبول لدى الجهات الرسمية) أن يكون على رأس أي منها غير أمي سبق أن عرفه الجميع يمارس حرفة يدوية.. الهابا مفوضية شرطة، تم انتقاء أعضائها على طريقة بازيب: الجهة و القبيلة و الوفاء و غياب الطموح، لا يمكن أن تجد أي دلالة لسلطتها و لا علوها و لا صحفيتها : ولاؤها للنظام يجعلها متسلطة سافلة و جهلها للصحافة يجعلها أضحوكة مبكية لكل متألم لأمر موريتانيا.. وزارة الإعلام كان أرحم بها أن تكون وزارة إعلان وفاة الإعلام ؛ إذا حضرت لا تسأل و إذا غابت لا يسأل عنها، سلطها ولد الطائع على الصحافة بالمادة (11) و سلط الله عليها ولد عبد العزيز بالهابا، فلم تكن شيئا حين كانت مهمتها الوحيدة إفساد الصحافة و لن تكون شيئا حين لم تعد قادرة على إفساد غير نفسها .. كل تجار التجزئة في موريتانيا أصبحوا يحملون جوازات سفر رجال أعمال و رخصة (بعشر آلاف أوقية) للإيراد و التصدير (تلك قصة أخرى للنصب و الاحتيال ليس هذا مكان سردها)؛ صالونات رجال الأعمال أصبحت موائدها الدسمة تجلب “النخب” الجائعة لتتحول إلى مؤسسات إعلامية بما يتلاقح فيها من أفكار و تحاليل، تحمل إلى فخامة رئيس الجمهورية في شكل وشاية أو مقترحات شخصية حسب خطورتها أو أهميتها) .. الجرائد في البلد تجارة بائرة و موضة قديمة، أتخم ولد اعمر شين سوقها بالتراخيص لأصحاب التكاسي و الحلاقين و المتسولين فتحكم فيها أصحاب هذه المواهب ولفظت كل النخب و المبدعين.. المحطات الإذاعية أصبحت خطوط ساخنة للدردشة و التعارف و تبادل العناوين على الهواء بأساليب ركيكة و طرق مهينة .. المحطات التلفزيونية نقلة نوعية، تنم عن جراءة الموريتانيين على اقتحام كل صعب بأقل دراية و أقل وسائل : لا شيء في هذا البلد يخجل أكثر من أسئلة مقدمي البرامج التلفزيونية .. لا شيء يدعو إلى الشفقة أكثر من ارتباكهم أمام ضيوفهم و تخبطهم و انتحارهم أمام الملأ على جدار الثقافة .. البرامج غير محددة المهمة و التناول .. مقدموها لم يتم اختيارهم على أي معيار كفاءة .. دور المخرج و المقدم مختلط في كل شيء .. كل المحطات التلفزيونية إخبارية، سياسية، ثقافية جامعة لأنهم لا يستطيعون الالتزام بخط مرسوم .. البرنامج الثقافي، اجتماعي سياسي إخباري جامع لأن ضوابطه غير واضحة في ذهن مقدمه غير واضح المعالم هو الآخر.. كل شيء و أي شيء لملء وقت البرنامج لا لإثراء موضوعه؟ .. و سيأتي وقت (قريب) تدخل فيه إحدى هذه المحطات العابثة، البلد في مشكلة لن يعرف كيف يخرج منها إذا لم توضع ضوابط صارمة لهذه الجراءة الزائدة في تناول أخطر المواضيع بين صحافة مزورة و ضيوف انتهازيين، يعيشون على المبالغة في الإثارة.
ـ هناك سلطة اجتماعية (نساء النخبة المخملية، شيوخ القبائل، الأعيان، السحرة، المشاييخ الدينية المغشوشة)؛ هؤلاء هم من يتحكمون في النظام و المعارضة و النخب و العامة بخزعبلات شتى منها الموضة و العادات و النخوة و الخوف من وشمة الإنكار و سمية لحم العلماء : عهرهن أصالة.. توددهم للأقوياء بطولات .. “جهلهم” مجرحة (لمن يراه لا لمن يعيشه مثل أخطاء ولد داداه) .. نصبهم و احتيالهم معجزات إلهية و عجزهم و غباؤهم صفات توحيدية.. لحمهم مسموم و علمهم مسموم و قولهم مسموم و فعلهم مسموم لكنهم أولياء (النظام) لا خوف عليهم و لا هم يحزنون..
