ولد سيدميله في مقابلة صحفية جديدة
الزمان أنفو ـ أجرت “صحيفة نواكشوط” مقابلة مع الكاتب الصحفي محمد فال ولد سيدي ميله تحدث فيها عن الشأن الموريتاني الراهن من زوايا عديدة. وهذا نص المقابلة:
صحيفة نواكشوط: ما هو تقييمكم للقاء الرئيس مؤخرا بالصحافة؟
محمد فال: أعتبر أنه كان لقاءً نفَضَ الغبار عن عقود من تهميش هذه الفئة المهمة التي عانت وما زالت تعاني الكثير. وخارجا عن الرسائل التي أريد للقاء أن يبعث بها، ربما كان يشير إلى مرحلة جديدة من التعاطي الإيجابي مع قطاع الصحافة: من خلال توفير المعلومة، وضمان التكوينات، وتنظيم الإشهارات، ومنح الاشتراكات، وتخفيف تكاليف الطباعة، وتنظيم ومعيرة المهنة.
صحيفة نواكشوط: هل وصلتكم دعوة لحضور اللقاء؟
محمد فال: الصحافة (كُتابا ومحررين ومذيعين) كانوا فسطاطين: فسطاط وصلته دعوة كريمة من الرئاسة، وفسطاط وصله اعتذار كريم من الرئاسة. أما أنا فكنت خارج الفسطاطين إذ لم تصلني دعوة لحضور اللقاء، كما لم يصلني اعتذار عن عدم الدعوة لحضور اللقاء. ربما لأنني لا أستحق أو لا أستجيب للمعايير. لكن المهم، بل الأهم هو أن يحصل قطاع الصحافة على لفتة تفتح أملا جديدا في إصلاح بات شبه مستحيل بفعل تراكمات الفساد والإفساد والميوعة والتمييع.
صحيفة نواكشوط: الرؤساء قبل غزواني كانوا يدعون بعض الصحفيين ويتركون البعض دون أن يثير ذلك أي تعليق.. ما سر اهتمام بعض كبار الإعلاميين بتغييبهم هذه المرة؟
محمد فال: صحيح.. الرؤساء كانوا يدعون بعض الصحفيين ويقصون البعض، ويبجّلون بعضهم ويهينون البعض، ويُسْكنون بعضهم في فاخر الشقق ويشردون البعض دون أن يكون ذلك مثار اعتراض، لأن الصحفيين المقصيين والمهانين والمشردين لم يكونوا ينتظرون من أولئك الرؤساء كبير شيء. بل لم يكونوا ينتظرون منهم غير التمادي في طحنهم، بعد أن طحنوا وطنا بأسره، لأن جلهم أجلاف من عتاة الطغاة الذين لا أمل فيهم للإنصاف. وبالتالي لا يستحقون العتب ولا يفهموونه ولا يقدرونه. عندما عتب بعض كبار الإعلاميين على الرئيس غزواني فلأنه يستحق العتب بالنسبة لهم، وهو مهيئ لفهمه وتقديره. هذا كل ما في الأمر حسب اعتقادي..
صحيفة نواكشوط: ذات الأمل هو ما حدا بك إلى كتابة “افسح لنا الطريق، نريد أن نمر”؟
محمد فال: كما تعلم، فقد أحجمت الأقلام، في تلك الأيام التي خيم عليها الخوف والتخوف، عن الكتابة بالصراحة اللازمة عن الوضع لأن “المقالاتيين” كانوا ينتظرون التأكد من وجهة البوصلة قبل المغامرة بمدادهم.
بالنسبة لي، كان لابد من تجاوز عتبة الارتباك وتقديم رؤية واقعية ضمن طلب واضح يناشد الرئيس عزيز بإخلاء الطريق وفتح الممر، أولا لأنه أنهى المأموريتين المحددتين في الدستور (علما بأن كل من طالبوا بمأمورية ثالثة ظلموا أنفسهم وظلموا الشعب الموريتاني)، وثانيا لأن تعنت عزيز ربما كان سيجر الجيش، والطبقة السياسية، والرأي العام إلى التشرذم الذي قد يقود إلى زعزعة الاستقرار في بلاد هشة لا تتحمل الهزات الكبيرة. ثالثا لأن الفائز بالمنصب يوحي بالكثير من الجدية والاستقامة والتروي، ما يعني بصيص أمل نحن في أمس الحاجة إليه.