هذه المافيات الأصيلة بكل اعتباراتها المزيفة هي من أوصلت موريتانيا إلى ما هي فيه اليوم من فوضى و تخلف و تخنث و تخبط و انحطاط مخجل على كل المستويات، في الأخلاق و القيم و العادات و القوانين و الأعراف : المساجد تبنى بالنصب و الاحتيال، الإمامة تستحق بالنفوذ و المؤامرات، المنظمات الخيرية للتكسب، الوظائف السامية للسرقة، أصحاب رؤوس الأموال الضخمة أكثر الناس مذلة و خضوعا، أصحاب الشهادات العليا يسيئون إلى العلم بشهادتهم بحكمة و تنوُّر تخبط المتنفذين. لا شيء في موريتانيا يمكن أن تَبني عليه أملا في خروجها من ورطتها؛ لا صدق جيل و لا إصرار آخر و لا عصامية ثالث و لا ورع رابع و لا إيمان خامس بغير حتمية الانصياع لقهر أمر الواقع ..
النساء تطالب بكوتا و الزنوج بكوتا و الحراطين بكوتا و “المعلمين” بكوتا : هذا هو التفكير العنصري بعينه في أقبح تجلياته و أسوأ مضامينه و يخلط هؤلاء بين البيضان (الأكثر بؤسا على وجه هذه الأرض) و ثلة من الأسر التقليدية، تمالأت مع المستعمر و حكمها في رقاب الجميع بميكانيسمات محترفة تهدف إلى الحفاظ على مصالح فرنسا و تشويه صورة البيضان الذين وقفوا في وجه مشروعها بكل رفض و استماتة. و ما زالت السفارة الفرنسية في نواكشوط تدللهم و تفرض تعيين أبنائهم على كل نظام يحكم البلد. و لا شك أنكم تتذكرون اتهام فرنسا لولد عبد العزيز بالتنكر للإرث الفرنسي في موريتانيا الذي تمت معالجته بإطلاق اسم المختار ولد داداه على أهم شارع في قلب العاصمة..!؟ و مع هذا يتهمني البعض اليوم بالحقد و الحسد لأنني قلت بأنه كان واليا لفرنسا لا رئيسا لموريتانيا. و لا أفهم في الحقيقة لماذا أحقد عليه و لا علامَ أحسده!؟
و كان على المحتجين على التفاوت الطبقي في المجتمع أن يتوجهوا إلى السفارة الفرنسية التي فصلته على المقاس و أسست الدولة الموريتانية على خريطته لنفهمهم، لا أن يوجهوا اتهاماتهم إلى مجتمع البيضان الذي كان آباؤه يحملون “كوية” على رؤوسهم من أطار إلى النعمة بسبب رفضهم للمشروع الاستعماري المسؤول عن كل ما يحدث في موريتانيا اليوم.
إن ضعف الأنظمة الموريتانية و ارتباطها المخجل بالسفارة الفرنسية و جهل النخب و تواطؤها هو ما يغطي على هذه الحقائق التي أصبح من الواجب أن نثيرها بكل تفاصيلها ليفهم الجميع أنه ليس من مصلحتهم أن نتكلم عن هذا التاريخ الذي ينتقون منه ما يستفزون به هذه الأنظمة للحصول على وظائف أو مكاسب على حساب من دافعوا بدمائهم و أموالهم عن موريتانيا و كرامة الإنسان على أرضها.. إن البيضان الذين صنعهم المستعمر و حكمهم في كل شيء (مثل الرماة السنغاليين) ليسوا هم المجتمع البيضاني الذي قاومه بضراوة و أثبت بكفاحه المستميت في أصعب الظروف بأنه مجتمع حضارة و شموخ استحقهما بعناده و تمسكه بقيمه .. و لن تكون موريتانيا بلدنا الذي نحاسب على أخطاء أنظمته ما لم يصبح تدريس سير بكار ولد اسويد أحمد و سيد أحمد ولد أحمد ولد عيده و سيدي ولد مولاي الزين و غيرهم، إجباريا في مناهجنا التربوية . أما من يحتجون على موريتانيا ولد داداه و ولد الطائع و ولد عبد العزيز، فعليهم أن يتوجهوا إلى سفارة فرنسا لا إلى مجتمع البيضان.
فمن هي الجهات التي كانت تحتل موريتانيا و التي يطلب منها هؤلاء استرداد حقوقهم ؟
هل هي المستعمر الفرنسي الذي يحرضهم اليوم على البيضان أم هي الأحكام التي فرضها على موريتانيا بعد انسحابه المسرحي؟ أم هي أمم خلت ، ينتقمون الآن من الجينات الوراثية لمن يدعون الانتماء الحضاري لموروثها؟
لقد أنتجت الثورة الزراعية نظاما إقطاعيا لصالح الملاك سادت فيه القبلية و الجهوية في كل أنحاء العالم و أنتجت الثورة الصناعية نظاما مافيويا سادت فيه العصابات باسم الديمقراطية و طحنت بلا رحمة كل ضعفاء العالم و تسيدت هذين النظامين الدول الغربية نفسها. و على من يرفعون شعارات هذه المظالم أن يتوجهوا إلى السفارات الغربية. لكن عليهم أيضا (للإنصاف فقط) أن يتذكروا من دفعوا فاتورة 70 عاما من الاستعمار بشلال من الدماء !؟
و الحقيقة أن هؤلاء جميعا هم من يرفضون أن تكون موريتانيا دولة لأن لا نصيب و لا مكان و لا كلمة في الدولة لمن يعيشون على آلام الآخرين مثلهم.. لمن يتاجرون بقضايا الوطن مثلهم ؛ فأسوأ ما يصدم “المعارضة” اليوم هو أن يقوم “النظام” بعمل جيد .. و أسوأ ما يمس الحركات الزنجية العنصرية هو أن يقدم النظام حلا للمشاكل التي تعيش عليها نخبهم و تتوظف على أساسها .. و أسوأ ما يزعج “النظام” هو المطالبة بالاحتكام إلى برنامج شفاف يحول “كبة البيكم” التي يدحرجها منذ قيامه إلى بلد محترم له مكانته في العالم: فكيف تخرج موريتانيا من ورطتها إذا كان الجميع لا يريد الخروج منها لأن الخروج منها يخرجهم جميعا من اللعبة؟
كل هؤلاء عصابات تتوزع الكعكة الموريتانية بطرق ذكية تعطي لخطاب كل جهة منهم مبرراته الوجيهة .. و ليس فيهم فاشل و لا غبي و لا عاجز كما نعتقد بل نحن الفاشلون ، الأغبياء، العاجزون : فكلهم يركب سيارة دفع رباعي آخر صيحة و يسكن فيلا في منطقة راقية . و ليس من بيننا من يسأل من أين حصل على هذا و هو لم يتول وظيفة في عمره أحيانا و لم يمارس تجارة و لا أي نشاط آخر غير “نشاطه السياسي”؟
إنها لعبة ذكية تعيش على غبائنا عن طريق وسطاء السمسرة (المنافقين) و هم حلقة أخرى من العصابة على تماس أكبر مع الجمهور من خلال وسائط متطورة (وسائل الإعلام و الاتصال المباشر).
إن ما يمكن أن يحسم هذه المعركة اليوم هو جر الكتاب الأوفياء لموريتانيا إلى ساحة المواجهة لإسقاط هذه العصابات الحقيرة و أذيالها الممتدة في كل الاتجاهات و هي مرحلة تحتاج ككل معركة أخرى إلى ذخيرة حية يجب البحث عنها خارج قاموس العادات الهجينة التي تربينا على قمع مبرراتها الجبانة.. لقد فشلت “المعارضة” في حماية الشعب من جشع هذه الأنظمة و فشل الجيش في الإطاحة بهذه العصابة المحترفة التي حولته إلى مؤسسة مدنية بلا سلاح و لا نفوذ و حملت أعلى رتبه في واجهة مزورة، على أكتاف من كانوا ينتسبون إليه بالمفهوم التنظيمي فقط.
لم يعد يمكن أن ينقذ موريتانيا غير كتابها لأن الاحتواء عليها لم يتسن لهذه العصابات إلا بعد تحييد كل مبدعيها و استبدالهم بطوابير مخجلة من الصحافة المزورين و جرائد “اقطع و الصق” و إذاعات الدردشة الحرة و تلفزيونات “دلع بنات البدو” الأشبه بموضة دكاكين النساء المستقبلة لكل زبون بابتسامة على مقاسه.