صحيفة نواكشوط: هذا الأمل كيف سيتحول إلى حقيقة؟ بمعنى آخر، كبف يمكن لغزواني أن يحدث قطيعة مع الماضي المتسم بالاحتقان والتخلف؟
محمد فال: لا يمكن للرئيس الجديد أن يحدث قطيعة مع الماضي إلا إذا ساعدناه كل من موقعه: يساعده الصحفيون بأن يتوقفوا عن تلميعه أو تلطيخه لمجرد البحث عن ثمن، وتساعده الأغلبية بأن تتوقف عن تأليهه لتخرجه من ربقة بشريته ومن نطاق تواضعه ومن نواياه في الإصلاح التي لن تكون مفيدة إلا بالاستماع إلى النقد والتقييم الموضوعي وصوت العقل، وتساعده المعارضة بقبول المساهمة في جو تشاركي من الثقة والاحترام المتبادل، ويساعده الحقوقيون بالتشاور والتعاطي بعيدا عن التشنج.
صحيفة نواكشوط: بخصوص الحقوقيين، فقد وصف الرئيس بيرام النظام بلابرتايد.. هل هناك آفاق للحوار بعد تلك الخرجة الإعلامية التي أثارت الكثير من اللغط؟
محمد فال: كما تعلم، فإن لي علاقات وطيدة بالرئيس بيرام: أستمع إليه ويستمع إلي، وأتلقى منه النصح والاقتراح ويتلقاهما مني، كما أننا نتبادل، تارة، التحليل والتقييم.. لا يعني ذلك أنه ملزم برأيي أو أنني ملزم برأيه. وبالتالي فردي عليك، حول هذا السؤال، لا يمثله، وقد يختلف مع قراءته للأحداث.
بالنسبة لي، فإن ماضي السيبة، وموقعنا بين ممالك إفريقية سوداء بالجنوب، وممالك وأمم بيضاء في الشمال، جعلنا في صميم دوامة العمليات الاسترقاقية (شراء وبيعا وخطفا). أي أن التاريخ والجغرافيا فرضا علينا أن نكون أمة استرقاقية دون استشارتنا. ولا أعتقد أن الحيز يسمح بالتعليق على ذلك الماضي في كل تفاصيله المظلمة، لكن فقط يجب التنبيه إلى أن كل شعوب العالم التي مارست الرق عبر تاريخها بَحَثَ عقلاؤها المستنيرون عن حلول نهائية لهذا المعضل ولترسباته، إذ لا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي، وعن سلام مستديم، وعن مستقبل مضمون دون أن يحس المغبونون تاريخيا بأن تلك الصفحة طويت إلى الأبد، وأن مفهوم المواطنة هو السيد السائد اليوم. إذن ما نحتاج إليه ليس أكثر من عقلاء يعملون على تهدئة الوضع بغية خلق مناخ يسمح بالطمأنينة اللازمة للنقاش وتجاوز المطبات. وقد كنا نعتقد، وما زلت شخصيا أعتقد أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون على رأس قائمة هؤلاء العقلاء إن كان يريد القطيعة الفعلية مع الماضي في جانبه المتعلق بالتأزيم والتسويف. ولعل أولى خطوات التهدئة تتمثل في الترخيص لإيرا ولحزب الرك، لأنهما المتنفس لـ 18% من الناخبين، وأنتم تعلمون أن البالون إذا لم يجد متنفسا ينفجر. هذا الانفجار هو بالضبط ما يجب أن نتحاشاه.. صحيفة نواكشوط: تعتبر إذن أن الترخيص كافٍ لحلحلة الملف؟
محمد فال: الترخيص للأحزاب والمنظمات المحظورة خطوة كبيرة في اتجاه التهدئة. يبقى بعده أن ننسى ما وصف به بعضنا بعضا لكي نهيئ أنفسنا للحل. إذا كان بيرام قد وصف النظام بأنه لابارتايد، فكم من كاتب وفقيه وسياسي وصف بيرام بأنه شيطان وأنه جاسوس وأنه متآمر على البلاد وأنه صهيوني. لا فائدة في نبش هذه التصريحات والأوصاف، بل يجب أن نضعها خلف ظهورنا لننظر حصريا إلى الأمام، ونبدأ مرحلة جديدة يرى فيها الكل نفسه، ويحس فيها الكل بأن الأشواك الموجودة على طريق السلم والتعايش والنماء والازدهار بدأنا بالفعل في انتزاعها. فمسار الاستقرار يبدأ بالضرورة بنزع الأشواك من فوق طريق التعايش.