ـ كشف حقيقة هذه الصحافة المزورة و العمل على إخراجها من ساحة الإعلام التي هيمنت عليها في طوابير من الأميين المدججين برسائل خاطئة إلى مجتمع أفسدته الغواية.
ـ كشف حقيقة العصابات التي حكمت موريتانيا و علاقتها بالمستعمر من جد “الأَمَة” دودو سيك، إلى مكتشف نار نهضتها و ابنها البار ولد داداه، إلى رئيس فقرائها ولد عبد العزيز.
ـ فك الشفرة السحرية التي يحاول المستعمر اليوم من خلالها أن يحمل مسؤولية سيئ إرثه إلى من كانوا يرفضون مشروعه.
ـ تخيير الملوحين بفواصل تاريخية مقطوعة من زمنها بين الاحتكام إلى التاريخ كاملا و بين تجاوزه.
ـ العمل على رفع الوصاية عن الشعب الموريتاني و تلقينه بما يجب أن يعمل: يجب أن نعلم شعبنا كيف يختار لا من يختار.
ـ كشف حقيقة ارتباط الأنظمة و معارضاتها في موريتانيا و تناغم مصالحها في طبيعة اللعبة.
ـ كشف ميكانيسمات التحكم (عند الأنظمة) و التحكم المضاد (عند المعارضة) و تغييب الشعب من الجانبين.
ـ كشف كذبة تحكم الجيش في مصير البلد و توضيح حقيقة تحكم عصابات في مصير الجيش نفسه قبل مصير الشعب و نزع سلاحه من قبل هذه العصابات الخطيرة المشروع و التنظيم.
ـ رسم خارطة رفض بخطابها و أسلوبها و منهجيتها و ثقافتها، تدعم بناء الثقة بين المواطن و وطنه لا بين المواطن و السلطة.
و نفهم جيدا أنها معركة لن يصدقها منافق و “مكائد” شديدة الإحراج لكل حاكم مستبد يذرف دموع التماسيح على مصلحة شعب هو أكثر من يدمرها باسم عدالة هو أقل من يحتاجها على وجه الأرض و ديمقراطية هو أكثر من يكفر بها و دستور و قوانين هو أسوأ من يفهمها و أكثر من يزدريها ..
ليس في هذا جديد يحيرنا و لا قديم يفوتنا، فلم تهتم البشرية بشيء أكثر من عادات الأشرار و سلوك الماكرين و تمصلح الأنذال و ابتذال المنافقين..
لقد أصبحت موريتانيا دكانا يبيع الخدمات لسكانه دون تفريق بين مواطن و غيره :
ـ كل من يدفع يحصل على أوراق البلد من شهادة الازدياد و بطاقة التعريف إلى متريز جامعة نواكشوط إلى رتبة جنرال في الجيش ..
ـ كل من يدفع يحصل على التراخيص الاستثنائية و الخدمات الممنوعة ..
ـ كل من يدفع يستثنى من الإجراءات العامة و القوانين الخاصة ..
ـ كل من “يدفع” يصل وحده أينما يريد و كيفما يريد..
ثمان رجال “أعمال فاسدة” يسيطرون على الصيد منذ أيام معاوية يؤجرون تراخيصهم للبواخر الأوروبية التي تنهب خيرات بحرنا بلا رحمة، ضاربين عرض الحائط بكل النظم و القوانين المعمول بها محليا و دوليا و حين تمس مصالحهم يؤجرون الصحافة و النواب و الأحزاب السياسية الموالية و المعارضة لتطلق نواح الأرامل في كل المحافل، استنكارا لهذا الأمر الجلل ..!
ثلة من أقارب “الرئيس” ولد الطائع نهب كل واحد منهم في وضح النهار و أمام أعين الجميع أضعاف، ميزانية موريتانيا : البنوك، شركات التأمين، شركات الاتصال، اتحادية النقل، تراخيص الصيد، الزراعة، صفقات الدولة، التجارة، الخدمات العامة و حتى “المساويك” و الفحم. و حين يتم استجوابهم تنزل المعارضة الباسلة إلى الشارع مستنكرة الإساءة إلى بناة الوطن و رجاله النبلاء، الشرفاء الذين ضحوا بكل غال و نفيس من أجل نهضة البلاد .!؟
حوالي نفس العدد من أقارب ولد عبد العزيز ملؤوا نفس الفراغ و حيدوا الجميع و هيمنوا على نفس القطاعات بنفس الطريقة و بخطاب مماثل يدعي إصلاح موريتانيا و بناء دعائم نهضتها و حماية مواطنيها..