ولا شك أن خطوات أخرى ستكون ضرورية لتجاوز المعضل سواء تعلق الأمر بتفعيل القوانين، أو بالتمييز الإيجابي، أو بمحاربة الفقر والجهل على مستوى آدوابه وأحياء الصفيح والأحياء الشعبية. صحيفة نواكشوط: بالنسبة لك، من أين يبدأ الرئيس غزواني العملية التنموية؟
محمد فال: موريتانيا دولة جاثمة، منذ 60 سنة، عند المحطة صفر، أو في مكان مّا قريب من الصفر. إذن لابد من معركة يخوضها الرئيس غزواني على عدة جبهات: أولى هذه الجبهات هي جبهة التهدئة، بمعنى التواصل مع الحقوقيين والفاعلين السياسيين لضمان القدر الكافي من “الاستقرار السياسي” و”الاستقرار الحقوقي”، ما سيمكن الحكومة من الانشغال حصريا بالملفات التنموية. أما الجبهة الثانية فهي الإسراع في بناء الإنسان-المواطن من خلال محاربة التقوقع القبلي والفئوي والعرقي، ومحاربة خطاب الكراهية، وتأسيس المدرسة الجمهورية (ببرنامج موحد، وبزي موحد، وبإضافة مادة حقوق الانسان في التعليمين الأساسي والإعدادي)، وبتحريم التعليم الحر على المستويين الابتدائي والإعدادي. فلا شك أن التعليم الحر خلق جيلين لا علاقة بينهما، وبالتالي لا إمكانية لتعايشهما. أما الجبهة الثالثة فتتجسد في المحاربة الفعلية للفساد وأذرعه المتمثلة في الزبونية والوساطة وصفقات التراضي، والقضاء على بؤر ثقافة الغوغاء التي طغت على واجهة الدولة والسياسة والإعلام في العقد المنصرم. بينما سيكون على الرئيس أن يبدأ فورا في تنظيم الجبهة الرابعة المتعلقة بالبنى التحتية العملاقة التي جعلت السينغال (على سبيل المثال) يتقدم علينا، من حيث المظهر، مئات السنين. فلابد من البدء في شق طرق سريعة فخمة، وبناء سكك لميترو النقل، ومد الجسور على ملتقيات الطرق، وغير ذلك من الأمور التي تغير واجهة البلاد والتي تمكنت بلدان فقيرة جدا من تنفيذها بوسائل محدودة.
لكن، يجب التأكيد، المرة تلو المرة، أن كل هذه الجبهات لا يمكن بدء المعركة فيها قبل الانطلاق بالجبهة الأولى: جبهة التهدئة.
صحيفة نواكشوط: هل تعتقد أن الرئيس قادر، خلال مأموريته، على أن يخوض معركة على كل هذه الجبهات؟
محمد فال: حتى هذه اللحظة، ما زلت أثق في مستوى حكمته وتبصره وتعاطيه مع الجميع. هل سيوفق في اختيار الفرق القادرة على الانتصار في كل جبهة؟ هل سيوفق في إبعاد اللوبيات المستفيدة من تأزيم الوضع وفساد المسار؟ هل سيظل صراطه مستقيما أم سيتعرج مثلما وقع مع من سبقوه؟.. تلك هي الأسئلة الكبيرة التي ستجيب عليها الأيام.. وفي انتظار ذلك، نرجو له كل التوفيق.