ألاعيب بلا نهاية تدمر بلادنا بالتدريج، نستسلم لتكرار منطقها القهري في دوامة عجيبة تدور بنا حول نفس النقطة من دون أن يتساءل أي منا إلى أين و لا إلى متى و لا من أجل سواد عيون من!؟
آن لنا أن نتحمل مسؤولياتنا .. أن ندرك أننا لا يمكن أن ندفع فاتورة أغلى مما ندفعه اليوم.. أن نتدارك ما تبقى من موريتانيا قبل فوات الأوان .. أن نتعلم أن نقول لا لكل ما لا نريده .. أن نفهم أن أي قوة في الكون لا يمكن أن تجبر شعبا رافضا، على الإذعان لجورها ..
الأغلبية في موريتانيا خليط هجين من الغوغائيين المرتزقة، لا يهمهم أن يحكم موريتانيا فرنسي أو سنغالي أو مغربي أو هندي؛ المهم أن يكون حاكما فرنسيا مثل كابولاني، يحتاج عملاء بلا شروط، يسلطهم على الناس مقابل فتات يومي يخرجهم من ضائقة آنية .. أو حاكما سنغاليا مثل ولد ابن المغداد (الذي أعلن في مقابلة في آخر عمره في التسعينات) أنه لم يأخذ قط الجنسية الموريتانية و لا أي أوراق وطنية أخرى، يحتاج مهرولين إلى الجحيم لا فرق عندهم بين موريتاني و غيره إلا بالعطاء .. أو عميل لفرنسا مثل ولد داداه أو معاوية أو ولد عبد العزيز، يحتاج مهارات أقلية من المنافقين المزورين، تحول عجزه إلى عبقرية خالدة و عمالته إلى تصوف في الوطنية و رفض الشعب له إلى دليل على ديمقراطيته و سماحة نفسه .
لقد عرفنا تفاصيل سلوك المنافقين، من ولد حيماسو الذي تاب (إلى اللجنة العسكرية لا إلى الله)، مدعيا أنه كان يقول “يسرقوا” لا “نصر” إلى “فيبرير” الذي أعلن على الأثير ـ تماديا في الإثم و العدوان ـ أنه كان يصفق في زمن معاوية بيديه و سيصفق في زمن ولد عبد العزيز بيديه و رجليه.. إلى رئيس محكمة الحسابات (التي لم تحاسب قط إلا مختلفا مع النظام) المتبجح بعبقرية برنامج ولد عبد العزيز الغامض مثل قصة وصوله إلى السلطة و الملخص في كلمتين “رئيس الفقراء” ، متناسين ـ من بلادتهم ـ أنه أسوأ و أغبى شعار حمله رئيس عبر التاريخ ، لكن كيف يكون ولد عبد العزيز رئيسا لغير الفقراء و الجهلاء و الأغبياء و اليائسين، البائسين، المحرومين، الساقطين، العاجزين، المغضوب عليهم من الله و رسوله و المؤمنين؟
إذا كان ولد عبد العزيز رئيس الفقراء التعساء ، فبماذا يفتخر رئيس محكمة “الحسابات الشخصية” و رئيس “الهابا” و مدير الحالة المدنية و معالي وزيرة الثقافة المصرة على تحويل المدن التاريخية إلى منابر للإشادة ببرنامج ولد عبد العزيز و اهتمامه بالثقافة و التاريخ ، لا يدعى لاعتلائها إلا حالم (بتعيين أو عطاء)، متصوف في حب ولد عبد العزيز مثل ولد الكتاب و ولد الشدو و بنت اسنيد ؟
فشكرا للسيدة سيسه بنت بيده لأنها حولت الثقافة في بلاد رئيس الفقراء إلى حفلات راقصة .. و شكرا للجنة تنظيم مهرجان تشيت (مدينة العلماء و الأتقياء) على سخريتها المخجلة من الإسلام و نذكرها فقط (للتنبيه فقط) أن لو كان ما فعلته (رقصة لمرابط صلي) حدث في السويد أو في فرنسا لكان التنديد به اليوم في كل مدينة مسلمة أكبر من التنديد بكل الأفلام و الرسوم المسيئة إلى الإسلام التي اغترفتها أياديهم الحاقدة.. و شكرا أيضا و أيضا لتلفزتنا الوطنية على نقلها الحي و المباشر و المميز جدا كعادتها، لتلك السخرية المؤلمة، أولا لأنها دليل على جهل كل من أصبحوا في مقدمتنا .. و المؤلمة ثانيا لأنها حصلت في تشيت المحافظة، المتبتلة في عزلتها، التي اقتحمت هدوؤها مواكب ضيوف وزيرة الثقافة الراقصة ـ على حين غرة ـ لتربك ساكنتها بهدير الدفع الرباعي و أضواء الكشافات و أصوات الأبواق المزعجة : صراخ أبواق مكبرات الصوت و صراخ أبواق النفاق التي دمرت هذا البلد و حولت علماءه و مثقفيه و شعراءه إلى جوقة مذلة و مزعجة .. كان باستطاعة معالي وزيرة الثقافة الموقرة أن تقيم عرسها في نواكشوط ما دام ضيوفه يأتون من نواكشوط و متفرجوه يأتون من نواكشوط و فرقه الموسيقية تأتي من نواكشوط و كوميديوه و شعراؤه يأتون من نواكشوط و أبناء تشيت المنظمون له يأتون من نواكشوط و فندق استقبال رئيس الدولة في تشيت يأتي من نواكشوط و مياه الشرب على موائد ضيوفه تأتي من نواكشوط …
المهرجانات الثقافية تختلف عن الأعراس الشعبية يا معالي وزيرة الثقافة و تشيت لم تكن يوما حاضنة للثقافة الشعبية بل ظلت منذ نشأتها حاضنة لثقافة نخبوية عنيدة ، ذات رسالة كونية لا تعبر عنها رقصات ضيوفك و لا اسكيتشات فرقك الشعبية المسيئة للإسلام و لا كلمات خطابك و خطاب رئيسك المخجلة التركيب المكسرة اللغة، الخالية من أي بعد ثقافي كمهرجان تشيت، المسيئة إلى العروبة و الثقافة و إلى بلاد ولد اتلاميد و آبه ولد اخطور و ولد محمدي و اليعقوبي و عبد المومن ..
ترى كم نحن محتقرون حين تقوم جماعة من الأوباش الحقيرين بتمزيق وطننا أمام أعيننا دونما رحمة .. تحيد كل شعبنا و نخبه ليقول لها الغوغائيون أن الزمن سيكشف أن ما نعيشه من رخاء اليوم كان يتجاوز إدراك مخيلاتنا : بل سيؤكد الزمن أن أسوأ ما عرفته البشرية عبر تاريخها هو “النخب” الموريتانية اليوم و أن التاريخ لم يعرف شعبا غبيا مثل الشعب الموريتاني و لا سلطة و معارضة مكشوفتي الخيانة و الانحطاط مثل سلطتنا و معارضتنا و لا صحافة من أقحاح الأميين الأثيلين مثل صحافتنا و لا أحزبا و منظمات، غير حكومية و غير شعبية و غير مفهومة على أي وجه آخر مثل أحزابنا و منظماتنا..
لقد تجاوزنا الحدود في كل شيء و تجاوزنا الخطوط الحمراء في كل الاتجاهات الممنوعة:
ـ حارس الجامعة يبيع شهادة المتريز
ـ الشرطي يمد يديه للمارة دونما خجل
ـ القاضي يبيع الأحكام
ـ المدعي العام أصبح خاصا يبيع الزمن بشيكات محمية بقوة القانون الذي يمثله وحده و يتجاوزه وحده أكثر من الشعب كله
ـ تم “نحر” العاصمة نواكشوط و تحويل مفالكها إلى قطع غيار تباع بالجملة و التقسيط :
ـ المرحومة بلوكات،
ـ الفقيد مقر قيادة الوحدة الموسيقية العسكرية،
ـ العزيز المذل مطار نواكشوط الدولي..
ـ سيئة الحظ ، توسعة تفرغ زينه و الحزام الأخضر..
لا شيء يقف في وجه عصابات نواكشوط ..
لا شيء يخجل عصابات نواكشوط
لا شيء، لا شيء في هذا البلد ينذر بغير نهاية حتفنا .
فمتى نقرر أن نكون أو لا نكون؟